fbpx

توثيق الألم السوريّ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لكنّ ما يرسخ في النهاية أنّ هذا الجهد المهمّ، “قصّة مكان…”، مثله مثل جهود تأسيسيّة أخرى في توثيق الألم السوريّ، في الفنّ والسينما والمسرح والموسيقى، هو ما ينبغي أن يُتوّج انتقالاً نوعيّاً من نطاق الذاكرة، بما هي عليه دائماً من انتقائيّة ومن قابليّة للنسيان، إلى الأرشيف الصلب، ومنه إلى متحف للألم السوريّ، بل للألم الإنسانيّ ممثّلاً هذه المرّة بألم السوريّين. هنا يكتمل احترامنا لذاك العذاب إذ يتحوّل مدرسة للمستقبل ولأجياله، مدرسةً تدحض الهمجيّة والعنف وتقاومهما.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في “معجم المعاني” نقرأ ما يلي:
“وثّق الشخص: شهد بأنّه ثقة. وثّق الأمر: أحكمه، قوّاه وثبّته وأكّده. وثّق المعلومات: جدّد أصلها وتأكّد من صحّتها”.
فالقرابة، إذاً، بين التوثيق والثقة حميمة ولزاميّة. لكنْ ماذا حين تصطدم مهمّة التوثيق بوضع قائم على الكذب؟ فنحن نعلم أنّ نظاماً كالنظام السوريّ، والأنظمة التي على شاكلته، تستبعد الحقيقة وتعاملها معاملة الكابوس.
الكاميرا، التي توثّق الطبيعة والناس والمدينة والشارع، موضع اشتباه بالتجسّس (ومع هذا لا تتوقّف المحاولات عن اجتذاب السيّاح!). جواز السفر، الذي يوثّق علاقة المواطن بدولته، يُمنح لإرهابيّ أو مرتزق من غير أبناء تلك الدولة، إلاّ أنّه عميل لنظامها السياسيّ.
ويعرف المشتغلون بالدراسات الاجتماعيّة عن “سوريّا الأسد”، وكذلك عن “عراق صدّام” والأنظمة التي على هذه الشاكلة، أيّة صعوبات يواجهونها في جمع المعلومة أو البناء على تراكم معرفيّ مُحقّق.
أبعد من هذا، ذهبت الباحثة الأميركيّة ليزا ويدين، في كتابها “غموض [غموضات] السيطرة”، إلى أنّ الحياة العامّة برمّتها، في سنوات حافظ الأسد، كان يجتاحها الكذب والترميز الكاذب، بحيث جُعل السوريّون يتحدّثون ويتصرّفون “كما لو أنّهم يصدّقون ما يتحدّثونه ويتصرّفونه”.
حافظ الأسد الذي خسر الجولان صار يُلّقب بـ “بطل الجولان”. وهي أنظمة تكاد تكون قوّتها الوحيدة، على هذا الصعيد، في توثيق إضبارات المساجين والمعلومات التي تتّصل بالمعارضين والمنشقّين أو الذين يشتبه بهم النظام فيصنّفهم كذلك، وهذا ما يمكن تبويبه في باب توثيق الإيلام، لا الألم. لكنْ حتّى هنا، وكما بتنا نعلم، ثمّة قدر كبير من العشوائيّة والكسل اللذين يحدّان من فعاليّة الاستهداف الأمنيّ.
لا شكّ أنّ الثورة إذ تكسر النظام تعطّل قدرته على حجب الحقائق أو تزويرها، فاتحةً الباب لرؤية الواقع، ومن ثمّ لتوثيقه. لكنْ في مقابل فعل التحرّر هذا، فإنّ الحرب الأهليّة تعطّل القدرة التي تخلقها الثورة، بإطلاقها الفوضى والعنف العارمين، وإعاقتها التواصل بين المناطق والجماعات، فضلاً عن إعدامها أدوات التحكيم بين متنازعين كثيرين. وهذا إنّما يحاصر فعل التحرّر الذي أوجدته الثورة، ويحاصر بالتالي القدرة على توثيق الواقع والوقائع.
في هذا الكتاب “قصّة مكان قصّة إنسان – بدايات الثورة السوريّة 2011-2015″، الذي أعدّته بجهد وعناية، وباللغتين العربيّة والإنكليزيّة، سنا يازجي وفريقٌ عمل معها ضمّ ندى نجّار وأحمد السهلي ونعمت أتاسي وآخرين، محاولة لعبور هذه الأدغال المتشابكة الثلاثة: العدم الذي يخلّفه النظام الاستبداديّ، والحريّة التي تتيحها الثورة، والحدود التي تفرضها الحرب الأهليّة. وعبر تغطية ما جرى في 50 مدينة وبلدة وقرية من سوريا، يصار إلى توثيق الألم السوريّ، أو بعضه الكثير، في تحوّلات أطواره المتعدّدة.
الجهد هذا الذي بدأ بكتاب “قصّة مكان…”، في موازاة عدد بات كبيراً نسبيّاً من النشاطات والأفلام والمعارض، يمكن إخضاعه لنقد تقنيّ من هنا أو من هناك: فثمّة مثلاً بضعة أخطاء لغويّة كان يمكن تجنّبها، لكنّ ما يفوق ذاك أهميّة بعض التوسّع والإفراط في استخدام تعبير “مجزرة” بالدلالة الإباديّة للكلمة، وكان القانونيّ البولنديّ واليهوديّ رافاييل لِمكين قد وضع، عند نهايات الحرب العالميّة الثانية، تعريفه المعتَمد لاحقاً بالتشديد على وجود “خطّة منسّقة من أعمال متعدّدة بهدف تدمير الأسس الجوهريّة لحياة مجموعات وطنيّة، وذلك بهدف استئصال [تلك] الجماعات نفسها”. إنّ تعابير “جريمة” أو “مقتلة” أو ربّما “مذبحة” قد تفي بالغرض على نحو أفضل وأدقّ.
أمّا تعبير “الشهيد” فقد لا يتجانس كثيراً مع عمل توثيقيّ. ففضلاً عن خلفيّته الدينيّة، المسيحيّة والإسلاميّة، فإنّ أنظمة الاستبداد والتنظيمات النضاليّة على أنواعها أفقدته الجدّيّة والصدقيّة اللتين يُفترض بالتعبير أن ينطوي عليهما. إنّ تعبير “الضحيّة” سيكون، في أغلب الظنّ، أشدّ تمثيلاً للعدوان على مواطنين مدنيّين.
وكان يمكن، تسهيلاً لعمل الدارس والباحث، التنويه بمحطّة فاصلة تمّ الانتقال معها من التنسيقيّات والعمل المدنيّ إلى غلبة العسكرة والحركات الإسلامويّة، أي الانتقال من أولويّة الثورة إلى أولويّة الحرب الأهليّة والإقليميّة.
لكنّ ما يرسخ في النهاية أنّ هذا الجهد المهمّ، “قصّة مكان…”، مثله مثل جهود تأسيسيّة أخرى في توثيق الألم السوريّ، في الفنّ والسينما والمسرح والموسيقى، هو ما ينبغي أن يُتوّج انتقالاً نوعيّاً من نطاق الذاكرة، بما هي عليه دائماً من انتقائيّة ومن قابليّة للنسيان، إلى الأرشيف الصلب، ومنه إلى متحف للألم السوريّ، بل للألم الإنسانيّ ممثّلاً هذه المرّة بألم السوريّين. هنا يكتمل احترامنا لذاك العذاب إذ يتحوّل مدرسة للمستقبل ولأجياله، مدرسةً تدحض الهمجيّة والعنف وتقاومهما.

*مداخلة في ندوة أقامتها “الذاكرة الإبداعيّة” حول كتاب “قصّة مكان – قصّة إنسان”، مساء الجمعة الماضي، في “دواوين” – الصيفي.

[video_player link=””][/video_player]

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!