fbpx

ناضل بصمت ثمّ أنجب… قاتلاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليلاً يبدو السير في مدينة اللاذقية مُريباً، المتاجر المغلقة كلها تتساوى. متاجر بأقفال مُريبة، مدموغة بالشمع الأحمر. شمع النظام السوري الشديد القسوة والرمزية. إنها متاجر الإخوان المسلمين، الأفراد الذين أٌغلقت محلاتهم وحاول النظام إفناء عائلاتهم. هذه المتاجر التي لم تعد تفتح أبوابها للورثة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليلاً يبدو السير في مدينة اللاذقية مُريباً، المتاجر المغلقة كلها تتساوى. متاجر بأقفال مُريبة، مدموغة بالشمع الأحمر. شمع النظام السوري الشديد القسوة والرمزية. إنها متاجر الإخوان المسلمين، الأفراد الذين أٌغلقت محلاتهم وحاول النظام إفناء عائلاتهم. هذه المتاجر التي لم تعد تفتح أبوابها للورثة. يُرفع الموصد الحديدي قليلاً للفئران التي تسرح وتمرح داخل المتجر، وهذا لا يعني أحداً فحتى النظر إلى هذه المتاجر يبدو تُهمة يسعى الجميع لتفاديها. وكأن ثمانينات القرن المنصرم، أي زمن حرب النظام على الإخوان، مرحلة ما زالت تعيش معنا كُلنا. يملك الناس من ذكراها القتلى والمحرومين والخائفين والكثير من الفئران التي تصول وتجول في المتاجر الكُبرى المغلقة إلى الأبد.  

عقوبة إغلاق المتاجر والعَزل الوظيفي، لم تكن الوحيدة التي تستهدف أقارب المعتقلين والمقتولين من الإخوان المسلمين منذ الثمانينات، بل حرص النظام على اذلال هؤلاء بسوقهم إلى الفروع الأمنية مرة أو مرتين كل شهر، واستمرت هذه المراجعات حتى يومنا هذا. لا بل حتى الذين قضوا عقوبتهم بالاشتباه في انتمائهم للإخوان المسلمين، يخضعون لتحقيقات دورية، وشكلت بداية الثورة السورية عام 2011 اضطراباً قاسياً في حياتهم، إذ اعتقلوا وعذبوا، ولزم كثر منهم البيوت من دون أن يخرجوا منها لمدة عامين، خوفاً من رصد النظام تحركاتهم.

أبو فؤاد القاطن في حي صليبة في مدينة اللاذقية يملك أخوه المتوفى متجراً مقفلاً بالشمع الأحمر، على رغم موت الأخ صاحب المحل منذ عام 1983. أبو فؤاد من مواليد 1955 وفقد ثلاثة من أخوته في الثمانينات، الأول قُتل تحت التعذيب في اللاذقية، والثاني اعتقل في حلب أثناء هروبه، والثالث قُتِل في بيروت بأزمة قلبية جراء صدمته بوفاة أخويه واعتقال زوجته وتعذيبها. ويُصر أبو فؤاد على القول: ” أخي الثالث قُتل جراء الصدمة.

البحث عن علاقة أخوة أبو فؤاد بتنظيم الإخوان المسلمين لن يفضي إلى حسم هذا الانتماء، والأرجح أن لا تتجاوز علاقتهم بالإخوان إلا العلاقة التراحمية بعائلات إخوانية، وكثيراً ما يُقال عن رجالٍ قُتلوا واعتقلوا في الثمانينات: “ما بيعرفوا  شي عن الإخوان كلو ظلم“. وتكفي أي علاقة إنسانية صرفة، كإعطاء ربطة خبز لصديق إخواني، أو السلام عليه في الطريق، لجعل كلا الرجلين من تنظيم الإخوان، حيث تم اعتقال الدوائر الأكثر اتساعاً لجعل نبذ الإخوان خلاصاً اجتماعياً. أخبرنا أبو  فؤاد عن أخويه وأنكر أي علاقة لهما بالإخوان بشكل قطعي، وأضاف: “إخوتي أصدقاء للشيوعيين أيضاً، ولم يكنّا أي كرهٍ مثلاً للطائفة العلوية. علماً أن هذه تهمة روجها الأمن عنا، مما أشاع سمعة سيئة عنا أمام العلويين، بل إن صليبة، الحي الذي كان يقطن فيه أخي كان مليئاً بالعلويين، قبل أن يجعل النظام الفصل الديموغرافي أمراً بديهياً. حيث عمم سلوك الإخوان المسلمين على جميع السُنة، فخاف الجميع من الجميع. ولم يحصل الاعتقال إلا على خلفية علاقة صداقة لهما بجارين من الإخوان“.

 

عقوبة إغلاق المتاجر والعَزل الوظيفي، لم تكن الوحيدة التي تستهدف أقارب المعتقلين والمقتولين من الإخوان المسلمين منذ الثمانينات، بل حرص النظام على اذلال هؤلاء بسوقهم إلى الفروع الأمنية مرة أو مرتين كل شهر، واستمرت هذه المراجعات حتى يومنا هذا.

 

لقد انتهت حياة الأخوة بسبب صداقة قوية بأحد قادة تنظيم الإخوان في اللاذقية والأخير لم يحمل السلاح يوماً، إلا أن إنتاج دعاية إرهاب الإخوان وخطورتهم في الثمانينات استدعت من النظام جعل تَمثل وجودهم مرعباً في ذهن الجميع.

عاش أبو فؤاد عمره كله وهو يراجع فرع الأمن العسكري وفرع أمن الدولة في اللاذقية، وغالباً ما تكون مراجعته الأمنية عبارة عن جلوس طويل لساعتين أو ثلاث ساعات على كرسي انتظار من دون أن يخضع لأي استفسار أو سؤال، ويقول: “قبل أي مناسبة دينية أخضع لتحقيق طويل مدته 6 ساعات، وحتى في أيام العيد يتم جلبي للفرع لتقديم أجوبة لحوادث حصلت منذ نحو أربعين عاماً“.

عام 2011، كان أبو فؤاد يخضع لتحقيقات دورية، إلا أن بلوغ ابنه السن القانونية، أجبر الأخير على الالتحاق بالجيش، ما أوقعه بمأزق حقيقي، فالميل السياسي ضد النظام لم يُسعفه لإيجاد طريقة لنجدة ابنه من الذهاب للجيش، وبالتالي فُرز ابنه في فرع الأمن العسكري في اللاذقية. هذا ما جعل الأب في مواجهة تنمر الابن، واعتياده على كونه رجل أمن مستحدث. توترت علاقة أبو فؤاد وابنه محمد، فالإبن بات من أهم عناصر الأمن العسكري. ويقول أبو فؤاد: “لقد عرفوا تاريخ عائلتنا، إلا أنهم استغلوا طيش ابني لإهانتي ووضعوه في قلب المدينة ليقول الجميع إن ابن أبو فؤاد الذي قتل النظام عائلته كلها يعمل مُخبراً أمنياً، لقد بدأ الجميع في الجامع ينظرون إلي بريبة“.

لم يكن محمد مجرد عنصر أمن، بل كان مقاتلاً شرساً من أجل النظام، لا ينزع صورة بشار الأسد أو أخيه ماهر عن صدره، ورفع العلم السوري الرسمي وصورة الأسد الأب على واجهة شرفة المنزل، هذه الصور التي حاولت المناطق السنية تجنبها طوال فترة الثورة. حاول محمد فرض “هيبته” على الجميع باسم النظام السوري، لدرجة أن الأب (أبو فؤاد) انقطع عن الصلاة أثناء خروج التظاهرات مثلاً، إذ كان اسم ابنه يتداول بوصفه مُخبراً مؤذياً، وبعض الشبكات الإعلامية التابعة للمعارضة دعت إلى قتله.

هذا التناقض في البيت الواحد انتقل إلى حالٍ أقسى مع مرور الزمن، إذ اعتاد الأبُ على سلوك الابن، واجتماعياً تم تقبل الأب بوصفه عاجزاً أمام ابنه، وحرص الابن على اذلال أبيه وتنميطه شيئاً فشيئاً: “أجبرني ابني على وضع صورة بشار الأسد داخل متجري الصغير، بحجة أن رئيس الدورية التابع لها سيزورني، وعدم وجود الصورة، قد يسبب حرجاً كبيراً للابن،لا بل صرتُ أوزع الهدايا من أجل راحة ابني داخل الفرع لكل مرؤوسيه. انكسار أبو فؤاد جعله يغلق متجره منذ عامين تقريباً، ويجلس في بيته ولا يخرج منه، ففكرة أن ابنه يعمل مع النظام باتت ثقلاً عليه.

تعرض أبو فؤاد في النهاية لمقاطعة اجتماعية واضحة، فبعد سنين طويلة من النضال الصامت، فعليه أن يواجه حقيقة أن ابنه “شبيح” مع النظام الذي قتل إخوتهزوجة أبو فؤاد التي التقيناها أيضاً تدافع عن ابنها من منطقٍ آخر، فهي ترفض فكرة أن ابنها متنمر أو يسعى لأي مجد شخصي جراء ما يقوم به إذ قالت: ما أن وصل ابني إلى الأمن العسكري حتى أخذوه إلى قرى جبل الأكراد، وشاهد مقتل أصدقاء له من قبل المعارضة، وأصيب لأكثر من مرة، ما جعله مضطراً للدفاع عن النظام ضد معارضة تُريد قتله “.

يعلق محمد في غرفته صور أصدقائه الذين قُتِلوا في مواجهة قوات المعارضة. أبو فؤاد، تعرض لجلطة في قدمه تمنعه من السير جيداً، ويرفض العلاج ويتمنى الموت، فيما لا يتوقف عن الصلاة، فهو فقد ثلاثة من أخوته بسبب النظام الذي بات ابنه من خدامه المخلصين. أما الأم فلا تريد سوى أن يبقى ابنها وزوجها على قيد الحياة.

 

إقرأ أيضاً:

اللاذقية تسأل عشية الضربات.. أين الروس؟

قصّة أم قتيلين سوريَّين… الأوّل مع الثورة والثاني مع النظام

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!