fbpx

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (5)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لقد تكشّف، مرّة أخرى، أنّ فعاليّة الطوائف، لا سيّما حين تجنّ وتتكارهُ، أكبر كثيراً من فعاليّة التشابه الطبقيّ والإيديولوجيّ وما قد يستتبعه من توافق في السياسة الخارجيّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت الثمانينات مُرّة ومؤلمة على غير صعيد. أمين الجميّل، بوصفه رئيس الجمهوريّة، أراد أن يستحوذ على قدْر من القوّة يناظر قوّة الأطراف الداخليّة والخارجيّة التي تتقاسم المساحة اللبنانيّة. البداية كانت الإمساك بزمام العاصمة، التي لا يكون الحكم حكماً من دونها. الجميّل سريعاً ما ألّب العاصمة عليه. ذاك أنّ أعمال الدهم والخطف والتعذيب حرمت سلطته التعاطف المأمول ومنحتْه لـ “الانتفاضات” اللاحقة على تلك السلطة.

الرواية الرسميّة قالت يومذاك إنّ “الدولة” تنوي تعقّب “البؤر” الخطرة ووضع اليد عليها، وضبطَ مخازن الأسلحة التي خلّفها المسلّحون الفلسطينيّون وراءهم. إلاّ أنّ السلوك هذا بدا، لدى ممارسته، عقاباً جماعيّاً للسكّان. فهو لم يحاول الاستثمار في تجربة المواطنين المؤلمة مع السلاح والمسلّحين، ولم يحاول استشارة القوى المحلّيّة وتكليفها التوسّطَ في عمليّة كهذه، علماً بأنّ السياسة في لبنان لا تقوم إلاّ بالتوسّط مع سلطات ومراتب أهليّة. زاد الطين بلّةً انتشار العتم نتيجة انقطاع الكهرباء المديد. هكذا لم يرتسم الإمساك بالعاصمة شرطاً لقيام دولة ترعى أمن السكّان ومصالحهم. لقد فُسّر بوصفه تعبيراً عن انتصار مسيحيّ على مسلمين مهزومين. حصول ذلك بعد مذبحة صبرا وشاتيلا أكّد للكثيرين أسوأ مخاوفهم.

السلوك هذا، فضلاً عن عجرفته، انطوى على قدر غير ضئيل من الجهل بـ “الدولة” واشتغالها التوافقيّ في لبنان. كانت الفرضيّة الضمنيّة التي استند إليها السلوك المذكور أنّها تعكس إجماعات عميقة وراسخة في المجتمع، وأنّها تستمدّ قوّتها من ذاتها ومن الطلب المتساوي عليها. كلّ التاريخ اللبنانيّ الحديث يدحض فرضيّة كهذه.

“جيش أمين الجميّل يتسلّط على المسلمين” كان العنوان شبه الحقيقيّ، شبه التحريضيّ، الذي رفعته أصوات لم يُرد أصحابها للدولة، أيّة دولة، أن تنهض. الأصوات تلك جاءت من الداخل ومن الخارج معاً، لكنْ غالباً ما بدا الداخل، وهو صاحب المعاناة، صدى للخارج المتفرّج والسينيكيّ. لقد تمنّوا لها أن تخطىء لأنّ خطأها هو البرهان الوحيد على أنّهم مصيبون. غير أنّ السلوك الرسميّ هذا والتنديد به كانا يُحرجان الزعامات السنّيّة التي اختارت التعاون مع العهد الجديد. التأييد الأميركيّ والسعوديّ للعهد بات أقلّ من كافٍ لحفز الزعماء المسلمين على المضيّ في تعاونهم معه.

لقد تكشّف، مرّة أخرى، أنّ فعاليّة الطوائف، لا سيّما حين تجنّ وتتكارهُ، أكبر كثيراً من فعاليّة التشابه الطبقيّ والإيديولوجيّ وما قد يستتبعه من توافق في السياسة الخارجيّة.        

مع ذلك راحت الحقيقة التي فرضت نفسها في 1975 تجدّد ظهورها في الثمانينات: إنّ انهيار الدولة في بلد كلبنان، محكومٍ أصلاً، ولحسن الحظّ، بضعف الدولة، ليس قوّةً لأيٍّ من مكوّنات المجتمع. يصحّ هذا خصوصاً في السنّيّة المدينيّة المنزوعة الأظافر. فهي شاهدت “انتفاضة 6 شباط” 1984 فوق “أرضها”، إلاّ أنّها بدت مهيضة الجناح، عاجزة وحائرة بين طرفين لا تثق بأيّ منهما كما تخشاهما معاً.

أحوال طرابلس…

في 1985 عملت تلك الحقيقة على نحو ساطع. فـ “الاتّفاق الثلاثيّ”، الذي عقدته دمشق وأرادت فرضه على بيروت، جاء يلخّص المسيحيّين بإيلي حبيقة، إلاّ أنّه لم يهتمّ حتّى بتلخيص السنّة على ذاك النحو المُهين. لقد اكتفى بإلغائهم. المسلمون، من غير تمييز، مُثّلوا بالزعيم الشيعيّ نبيه برّي والزعيم الدرزيّ وليد جنبلاط.

لكنْ قبل 1985، قدّمت مدينة طرابلس صورة وافية عن واقع الحال. ففي وقت يرقى إلى أواخر 1982، تأسّست “حركة التوحيد الإسلاميّ” نتيجة اندماجٍ بين أربعة فصائل إسلاميّة راديكاليّة كلُّ واحد منها يعبّر عن حيّ شعبيّ أو عدد قليل من الأحياء. حركة التوحيد – التي تزعّمها شيخ متزمّت اسمه سعيد شعبان – كانت من ثمار الثورة الفلسطينيّة بعد مغادرة مقاتليها بيروت وتركّز بعضهم في طرابلس. المال والسلاح اللذان وفّرهما ياسر عرفات تضامنا مع الله الذي استنزله شعبان فأنتجوا الحركة المذكورة. في 1984، أقدم “مجاهدوها” على نزع تمثال عبد الحميد كرامي عند مدخل المدينة الجنوبيّ وأحلّوا محلّه اسم “الله” وعبارة “طرابلس قلعة المسلمين”. رشيد، ابن عبد الحميد، الذي سبق أن أعلن “قطع العلاقات” مع “دولة بشير الجميّل”، أصبح لاجئاً في “دولة الله” الذي انحاز رشيد دائماً إليه. الله، على ما يبدو، كافأه بالانحياز إلى سعيد شعبان. حصل هذا فيما كان كرامي في أمسّ الحاجة إلى عون رفيقه الأعلى.

عوامل ثلاثة كانت تحرّك الخنجر المغروز في الجرح الطرابلسيّ، فيما رشيد صامت يعتصم بحبل الله: الأوّل أنّ المدينة جُعلت ساحةً لحرب مدمّرة بدأت أواخر 1983 بين ياسر عرفات وحافظ الأسد: الأوّل يريد أن يستخدمها القاعدة البديل عن العاصمة، والثاني يريد أن يستكمل ما بدأه الإسرائيليّون بإجلاء المقاتلين الفلسطينيّين عنها بعد إجلائهم عن بيروت. مئات القتلى سقطوا شهراً بعد شهر، وأحياءٌ كاملة في شمال المدينة حُوّلت إلى كرتون، لكنّ نار الأسد صُوّرت نوراً مقذوفاً في صدر شعبان، نوراً ينقله من صفّ المهزومين الفلسطينيّين إلى صفّ المنتصرين السوريّين. أمّا العامل الثاني فأنّ “حركة التوحيد” جايلتْ “حزب الله”، وشاركته دينيّته وأصوليّته والكثير من شعاراته السياسيّة والجهاديّة، إلاّ أنّ الرعاية التي حظي بها الحزب الشيعيّ قابلها الإخضاع الدمويّ للحركة السنّيّة التي سبق لها أن ارتكبت التضامن مع مدينة حماة السوريّة عام 1982. وأمّا الثالث فكان اعتصار المدينة بين باب التبّانة، المنطقة – الرمز لشبيبة سنّيّة غلبت عليها الأصول الريفيّة ثمّ استمالتْها التنظيمات الأصوليّة، ومنطقة جبل محسن المأهولة بسكّان علويّين تعاظم حجمهم ووزنهم في موازاة تنامي الدور السوريّ. في 1980 تشكّل في هذا الوسط “الحزب العربيّ الديمقراطيّ” بقيادة علي عيد، المقرّب يومذاك من رفعت الأسد، شقيق حافظ. في 1986، وبمعونة الحزب المذكور، ارتكب الجيش السوريّ مذبحة أسّست لصدع طرابلسيّ بات رأبه أقرب إلى الاستحالة. التحارب السنّيّ – العلويّ بات مذّاك أحد أهمّ فصول التاريخ الطرابلسيّ.

في هذه الغضون، وفي 30 نيسان (أبريل) 1984، كُلّف رشيد كرامي بتشكيل حكومة جديدة أعقبت إخراج “جيش أمين الجميّل” من بيروت وإلغاء اتّفاقيّة 17 أيّار. اللوحة بدت محزنة جدّاً: الجميّل مطرود من عاصمته وكرامي لاجىء في مدينته. بدا واضحاً أنّ السلطة، بل السلطات، في أمكنة أخرى. في 1 حزيران (يونيو) 1987 اغتيل رشيد بطوّافة عسكريّة. آل كرامي اتّهموا “القوّات اللبنانيّة”، ولا زالوا يتّهمونها. “القوّات اللبنانيّة” اتّهمت وتتّهم الأمن السوريّ.

بيروت وصيدا والآخرون

الطرابلسيّون الآخرون، الذين أدّوا هذا الدور أو ذاك في حياة مدينتهم، عولج بعضهم بالمسدّس والعبوة وبعضهم الآخر بالشمع الأحمر. عبد المجيد الرافعي لجأ إلى العراق في 1983 ولم يعد إلى طرابلس إلاّ بعد إطاحة صدّام حسين عام 2003. بين عودته ووفاته في 2017 انشغل بإصدار البيانات والتصريحات عن “المؤامرة الأميركيّة – الإيرانيّة على العراق”. أمين الحافظ لم يعد يُسمع له صوت منذ تجربته الأليمة في 1973 حين قوطع نظراً لـ “خيانته” الإجماع الإسلاميّ. الحافظ توفّي في 2009.

قادة “الفصائل” و”المحاور” لم ينعموا بنهايات أفضل. فاروق المقدّم لجأ إلى جونيه حيث بقي حتّى وفاته في 1999. في هذه الغضون صار نصيراً متحمّساً لـ “لبنان أوّلاً” ولـ “جيشنا الحبيب” الذي انتفض، هو نفسه، عليه عام 1969. قادة “التوحيد” ومتفرّعاته قُتلوا: عصمت المراد في 1984. خليل عكّاوي في 1986… الذين لم يُقتلوا سُجنوا وعُذّبوا ثمّ بايعوا “سيادة الرئيس القائد حافظ الأسد”.

الطرابلسيّون غير السياسيّين الذين برزوا في هذا الحقل أو ذاك عوقبوا أيضاً: الصحافيّ سليم اللوزي كان الأبكر، إذ خُطف وقُتل على نحو شنيع في 1980. الشيخ صبحي الصالح اغتيل في 1986… “المسألة القوميّة”، في طرابلس، كانت حَرفيّاً من صنف الدسم الذي يقيم فيه السمّ.

أحوال سياسيّي بيروت لم تكن أفضل. في 1985 سقطت قذيفة على منزل صائب سلام لجأ بعدها إلى جنيف. تلك كانت رسالة الاغتيال الثانية. سلام عاد إلى لبنان في 1994 لكنّه لم يلبث أن غادره إلى المدينة السويسريّة التي توفّي فيها عام 2000.

شفيق الوزّان لزم بيته إثر سقوط 17 أيّار. هو أيضاً اتُّهم بما يشبه التّهم التي وُجّهت إلى سامي الصلح وأمين الحافظ. سمّى نفسه “مظلوماً” وكان كذلك. رحل في 1999. عبد الله اليافي كان قد توفّي بصمت في 1986.

المعاناة شملت قادة “الفصائل” و”المحاور” أيضاً: ابراهيم قليلات غادر بيروت إلى أوروبا في 1985 إثر هجوم عسكريّ شنّته باقي الميليشيات عليه وعلى حركته. الأمر بدا يومذاك، لبيروتيّين لم يتعاطفوا قبلاً مع قليلات، تصفيةً شيعيّة – درزيّة مدعومة من سوريّا لموقع سنّيّ. الناصريّ الآخر كمال شاتيلا لجأ إلى القاهرة في 1984 وعاد تائباً في 2000 مكتشفاً فضائل “سيادة الرئيس الدكتور بشّار الأسد”. الفتحاويّ مصطفى الترك لجأ إلى فرنسا…

الحدث الأهمّ حصل في 1989: مفتي الجمهوريّة الشيخ حسن خالد اغتيل أيضاً. إحدى الروايات التي شاعت تقول إنّه اصطدم، قبيل اغتياله، بنائب الرئيس السوريّ يومذاك، عبد الحليم خدّام. كان موضوع المشادّة مدينة طرابلس وكيفيّة التعامل معها.

في صيدا اختلفت التجربة بفعل موقع المدينة، ولكون حدثها ذا وقع إسرائيليّ أكثر منه سوريّاً. في 1985، انسحب منها الإسرائيليّون، لكنّ الجيش والسلطة اللبنانيّين مُنعا من التوجّه إليها، على رغم إلغاء 17 أيّار. إنّهما “انعزاليّان”. هكذا بقي التحرير نصف تحرير لأنّه لم يُفض إلى ارتباطٍ بالمركز الوطنيّ. الفراغ الذي تركته إسرائيل ولم تملأه الدولة اللبنانيّة ملأته فوضى الميليشيات على أنواعها. في مقابل “الانعزاليّة” قُدّمت صورة باهرة عن “الوحدويّة”. أمّا الصراع مع “القوّات اللبنانيّة” في شرق صيدا فأضفى على تلك الفوضى لوناً طائفيّاً حادّاً.

المهندس مصطفى سعد، الذي سبق أن ورث أباه معروف منذ اغتياله في 1975، بات ما يشبه الرمز للسياسات المقاوِمة للإسرائيليّين ثمّ للارتباط بمركز وطنيّ. لكنّ مهنة المقاومة كانت قد تحوّلت، في تلك الغضون، إلى مهنة شيعيّة. دور مصطفى صار أقرب إلى وظيفة فولكلوريّة، إذ الفعاليّة حكر على “حزب الله”. لقد بات سعد “أهمّ” “الحلفاء” السنّة للحزب المذكور. في 1995 نجا من محاولة اغتيال، لكنّها شوّهته وأضعفته. توفّي في 2002، فحلّ محلّه، في الزعامة وفي قيادة “التنظيم الشعبيّ الناصريّ”، شقيقه أسامة. لكنْ كي يبقى آل سعد ديكوراً سنّيّاً للمقاومة الشيعيّة، كان لا بدّ من ضوابط وكوابح. “حزب الله” أنشأ “سرايا المقاومة” ميليشيا تابعةً له، ومنذ 1982 كان قد أسّس “تجمّع العلماء المسلمين” واضعاً على رأسه شيخاً صيداويّاً “ما بعد كولونياليّ” يؤمن بأنّ الإسلام عاش واحداً لمواجهة إسرائيل والإمبرياليّة، فيما التاريخ منذ سقيفة بن ساعدة لزوم ما لا يلزم. اسم الشيخ ماهر حمّود.

في المقابل، تراجع دور نزيه البزري، منذ “حرب السنتين”، إلى الصفّين الثاني والثالث. البزري ليس ممّن يقاتلون. إنّه أحد “المسلمين المقتولين”.

الريف السنّيّ لم يكن بعيداً عن الوجهة هذه: ناظم القادري، أبرز زعماء البقاع الغربيّ حينذاك، اغتيل في 1989. في عكّار، حصل التحوّل الأبرز: آل المرعبي، الذين احتكروا التمثيل السنّيّ حتّى حرب السنتين، أُخرجوا من السياسة. ما ساعد على ذلك تفتّت ملكيّاتهم وتنازع أجبابهم وعجزهم عن تقديم وجوه مقنعة تواكب التحوّلات ولو شكلاً. مرعبيٌّ أو اثنان نجحا في استرضاء ضابط الأمن السوريّ واحتلال موقع ثانويّ في سلّم الوجاهة. ذلك لم يكن على الإطلاق “ثورة اجتماعيّة” تُحلّ محلّ “البك” أبناء فلاّحين أو ممثّلين لمهن وكفاءات حديثة. مَن حلّوا محلّ “البك” كانوا رؤساء عشائر تقيم قريباً من الحدود اللبنانيّة – السوريّة. بعضهم يعمل في التهريب وبعضهم في تجارة المواشي.

 

إقرأ أيضاً:

الصراع على الزعامة السنية 4

الصراع على الزعامة السنية 3

الصراع على الزعامة السنيّة في لبنان (١)

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (2)

 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.