fbpx

مقتطفات من سيرة واقعيّة: لو أنّني دكّة أسنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سمّاني معظم الناس بدلة أسنان، أو طقم أسنان، ولا يخفى عليكم أنَّ هاتين التسميتين مترادفتان، وتؤدّيان المعنى نفسه.. والفكان يشكِّلان بدلةً أو طقماً، وعلى رغم ذلك فإنني أفضِّل اسم (الدكّة) التي يشترك فيها المصريون والحلبيون، لأنَّني صُنِعتُ ونشأت وترعرعت في مدينة حلب، وتنقّلت فيها من فم إلى آخر، وذقت فيها الحلو والحامض واللفَّان، فضلاً عن الحنظل والمرّ والعلقم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 

هذا المقال هو رواية متخيلة لوقائع شهدتها مدينة حلب خلال العقدين الفائتين ويحاول الكاتب السوري محمد امين ناشر النعم المزج بين الواقع والمتخيل من خلال سيرة طقم أسنان..

 

سمّاني معظم الناس بدلة أسنان، أو طقم أسنان، ولا يخفى عليكم أنَّ هاتين التسميتين مترادفتان، وتؤدّيان المعنى نفسه، فأسنان الفكّ العلوي هي “الجاكيت”، وأسنان الفكّ السفلي هي البنطال، والفكان يشكِّلان بدلةً أو طقماً، وعلى رغم ذلك فإنني أفضِّل اسم (الدكّة) التي يشترك فيها المصريون والحلبيون، لأنَّني صُنِعتُ ونشأت وترعرعت في مدينة حلب، وتنقّلت فيها من فم إلى آخر، وذقت فيها الحلو والحامض واللفَّان، فضلاً عن الحنظل والمرّ والعلقم.

كنتُ وما زلت أشعر بأن أرومتي أرستقراطية، حتى لو أنَّني انتهيت في فم صعلوك معتَّر. إذ لم يصنعني مصلِّح أسنان قرباطي، أو نَوَري، أو جنكنة، كما لم يشكِّلني حلاقٌ عتيق من السوقة يحاجج دائماً بأنَّه لا فرق بين كرسي طبيب الأسنان، وكرسي الحلَّاق، وأنَّ كرسي الحلاق أشمل وأوسع، فهو إضافةً إلى حلاقة شعر الرأس والعانة يطهِّر الأولاد، ويعالج الأسنان، ويداوي الممروضين والمصروعين! بل صنعني الدكتور عمر فاتح عاصي، أقدم طبيب في المدينة، وشيخ أطباء الأسنان فيها.

طبعاً ستتساءلون: وهل طبيب الأسنان هو من يصنع دكَّة الأسنان؟ وسأجيبكم بأنه في الأربعينات والخمسينات، وبداية الستينات لم يكن تقسيم العمل في المهن قد تمايز، كما هو الآن، فقد كان الطبيب هو من يصنع مستلزماته من أسنان وأضراس وجسور وتيجان، ولم تكن مختبرات الأسنان ظهرت إلا بعد ذلك الحين.

في منتصف الستينات سيزور عيادة الدكتور عمر الصناعيُّ الوجيه (ع ــ هـ) الذي فقد أسنانه جميعها بمرض السكري بعد أن أصابه فجأة إثر سماعه خبر تأميم مصنعه. ظلَّ متماسكاً كأنَّه جبل. لم يرفَّ له رمش، ولم تختلج له عضلة من عضلات الوجه، وظلَّت أعضاؤه شامخة راسخة ما عدا المعثكلة (البنكرياس).

بعد فخري الأول بصانعي، شعرت بفخر ثانٍ بصاحبي، فأن تكون في فم هذا الرجل النبيل “الجنتلمان”، ابن الأصل والحسب والنَّسَب، وصاحب الأيادي البيض على البشر والحجر، هو مما أُحسد عليه لدى بقية دكّات الأسنان ولا ريب.

إلا أنني لم أتخيَّل أنني سأعمّر حتى هذه اللحظة، فقد كنت أسمع من خلال الأحاديث المتداولة أنّ رجلاً بهذا المرض، وبهذه النسبة العالية من السكَّر، لا يُتاح له من العيش أكثر من سنتين إلى ثلاث سنوات. غير أنه بحنكته وحسن تقديره والتزامه ودقته وعدم تجاوزه، استطاع أن يمدّ في أجله إلى أكثر من 15 سنة أخرى. أستغفر الله! بل بتقدير الله وحكمته وقضائه، فأنا مؤمنة أولاً وأخيراً، وأضبط كلامي وأزن ألفاظي.

السوق العتيق في حلب – 2012

هل أسترسل بالحديث عن صاحبي؟ عن رصانته وصرامته وجديته، وصمته وحكمته، وعن بعض التعبيرات الكوميدية التي كان يطلقها بين الفينة والأخرى، فيُضفي جواً من الألفة والمحبة إلى كل من يحضر ويستمع. نعم يحتاج سرد ذلك إلى مجلّد كامل، لكن حسبي أن أذكر من كلّ ذلك ترداده الكوميدي الحزين للبيت الشعري التالي محوّراً إياه:

الحزب يرفع بيوتاً لا عماد لها    والحزب يهدم بيوت العزِّ والكرم

أما عندما كان يشاهد في أواخر عمره تلك الندوة التلفزيونية التي كانت تتكرر في الوقت نفسه من كلِّ سنة، وتضم أعضاء من الجبهة الوطنية التقدمية، ليناقشوا منجزات الحركة التصحيحة المجيدة، ومناقب مفجِّرها الأب القائد، وليبيِّنوا فضائله وكراماته، فغالباً ما كانت دكّة الرفيق خالد بكداش تنزاح أثناء كلامه، وكأنَّها تريد أن تفرّ من فمه، فكان معلمي يقول عندئذ: “خراي عليك بنص دكتك يا ساقط”. وههنا كان يُغشى عليّ من الضحك.

عندما توفي صاحبي ومعلمي ترحَّمْت عليه من كلّ قلبي، وقلت: إيه يا حاج (ع ــ هـ) روح! الله يبيِّض وجهك في الآخرة مثلما كنت، في الدنيا، تبيّضني وتعتني بي في كل يوم، وتضعني في الكأس بكل أناقة وأكابرية، ليس كما آلت إليه حالي مع عبدو إسماعين، وابن الأكتع كسَّر الله أيديهما.

بعد وفاته بيوم أو يومين، ما عدت أذكر، سألتْ مروة أخاها الكبير:

ــ خاي! إيش بدنا نعمل بدكّة الوالد الله يرحمو؟

ــ منعطيها لشي فقير ينتفع منَّا.

ــ من وين بدنا نجيب فقير لثتو وحنكو على قياس تم بابا الله يرحمو؟

ــ قصدي منعطيها لشي فقير يبيعها، ويستفيد من حقها؟

ــ أعوذ بالله! من إيمتا صاروا يبيعوا دكات السنين؟

ــ يا خيت! غالب الناس الدراويش بتشتري دكّاتها من سوق الجمعة.

لدى سماعي هذه الكلمات كان استغرابي يفوق استغراب مروة مئات الأضعاف، أنا التي كنتُ أهيِّئ نفسي لأدفن مع صاحبي، كما تُدفن بعض نساء الهندوس مع أزواجهن. ولكن أن أُباع! فهذا ما لم أفهمه! ولم أتصوره! فحتى هيرتا موللر لم تفكّر ببيع دكّة والدها بعد أن أعطتها المستشفى دكته ونظاراته، علماً أنها كانت تعيش في ظل الفقر، وتحت خط أسوأ أنواع الديكتاتورية.

في ثاني يوم جمعة بعد هذه المحادثة مباشرةً كنتُ في سوق الجمعة متربعة على بسطة أبي أحمد الرج من عندان. كانت البسطة مجرد كيس “نايلون” كبير مفروش على الأرض، ومصفوفة فوقه دكّات الأسنان بشكل غير منتظم، نظراً لكثرة الأيادي التي تأخذها وتجربها ثم ترجعها وتضعها كيفما اتفق.

كان أبو أحمد في منتصف الستينات، يلبس مكلابيّة بُنّيّة، قد لفحتها الشمس، فأصبح لونها البُنّي فاتحاً في مواضع عدة، وكانت الأزرار المفتوحة لياقةً متسخة تُظهر شعر صدره الكثيف الأبيض، وكان حاجباه كثين أطول من حاجبي عبد الرحمن آل رشّي، وكان شعره الأبيض جثلاً كثيفاً لا يشي بعمره على الإطلاق. أمّا بشرته فكانت على العكس من المكلابيّة، فاتحةً بيضاء في أصلها لكن ضربتها الشمس فغدت مائلة إلى البرونز الغامق. لم يكن أبو أحمد حافي القدمين، ولكنه كان ينتعل “شحَّاطة” بلاستيكية، خيطت فردتها اليسرى من مكان شقها بسلك معدني رفيع.

ظللتُ في بسطة أبي أحمد قرابة الشهر قبل أن يبيعني، وخلال هذا الشهر تنقلتُ بين أيدٍ وأفواهٍ، على سبيل التجريب، بما لا يُعدّ ولا يحصى، وبتُّ أشعر خلال تلك المدّة بأنني “قحبة” في المحل العمومي في بحسيتا، وأنَّ أبا أحمد هو “البترونة” التي تفاصل وتساوم على جسدي، وفي مقابل ذلك اكتسبت من العلوم والمعارف ما فاق معارفي كلها خلال ما يقارب العقدين من عمري، عرفت أنَّ هذا الكبير الطاعن في السن يزاول مهنة البيع في سوق الجمعة منذ أكثر من ربع قرن، وأنَّه مارس جميع الاختصاصات، بدءاً من بيع الأنتيكات، ثم الأبواب والشبابيك المستعملة، وبعدها الحنفيات والأدوات الصحية والحمامات المستعملة، وانتهاءً ببيع دكّات الأسنان. كان يتنقل من سوق المسلمين يوم الجمعة، إلى سوق المسيحية يوم الأحد، ثم إلى سوق اليهود يوم الخميس، وعرفت من أحاديثه عن تجاربه أنَّ أهل هذه الأسواق جميعاً كانوا متعايشين متناغمين من قبل أن يُبتدع مصطلح (الوحدة الوطنية)، فضلاً عن (الجبهة الوطنية التقدّمية)، وأنَّه كان شاهداً على تغيّر أمكنة هذه الأسوق، فسوق الجمعة الذي كان يمتدُّ من باب المقام إلى باب النيرب، انتقل إلى ما بين كرم الميسَّر ونهاية طريق الباب، وسوق الأحد الذي كان يعقد من مخفر قسطل الحرامي إلى الجابرية، اندثر ولم تقم له قائمة، أما سوق الخميس الذي كان يُقام في بندرة الإسلام، فانتقل، بعد أن غادر اليهود مدينتهم الأثيرة، إلى أنقاض حي المشارقة عند ساحة الرئيس، وصار اسم السوق من يومها (سوق الخماخيم) أو (سوق الحرامية). لأنَّ بضاعته كانت الأسوأ، وما كان جيداً منها فكان على الأرجح مسروقاً أو معفشاً.

كان سوق الجمعة كوناً مصغّراً انطوى فيه العالم الأكبر، وكانت المفاجآت فيه كثيرة! فكم من كنوز ودرر وتحف بيعت بتراب الفلوس، وبزهد فيها، بل وحتى باشمئزاز منها ينضح جهلاً وغباءً! وكم من درر وتحف وكنوز اشتُريت بذلك التراب من الفلوس من أناس يقطرون ألمعية وخبثاً ودهاءً! كم من مقتنياتٍ كان يليق بها أن توضع في المتحف فإذا بها مرمية فوق كيسٍ بلاستيكي تتقاذفها الأيدي والأفواه! أليس من الفجيعة أن تكون هذه نهايتي؟ ألم يكن من الواجب بعد أن غدوت جزءاً من ذلك الرجل الوطني الاستثنائي العملاق أن يخصَّص لي مقعد في المتحف، ويُنظر إليّ من وراء البلور، فإذا بالرجل المسكين يُدفن من دون أي اعتبار وتقدير، وكأنَّه لم يسند خزينة البلد في يوم من الأيام، ليحميها من الانهيار! وإذا بي أُرمى فوق كيسٍ من النايلون على الأرض ما بين الغبار والأيدي والأفواه!

في الأسبوع الأول، من البسطة، شاهدت أستاذ مدرسة ابتدائي أو إعدادي من المتقاعدين ممن تساقطت أسنانهم، وهم يعلِّمون الأجيال تلو الأجيال، وقد وقف على استحياء، ينظر يمنة ويسرة، ويستطلع في وجوه الحاضرين والمتسوِّقين! جرَّب الدكّة الأولى، وعضّ بها. ناوله أبو أحمد مباشرة مرآة صغيرة، لكي يتملّى مظهره ومنظره. لاحظ الأستاذ أن فمه امتدَّ إلى الأمام، فغدا ككلب الدوبرمان، وسرعان ما أخرج هذه الدكّة مرعوباً، ووضعها في مكانها، ثم تناول أخرى، فانخسف فمه كأنَّه الهوتة، ولكن عندما جرّب الثالثة حصل على مراده، فاشرأب فرحاً وبهجة.

وشاهدت فلاحاً في الخامسة أو السادسة والثلاثين واقفاً يتأمل بسطة الدكّات، ويتحسَّر على أسنانه التي تهالكت بالنخر والتسوس، فعجز عن علاجها، وقرَّر في ساعة قنوط اقتلاعها جميعاً. لاحظ الفلاح الشاب أنَّ الدكَّة التي في يد الرجل الواقف أمامه تلائمه أكثر، ومدّ يده نصف امتدادها، إلى فم الرجل في محاولة لاستعجاله في إخراجها من فمه مع دعاءٍ وتمتة: “إن شاء الله ما تظبط على تمّك، إن شاء الله ما تظبط”. كانت الدكَّة تبدو جديدة كلياً، بل أجدّ الدكَّات المبعثرة، وعندما أخرجها من فمه مد الفلاّح يده، كأنه ينتشلها، مع بصيص أمل ولعاب في أنها ستصلح لفمه.

في الأسبوع التالي وقف أحد الفقراء البائسين ممن يسيل منهم البؤس في كل خطوة يخطوها، يفاوض أبا أحمد على استئجار دكَّةٍ لمدة ربع ساعة.

ــ الله يخليك! مشتهي على سندويشة فشافيش! من سنة لم آكل لحمة مشوية! هل يوجد مجال لتؤجرني هذه الدكَّة؟ وأشار إليَّ، لمدة ربع ساعة فقط؟ أريد أن آكل سندويشة، ثم أرجعها لك؟

نظر أبو أحمد في عينيّ الرجل مليَّاً، وحبس نَفَسه ودموعه، وقال له:

ــ سأقدِّمها لك هديةً زكاة عافيتي وعافية أولادي.

ــ الله يكتر خيرك، بس أنا لا أحتاجها. أكلي كله شوربات. أجّرني أو أعرني إيَّاها فقط، وعندما أشتهي سندويشة سودة أو كباب أو درنات، أو عجة فسوف آتي لعندك. سآتي في الشهر أو في الشهرين مرة.

هنا أدركتُ أنَّ كلام ذلك الرجل الذي جاء منذ ساعتين يريد أن يبيع أبا أحمد دكّة أسنان لميِّت طازج غير صحيح! فلأنَّه لم يتفق معه على السعر، قال له:

ــ أنتو يا بيّاعي الدكَّات لئيمين مع أهالي الأموات المفجوعين! بدكم تاخدوا الدكات بتراب الفلوس، بدكم تمصّوا دمنا؟ فشر.

وهكذا أخرج الرجل من جيبه كيساً من النايلون، ووضعه على الأرض، ثم وضع الدكَّة عليه. بدأ ينادي: دكّة سْنين. قرِّب. دكة سْنين. قرِّب. بخمسين ليرة.

بخمسين ليرة.

بخمسين ليرة يا يوب.

بخمسين ليرة يا حبّاب.

في اليوم نفسه اشتراني أستاذ بدويٌّ من قرية تل باجر من بيت العَتَك. كان عمره قد ذرّف على السبعين. ظللتُ في فمه مدة أسبوع فقط، وكانت تجربتي معه من أجمل التجارب، ذكَّرني دائماً بأناقة معلمي وبمروءته وبجميع أخلاقه، كان من خرّيجي كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة حلب، وكان من القلّة التي انتسبت إلى الجامعة في منطقته! لم ينعم بمهنة التدريس سوى بضع سنوات، ثم فُصل في بداية الثمانينات بتهمة الانتماء إلى منظَّمة إرهابية رجعيّة، وظلَّ طوال حياته مسروراً ممنوناً لأنّهم اكتفوا بهذا القرار، ولم يعتقلوه، كما اعتقلوا كثراً من زملائه. وكان يضحك دائماً وهو يقول: “يا ولْ نحن البدو بحياتنا ما كنّا دينين! فشلون أنا من الإخوان المسلمين”؟ كان يقول ذلك على رغم محافظته على صلاته وصيامه، وبعد أن فقد أسنانه، كان يسخر من نفسه ضاحكاً أيضاً، ويقول: “أنا الطفل الأدْرَد”، ثم يلتفت إلى زوجته المحبة، وينظر إليها قائلاً: “عَضّي لا يؤلم”، فتضحك من كلِّ قلبها، وتشير بيدها إليه بأن ابتعد، ولا تقترب مني. كانت تحبّه وتقدّره، لأنَّه لم يتزوج عليها أولاً، ولأنَّه كان يعاملها ويخاطبها بحنوٍّ واحترام جليين واضحين! لم يكن يناديها: يا حُرمة! ولا يا أمَّ عبيد! ولا أم عبدو! بل يا أمَّ عبد الكريم!

عندما اشتراني كانت أم عبد الكريم معه. اصطحبها ليريها سوق الجمعة. قال لها: “هادا السوق متل الجنَّة، فيه ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”، وبعد أن اشتراني أمسك بيدها، واقتربا إلى عربة الشوَّا، وطلب سندويشتي كباب. أكلا مبتسمين هانئين، ولم ينغِّص عليه سوى أنَّني كنت ضيِّقة على فكّه قليلاً، لكنّه منّى نفسه قائلاً: “الدكّة متل الحذاء تتوسع على الاستعمال”.

بعد سندويشة الكباب، جال مع زوجته بكلِّ ثقة، كأنه دليل سياحي، ليريها صحة كلامه:

ــ شوفي هلمكواة! تحفة. بتحطي بصّات النار جوّاتها، وبتكوي الأغراض. أنتيكة من العصر العثماني.

ــ شوفي هلمدفأة الحطب! أنتيكة ألمانية، لوما تكسّرت أطرافها كان سعرها متل سعر تراكتور أبو صبحي.

ــ يا سلام! هيْ مؤلفات شوقي ضيف! لو معي ما يكفي لاشتريتها كلَّها، بس تكفيني اليوم الدكّة!

ــ هيا إلى القرية… هيّا للعضّ هيّا.

قضيتُ أسبوعاً كاملاً من الفكاهة والدلع والروح الطيبة التي تخيِّم على ذلك المنزل، ولكن ثبت له أنني لم أتوسع، وأن حنكه لم تصب، فقرر استبدالي في الأسبوع التالي.

جلست على كيس النايلون مرة أخرى ثلاثة أسابيع إلى أن اشتراني عبدو إسماعين، من ضيعة باشكوي قرب حريتان. كانت أيامي معه أيام قهر وتعتير. لم أرَ منه يوماً حلواً! ثلاث سنوات قضيتها معه، وهو يفصفص بزر دوار الشمس! من دون مبالغة فصفص خلال هذه المدّة أكثر من نصف طن. وفي أيامه الأخيرة كان ابن خاله من بيت الأكتع كلما رأى ابناً من أبنائه يقول له: “كو احسبوا حسابي! دكِّة الأسنان من نصيبي”. وفعلاً خلال مدة وجيزة صرت من نصيبه.

كانت أيامي مع ابن الأكتع أسوأ من أيامي مع عبدو، فقد كان ابن الأكتع غشيماً بهيماً قليل واجب، وكنت أشعر بأنَّ وقتي معه هو سنوات الضياع بحدّ ذاتها.

في مرَّة من المرَّات، شاهد في التلفزيون مدفأة من مدافئ الشومينيه، وقد وضع البطل في وسط الغرفة حوض “بانيو”، واستلقى فيه مسترخياً متنعِّماً، ومغطى بالرغوة التي تكاد تخرج رائحتها العطرة من التلفزيون نفسه.

كان بيت ابن الأكتع الريفي غرفة معيشة، وغرفة مستودع، ومطبخاً صغيراً جداً، وتواليت تحته مغارة بحجم الغرفتين، وكان لغرفة المعيشة شباك وحيد، ولكنه ألغاه، وسدّه بالقرميد، لأنَّه يحب العَتَمة، فهي أنفع للعيون، وأنشط للخيال. كان عرض الحائط نحو المتر، مثل كلِّ حيطان البيوت القديمة في القرية، وفي لحظة فراغ وضجر لمعت في ذهنه فكرة تقليد ذلك البطل الأجنبي المستلقي في الحوض، والغاطس تحت الرغوة! نظر ابن الأكتع إلى ذلك التجويف في الحائط الذي كان شبَّاكاً في يوم ما، فرآه يشبه تجويف الشومينيه، ثم نظر إلى ذلك البرميل الفارغ في أرض الدار، وقال في نفسه: “يمكن قصّه طولياً ليغدو كالبانيو”! وبالمطرقة والإزميل قصَّ البرميل، ووضع نصفه في وسط الغرفة على كرسيين صغيرين، كلّ كرسيّ من طرف، فارتفع البرميل المضطجع نصف متر عن الأرض، وبعد ملئه ماء وضع تحته موقد الغاز وأشعله، ثم صبَّ في البرميل علبة كاملة من سائل الجلي “لودالين” طلباً للرغوة. وكان قبل ذلك وضع الحطب المهشَّم في الشومينيه الجديدة.

تقدَّم ابن الأكتع من باب الغرفة، وسحب الجنكل المرخيَّ على طرف الباب الخشبي، ورفعه ثم وضعه بقوّة في الحلقة المثبَّتة في الحائط، ودقّه بقرمة خشب كانت قرب الباب، لينعم بكامل الدفئ، فلا تسقط منه ذرة إلى الخارج، ثم دلف إلى صدر الغرفة، ووقف على الدشَك، وهنالك خلع مكلّابيته أولاً، ثم الكنزة الصوفية، ثم القميص القطني، ثم البنطال الصوفي، وأخيراً اللباس الداخلي.

شعرتُ بقشعريرته التي سرت إلى جسده حين كزّ بأسناني، وبسرعة خاطفة هرول إلى الشومينيه، وهو يفرك يديه، ثم دلق قنينة الكاز المخلوط بالبنزين على الحطب، ورمى فوقها عود الثقاب، ولكن بدلاً من أن تظلَّ النار داخل التجويف خرجت بهمجيّة إلى وجهه، وبحركة لا إرادية ابتعد منها مباشرة فلم تؤذه بتاتاً. امتدت ألسنة اللهب إلى سقف التجويف، وخرجت منه إلى الأعلى، فأصبح، في لحظة، لون الحائط أسود، وبدأ الدخان والسخام ينتشران في الغرفة، ربَّما لأنّ هذه الشومينيه كانت من دون مدخنة، وبسرعة هرول إلى قميصه، وبدأ يحرِّكه أمام النار، ويهشُّها لعلَّها تقتنع وترضى بحيّز التجويف فقط، فلا تبارحه، ولكنَّها كانت مع كلّ هشَّة تضطرم جنوناً وتنطلق أكثر.

بدأ ابن الأكتع يشعر بحرقةٍ في عينيه، وتأذٍّ في تنفُّسه، فبادر إلى الباب ليفتحه، لكنّ الجنكل أبى أن يتحرك، فهوى إلى القرمة، وأخذها، وضرب بها الجنكل، لكنَّه لم يتزحزح قيد أنملة! بدأ نَفَسه يضيق، وسعل كأنه مصاب بالسعال الديكي، ومن حلاوة الروح ركض إلى البرميل/ البانيو، وغرف بطاسة الماء غرفةً، وكبّها على النار، فسمع صوت: طشششش. امتزج بخار الماء بالدخان، وخلال ثانية أو ثانيتين ما عاد يرى شيئاً غير الدخان.

بعد ثلاثة أيام اقتحم الجيران باب الغرفة، ووجدوه مستلقياً بجانب الباب، ووجدوا نصف برميل فارغاً، وتحته موقد يبدو أنَّه ظلّ مشتعلاً إلى أن نفد غازه.

بعد أسبوع عدتُ في يوم الجمعة إلى بسطة أبي أحمد الرج، وكم كانت دهشتي مؤلمة حينما لم يعرفني بتاتاً، بل أخذني ووضعني فوق كيس النايلو من دون أدنى اهتمام!

وهاأنذا الآن أنتظر حظي الجديد عسى أن يكون أفضل في المرة المقبلة.

 

إقرأ أيضاً:

الحزب السوري القومي الاجتماعي… من النازيّة إلى الأسديّة

 تحوّلات الإمام الخميني في خاطري