fbpx

منبج التي شطبت وجه ياسر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لقد قضى ياسر ابن خالتي بالتفجير الذي استهدف الجنود الأميركيين في مطعم “قصر الأمراء في منبج”. ياسر الذي استقبلني في تلك المدينة، وكان دليلي طوال رحلة صحافية إليها استمرت أياماً، قضى في التفجير. واليوم حين أفكر بما أعرفه عن منبج، أشعر بأن لياسر حصة فيه، وها أنا أحاول كتابة قصتنا المشتركة عن المدينة التي أحبها وهرب إليها… وسقط فيها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لقد قضى ياسر ابن خالتي بالتفجير الذي استهدف الجنود الأميركيين في مطعم “قصر الأمراء في منبج”. ياسر الذي استقبلني في تلك المدينة، وكان دليلي طوال رحلة صحافية إليها استمرت أياماً، قضى في التفجير. واليوم حين أفكر بما أعرفه عن منبج، أشعر بأن لياسر حصة فيه، وها أنا أحاول كتابة قصتنا المشتركة عن المدينة التي أحبها وهرب إليها… وسقط فيها.

في صيف 2017، توجهت إلى مدينة منبج، في زيارة أبقيتها سرية عن عائلتي التي كانت في إقليم كردستان العراق. في منبج التي كانت تضج بالحياة، ظهيرة يوم الجمعة، طلبت من السائق نقلي إلى السوق الرئيسي، بعيداً من المقرات الأمنية. هناك، في مدخل السوق، سألت عن مطعم جيد، فأشار إلى “قصر الأمراء”. دخلت برفقة أصدقاء من منبج، ففوجئت بأحدهم يقف أمامي مذهولاً: ابن خالتي!

كان ياسر صالح حمادة، شاباً من عمري، تزوج حديثاً، وانتقل مع شقيقه الأكبر إلى منبج، تاركاً قريته الكردية في منطقة سد الشهباء شمال حلب، التي كانت خط تماس بين وحدات حماية الشعب وتنظيم “داعش”.

أمضيت مع أبناء خالتي يومين في منبج، كلما انتهي من جولة ميدانية في أسواق المدينة، أعود إلى المطعم، وفي الليل أبيت عندهم، وكان من حظي أن التقيتهم، على رغم نفوري من الأقارب في الرحلات التي تحمل مخاطر أمنية. فلم تكن في منبج فنادق يمكن المبيت فيها. والحواجز الأمنية على مخارج المدينة تمنع خروج أي سيارات بعد الثامنة مساء في ذلك الحين.

كانت لدى ياسر مشكلة في تسجيل محل سكنه في المدينة لدى اللجنة المدنية التي يطلق عليها “كومين”. هناك تعرفنا إلى أناس جدد من شباب منبج. في الليلتين اللتين أمضيتهما هناك، كان ياسر كريماً في السرد. علمت من خلاله كل ما يحصل في المدينة، والأحاديث الجانبية الصريحة التي يتناقلها الناس، وآراءهم حول “الديموقراطي” (وهو الاسم الذي تعرف به قوات سوريا الديموقراطية في المناطق ذات الغالبية العربية)، وانطباعات الناس عن أيام “داعش”. كان الشاب مخزوناً من السرد الذي لا ينتهي، وراصداً ممتازاً لمزاج المدينة وسكانها.

ياسر مع ابنه في صورة حديثة

كان شاهداً على تحولات منبج من خلال المطعم الشهير. افتتح المطعم فور تحرير المدينة من “داعش”، وتعود ملكيته لرجل كردي من سكان المدينة، وهو أحد وجهائها أيضاً. اكتسب هذا المكان سمعة طيبة انعكست على نوعية الزبائن: قيادات في “قسد”، جنود وضباط أميركيون، مسؤولون مدنيون، بل حتى حدث ذات مرة أن كان الزبائن ضباطاً وجنوداً من جيش النظام السوري كانوا قرب منبج، ولم يجدوا مكاناً أقرب منها لتناول الطعام، فقادتهم سمعة المطعم إلى “قصر الأمراء”، وجاؤوا – بحسب شاهد العيان ياسر –  من دون أسلحتهم التي سلموها لعناصر من “قسد”. وحدثني أيضاً أنه في إحدى المرات، كانت سيارة عسكرية لضابط سوري تحمل شعارات تمجيدية للنظام، فقام أحد عناصر “قسد” بالطلب من الضابط إزالة الشعار أو تغطيته، وإنزال العلم، بسبب خوف قطاع كبير من السكان من عودة النظام. فحدث إشكال أمني خطير، كان من نتائجه أن امتنع بعدها ضباط وعناصر النظام في المناطق القريبة عن المجيء إلى منبج، على رغم أن زياراتهم كان في الأساس نادرة، ومراقبة بشدة من قبل الأمن الداخلي التابع لـ”قسد”.

حين غادرت منبج، متوجهاً إلى كوباني، ودعت ياسر وشقيقه في المطعم، وصار لي أصدقاء من العاملين فيها. من بينهم طفل في الرابعة عشرة، كان يعمل في تنظيف الطاولات، ويقدم نفسه أنه ابن الحاج يوسف، مفترضاً أنني أعرفه. فطلبت منه أن يبلغ والده سلامي. لا أعرف إذا كان من بين الضحايا أم لا.

في الطبقة العليا من المطعم، الجناح العائلي، كان هناك جهاز تلفزيون تعرض عليه مباريات وأغاني. وكانت امرأة في منتصف الثلاثينات من العمر، تخدم الزبائن، أعدت لي كوباً من الشاي ذا مذاق بمنزلي، أُضيف إليه السكر أثناء غليانه، وبات الطعم شديد الحلاوة، وهو ما نطلق عليه “النكهة الشاوية”. لا أعرف إذا كانت من بين الضحايا.

احتفاء “ياسر” بي، ذهب به إلى أن يقدمني إلى أي شخص يعرفه، متفاخراً بأنني ابن خالته، صحافي آتٍ من دبي، ويتجول بحرية في أماكن خطرة أمنياً. من بين هؤلاء ابن المعلم (صاحب المطعم). شاب وسيم، في مطلع العشرينات، حدثته باللغة الكردية فرد بإحراج قائلاً إنه لا يتقنها، بسبب عدم خروجه من منبج إلا نادراً. فكان والده هناك، وعاتبته على ذلك، لكنه أبدى عدم ارتياحه لهذا العتاب. ولتصحيح ذلك، أثرت معه موضوع كيفية توفير الخبز. فتحدث عن الأفران والخبز الخارجي، ثم عن عراقة وجوده في منبج، فهو ينتمي إلى واحدة من أقدم العائلات، وعاصر الوجود الكثيف للأرناؤوط في البلدة قبل أكثر من 100 عام، حين كانت أغلبية المدينة غير عربية، وقبل الاستقرار العشائري الواسع في المنطقة، والذي انعكس على هوية حزام من المدن، من بينها منبج.

بعد نهاية الحديث، جاءني ياسر واقترب من أذني ليقول إنه اكتشف فضيحة فساد على صلة بتوزيع الخبز في المدينة، وسرد لي لاحقاً تفاصيل أعجز عن تذكرها إلا بخطوطها العامة. وعرفت منه القضية الاجتماعية الرئيسية في منبج: النقمة الشديدة على أهالي مدينة السفيرة الواقعة جنوب شرقي حلب. حين كان تنظيم “داعش” يحكم المدينة، كانت مجموعة كبيرة من أعضائه/ تتحدر من مدينة السفيرة، وبدرت من هؤلاء سلوكيات عنصرية تجاه أهل منبج. ولم تنتهِ هذه المحنة (مرحلة الاضطهاد الاجتماعي) إلا بطرد “داعش” من قبل قوات سوريا الديموقراطية، فخلت منبج من أي عائلة “سفرانية” إلا ما ندر، وتم طرد من تبقى منهم بطرائق عدة.

لا أعرف أياً من الشخصيات السابقة من بين ضحايا التفجير الانتحاري الذي نفذه أحد عناصر تنظيم “داعش” الأربعاء (17 كانون الثاني/ ديسمبر)، سوى ابن خالتي ياسر. هذا القريب الذي كشف السر الذي أخفيته عن عائلتي، وأبلغ أفراداً منها، فور مغادرتي منبج، محذراً إياهم من أنني توجهت إلى أخطر منطقة في العالم!