fbpx

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (7)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الجريمة التي أودت برفيق الحريري عام 2005، شكّلت نوعاً من الموت التأسيسيّ الذي كثيراً ما نهضت عليه أحزاب وأديان ومعتقدات في التاريخ. وبالفعل وُلدت حكاية تقرن التفجّع واللطم بسرد مسهب لوقائع الغدر والنذالة والخيانة التي سبقت الجريمة أو مهّدت لها. كان هناك أكثر من يَزيد وأكثر من يهوذا ومن بروتوس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الجريمة التي أودت برفيق الحريري يوم 14 شباط 2005، قتلت أيضاً أكثر من عشرين ضحيّة، في عدادهم الاقتصاديّ والوزير السابق باسل فليحان. لقد شكّلت نوعاً من الموت التأسيسيّ الذي كثيراً ما نهضت عليه أحزاب وأديان ومعتقدات في التاريخ. وبالفعل وُلدت حكاية تقرن التفجّع واللطم بسرد مسهب لوقائع الغدر والنذالة والخيانة التي سبقت الجريمة أو مهّدت لها. كان هناك أكثر من يَزيد وأكثر من يهوذا ومن بروتوس. الأسماء التي ردّدتها الألسنة امتدّت من مدير الأمن العامّ جميل السيّد إلى رئيس الجمهوريّة إميل لحّود، ومن رئيس الجمهوريّة الآخر بشّار الأسد إلى حكومة عمر كرامي ومعظم وزرائها ذوي الهوى الأسديّ. هذا قبل أن يضاف “حزب الله” وأمينه العامّ حسن نصر الله إلى اللائحة.

لكنّ سعد الحريري، الشابّ الدمث الذي ورث أباه في السياسة، لم يكن مؤهّلاً لذاك الإرث الثقيل. لقد عاش معظم سنواته حتّى ذاك الحين خارج لبنان، وكادت علاقاته تقتصر على رجال أعمال وطامحين لأن يصبحوا رجال أعمال. وعلى عكس والده الذي عانى الفقر قبل أن يجني الثروة، كما انتسب إلى حزب سياسيّ وتعصّبَ لزعامات محلّيّة، لم يعرف سعد هذا كلّه. النصر والهزيمة لديه هما ما يحصل في العقارات والبورصة، والتعب هو ما قد ينجم عن إسراف في ممارسة رياضةٍ مُجهِدة ما.

وإذ ترك افتقار الحريري النجل إلى المواصفات المطلوبة فراغاً قياديّاً لدى القوى التي باتت تُعرف بـ “14 آذار”، تولّى وليد جنبلاط سدّ الفراغ بطريقة عشوائيّة يصعب التكهّن بها. لكنّ الأوضاع المحيطة كانت، بفعل استثنائيّتها، تلحّ على طلب المؤهّلات الاستثنائيّة. الطلب على الجِديّ كان يفوق العرض بلا قياس. ذاك أنّه بموجب توازنات القوى وحركتها في المنطقة، انتهى التقاطع السوريّ – السعوديّ – الأميركيّ حول لبنان، كما رفع بشّار الأسد سويّة التحالف مع إيران إلى تطابق. وبانسحاب الجيش السوريّ، صار “حزب الله” فصيل الصدام الأساسيّ المقابل، مع ما يعنيه ذلك على جبهتين: جبهة العلاقات السنّيّة – الشيعيّة وجبهة الكلفة الدمويّة المباشرة لأيّ نزاع سياسيّ.

وفيما تولّى فؤاد السنيورة، أقرب المقرّبين إلى رفيق الحريري ووزير ماليّته المفضّل، رئاسة الحكومة، بعد حكومة عمر كرامي التي لطّختها الجريمة، شنّ “حزب الله” حربه في تمّوز (يوليو) 2006 بعد خطفه جنديّين إسرائيليّين. لقد كانت الحرب أقصر طرق الردّ على المستجدّات التي توّجتْها انتخابات 2005، حيث تحقّق انتصار بارز لقوى “14 آذار”. غير أنّ الردّ استهدف أساساً استعادة الأجندة السياسيّة التي بدا أنّ اغتيال الحريري يطويها: فالمواجهات “المصيريّة” و”المقدّسة” أخلت مكانها لمسائل العدالة والاستقلال والحرّيّة حيال الأنظمة الأمنيّة، وبات النظام السوريّ يحتلّ حصّة مرموقة من “العداوة” التي طالما احتكرتها إسرائيل وحدها.

مع هذا، كانت القضيّة القديمة، التي يتزعّم الدفاعَ عنها رجل دين هو حسن نصر الله، أشدّ استخداماً لوسائل وسياسات حديثة، بما فيها القتل والاغتيال، من القضيّة الحديثة التي لم تجد في خدمتها إلاّ وسائل قديمة.

17 أيّار الثاني

قبل إعلان “النصر الإلهيّ” في حرب 2006 وبعده، تعدّدت الأشكال المستَخدَمة في إحباط المستجدّات التي أطلقها اغتيال الحريري، لا سيّما منها إنشاء محكمة دوليّة للنظر في جريمة الاغتيال.

في مواجهة المحكمة، ولإضعاف حكومة السنيورة التي تبنّت إنشاءها وتمويلها، انطلق مسلسل اغتيالات طال سياسيّين وصحافيّين ودبّ الرعب في أوصال المعارضين لـ “حزب الله” والنظام السوريّ. وفي أواخر 2006 بوشر الاعتصام المديد ضدّ حكومة السنيورة، بنصب الخيم في الوسط التجاريّ وسط تهديدات متواصلة بإحراق ذاك الوسط أو هدمه على رؤوس ناسه. لكنْ لئن صُوّرت المحكمة الدوليّة مثلما صُوّرت اتّفاقيّة 17 أيّار قبل أكثر من عشرين عاماً، ولئن عُبّىء ضدّها مثلما عُبّىء ضدّ الاتّفاقيّة المذكورة، آثرت قيادة 14 آذار أن تتذاكى بشهود الزور الذين أساؤوا إلى قضيّتها بقدر ما خدموا خصومها. لقد خاض الأخيرون حرباً كبرى واجهها مؤيّدو المحكمة بخفّة بالغة. في جانب استُحضرت السيادة مقابل التدخّل، والوطنيّة مقابل العمالة، والعروبة والإسلام مقابل إسرائيل والإمبرياليّة، وهي كلّها مفاهيم من النوع الثقيل القاتل والطالع من ذاكرة كهلة، وفي جانب آخر هبّ الزجل والبديهيّات الوطنيّة البريئة.

في هذه الغضون بدّدت 14 آذار بعض انتصارها الانتخابيّ بإنشاء “التحالف الرباعيّ” مع “أمل” و”حزب الله”، دافعةً ميشال عون إلى “تفاهم مار مخايل” مع نصر الله وحزبه، فضلاً عن تنفيرها الـ 14 آذاريّين الشيعة ممّن شعروا بالخيانة والتخلّي. هكذا انتقلت كتلة مسيحيّة ضخمة من السكّان من صفّ الحريري إلى صفّ “حزب الله”، بينما أصاب الفتور واللامبالاة كتلة شيعيّة صغرى.

وشُنّت على حكومة السنيورة هجمات متتالية ومتصاعدة. في داخلها استقال الوزراء الشيعة ثمّ تبعهم وزراء عون، ما أدّى إلى سقوطها. أمّا في خارجها فشهدت شوارع بيروتيّة صدامات متنقّلة بين شبّان سنّة وشيعة، أحاط بها مناخ الحرب الأهليّة التي اندلعت في العراق بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريّين في سامرّاء عام 2006. “حزب الله”، على هوامش ذاك التوتّر، لم يقتصد في التذكير، تلميحاً وتصريحاً، بتفوّقه السلاحيّ الصارخ وفي استعراضه اليوميّ لفائض قوّته. هكذا بات الموقف الجذريّ من الحزب المذكور، بل من الطائفة الشيعيّة، المكوّن الأهمّ للزعامة السنّيّة.

والسلاح ما لبث أن استُخدم فعلاً، فكان الهجوم على بيروت في ربيع 2008، والذي تأدّى عنه انعقاد مؤتمر الدوحة والتسوية التي قضت بانتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهوريّة. كذلك فُكّكت الخيم وأنهي الاعتصام في الوسط التجاريّ كما أوقفت الاغتيالات بقدرة قادر. لقد جاء وقف القتل برهاناً آخر على هويّة القاتل.

لكنّ الدوحة لم تكن تسوية. كانت مقدّمة لاستسلام لم تخفّف منه النظريّة السعوديّة والخليجيّة بالانفتاح على سوريّا الأسد مقابل ابتعادها عن إيران. والحال أنّ الرئيس السوريّ لم يبتعد عن إيران بل استُقبل في فرنسا، لكنّ جنبلاط ابتعد عن 14 آذار وزار دمشق التي زارها أيضاً الحريري مرّتين. هذه الزيارات انطوت على إذلال فاق ما أنزله اقتحام بيروت بالزعيمين.   

بيد أنّ الهجوم على العاصمة أدّى إلى نتائج أخرى. ذاك أنّ التكتّل، الذي كان لا يزال يحمل اسم 14 آذار، حقّق انتصاراً انتخابيّاً ثانياً في 2009. يومذاك جمع التصويتُ السنّيّ بين شعور حادّ بالغضب وشعور حادّ بالعجز الذي لا يُزيل أسباب الغضب. هكذا كُلّف سعد الحريري تشكيل حكومته الأولى التي اجتمع فيها الشعوران الحادّان، بعدما أعاقتها شروط العونيّين، مؤدّية إلى اعتذاره قبل إعادة تكليفه. لكنْ بعد استقالات من الحكومة استبَقَت صدور القرار الظنّيّ بجريمة الاغتيال، تقدّم “حزب الله” وحلفاؤه خطوة أخرى لإسقاط الحريري في الشارع من خلال استعراض “القمصان السود” الشهير. حصل ذلك في مطالع 2011 حين كان رئيس الحكومة مجتمعاً بالرئيس الأميركيّ باراك أوباما. إلى تلك الإهانة أضيف الجرح ممثّلاً بتكليف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة.

لقد بدا بوضوح لا يقبل التمويه أنّ القوّة في مكان قد لا يُترجَم انتخابيّاً، إلاّ أنّ الانتخابات في مكان آخر لا ينتج قوّة.

 

ثورة سوريّا وحربها

مع الثورة السوريّة بدا أنّ الرياح قد تهبّ في وجهة أخرى. لكنْ قبل أن تنهزم الثورة وتنقلب حرباً أهليّة، كان لتدخّل “حزب الله” أن أرسى وضعاً داخليّاً أقرب ما يكون إلى إسناد الجبهة. احتكار قرار الحرب والسلم لم يعد تفعيله يقتصر على الجنوب ضدّ إسرائيل. لقد صار الشرق مسرحاً آخر لاشتغاله ضدّ السوريّين. نظريّة “تحالف الأقلّيّات” واكبت هذا التوجّه ووفّرت له شعبيّة متعاطفة وعابرة للطوائف. غياب الحريري الطويل آنذاك أضعف معنويّات المعترضين على “حزب الله” وأدواره المتضخّمة. لقد بدوا كالجيش الذي كان منزوع السلاح فصار أيضاً بلا قيادة.

معركة رئاسة الجمهوريّة عكست تلك الوقائع: ترشيح الحليف سمير جعجع لم يقلع. المعركة انحصرت بين مرشّحين من حلفاء نصر الله: سليمان فرنجيّة الذي لم يلبث الحريري أن أيّده، وميشال عون الذي لم يلبث أن دعمه، مثله في ذلك مثل جعجع. الحجّة كانت تلافي الشغور الرئاسيّ الذي تجاوز العامين. الحريري كُلّف، في أواخر 2016، تشكيل حكومة استغرقت ولادتها أربعين يوماً، وحظيت بموافقة الجميع “تسهيلاً للعهد”، أي تعقيداً للحريري.

الضربة هذه المرّة جاءت من الحلفاء. بعد أقلّ من عام على قيام تلك الحكومة، كانت زيارته المهينة إلى السعوديّة وما رافقها من استقالة تبيّن أنّها مفروضة. ما حصل أحدث نوعاً من التعاطف مع المواطن سعد الحريري، لكنْ ليس مع السياسيّ سعد الحريري. التعاطف الشامل معه كمواطن لم يعمل بالضرورة لصالحه كسياسيّ.

الضائقة الماليّة التي ألمّت به، وإقفال المؤسّسات وتسريح العاملين، فعلت أيضاً فعلها في زعامة لعب المال فيها دوراً قائداً. الحريريّة لم تعد، بمؤسّساتها وبـ “تيّار المستقبل” وأجهزته، رافعة للترقّي الطبقيّ، وكفّت بالتالي عن إنتاج الكوادر في كلّ مجال. أبعد من هذا ما حصل في انتخابات 2018: انخفض نوّاب كتلته من 33، في 2009، إلى 21.

في الموازاة، انشقّ قطب “المستقبل” الطرابلسيّ أشرف ريفي. نائبا عكّار السابقان خالد الضاهر ومعين المرعبي تمايزا. شقيق سعد الأكبر، بهاء، أسفر عن طموحات كان قد ظُنّ أنّه تخلّى عنها. فؤاد السنيورة بات يوصف بأنّه “صقر المستقبل”، علماً بأنّ طريق الحمائم، ناهيك عن الصقور، مسدودة في أوضاع كهذه تتكامل فيها ضربات الأصدقاء وضربات الخصوم، ومع توازنات قوى إقليميّة بالغة الاختلال. الانتصارات العسكريّة التي حقّقها الروس والإيرانيّون في سوريّا، وأهدوها إلى بشّار الأسد وسلطته، أوصلت الاختلال هذا إلى ذروته.

المتمرّدون…

خارج الدائرة الحريريّة، التي أصابها التصدّع، فُتح الباب لظاهرات وإشارات كان يستحيل تصوّرها في زمن الحريري الأب، وفي السنوات القليلة التي أعقبت اغتياله. البعض وجد فرصته للتنصّل. البعض للابتعاد. البعض بدأ يرى في الحريريّة دواء انتهى صلاحه فبات يؤذي مُتناوليه. الخطّ البيانيّ للسنوات القليلة الماضية ارتسم على شاشات كثيرة:

في بيروت، المفتي محمّد رشيد قبّاني تمرّد ما إن لاح شبح نجيب ميقاتي بوصفه زعيماً سنّيّاً آخر. فؤاد مخزومي، وهو أيضاً مليونير جنى ثروته في السعوديّة، وجد فرصته لتحقيق طموح مزمن فحلّ نائباً في برلمان 2018. التجربة الأهمّ، ولو من موقع مغاير، كان رمزها تمّام صائب سلام. إطلالته السياسيّة الأولى عام 1992 منحته رصيداً وطنيّاً وأخلاقيّاً: لقد قاطع الانتخابات تضامناً مع المقاطعة المسيحيّة. موقفه كان الشذوذ الإسلاميّ الوحيد عن المشاركة في “التهميش المسيحيّ” والاستفادة منه. مذّاك ربطته بالحريري الأب لعبة على شيء من التعقيد الذي تدخّلت السعوديّة غير مرّة لتذليله: في 1996 خرق لائحته فكان خرقه حدثاً. بعد أربع سنوات رسب وحلّ محلّه المرشّح الحريريّ باسم يمّوت. في هذه الغضون، وتحديداً في 1998، ساير البيئة السنّيّة الضيّقة المتحفّظة على الحريري، وغير المتحفّظة على سوريّا، لكنّه تراجع ولم يذهب بعيداً.

مع النجل، أدّى التردّي إلى تخفيف نزعة التفرّد والاستئصال فيما تزايد المتجرّؤن. هكذا سُلّم تمّام وزارة الثقافة في 2008 في حكومة فؤاد السنيورة. في 2009 انتُخب نائباً على لائحة الحريري. في 2014 كُلّف برئاسة الحكومة مدعوماً من “تيّار المستقبل”. تكليفه هذا حرّك عواطف بيروتيّة كان الاعتقاد أنّها بادت. لقد كُرّس كحليف مستقلّ للحريري يتمتّع بقاعدة خاصّة به. قصره العائليّ أسبغ عليه صفة الصمود: فهو محاط بمكتب مركزيّ لحركة “أمل” الشيعيّة وبمركز لـ “كشّافة المهديّ” التابع لـ “حزب الله”.

في طرابلس، كان العنوان الأبرز للتفلّت نجيب ميقاتي. ثريّ آخر من الأثرياء الجدد جنى أمواله في قطاعات الاستثمار والاتّصالات والبنوك والعقار والنقل الجوّيّ والأزياء. وصل إلى البرلمان في 2000 و2009 بوصفه حليفاً طرابلسيّاً للحريري الأب ثمّ الابن. في 2011، حلّ ميقاتي، المعروف بصلات وثيقة جدّاً مع الحكّام والضبّاط السوريّين، في رئاسة الحكومة التي “طُرد” منها سعد الحريري. خصومه وصفوه يومذاك بأنّه “وثيق الصلة” بـ “حزب الله” أيضاً. في 2018، خاض الانتخابات على رأس لائحة واجهت اللائحة الحريريّة، كما واجه مرشّحي الحريري في الضنّيّة. حصل على أعلى الأصوات التفضيليّة وفاز على لائحته المرشّحون المارونيّ والأرثوذكسيّ والعلويّ.

في صيدا، تبدّى التمرّد على شكلين: الأوّل مثّله أحمد الأسير. لقد كان هذا الشيخ، الفولكلوريّ والإيكزوتيكيّ في آن، تعبيراً عن امتعاض صيداويّ حقيقيّ من الفراغ القياديّ للسنّة في مواجهة “حزب الله”. الهجوم على بيروت في 2008 عزّز الامتعاض هذا. “انتفاضته” قُمعت في 2012. الأسير، الذي هرب، ألقي القبض عليه، بعد ثلاث سنوات، متخفّياً في مطار بيروت. في 2017 صدر عليه حكم بالإعدام.

الشكل الآخر مثّله أسامة سعد الذي تعرّجت المواجهة بينه وبين الحريري. ففي انتخابات 2000، وبسبب القانون الانتخابيّ الذي جمع في دائرة واحدة أقضية ومناطق صيدا والزهراني وصور وبنت جبيل، لم يكن ممكناً استبعاد شقيقه مصطفى عن لائحةٍ صاحبُ القرار الأوّل فيها نبيه برّي. مع الانتخابات الفرعيّة بعد رحيل مصطفى، ثمّ في انتخابات 2005، تمكّن أسامة من الوصول إلى المجلس مستقطباً التعاطف الذي أثارته وفاة شقيقه. لكنّ الفترة هذه كانت تشرف على انتهائها في 2004: حينذاك تحالف أسامة والطبيب عبد الرحمن البزري، نجل نزيه، في الانتخابات البلديّة التي سحقت اللائحة الحريريّة. كان ذاك المفصل علامة على انبعاث زعامات ما قبل الحريري الذي لم يوقفه إلاّ اغتيال الحريري نفسه. وبالفعل ففي انتخابات 2009، وكان جرح الهجمة على بيروت لا يزال ساخناً، أطاح ثنائيّ بهيّة وفؤاد السنيورة أسامة سعد بفارق 12 ألف صوت، كما انتُزع منه المجلس البلديّ في 2010. في 2018، السنيورة عزف عن الترشّح. بهيّة وأسامة فازا. الفارق تقلّص إلى 4 آلاف صوت.

إلى العروبة السوريّة مجدّداً

في الأرياف السنّيّة، لم يكن الجديد، في 2018، انتخاب عبد الرحيم مراد والوليد سكريّة وقاسم هاشم وجهاد الصمد، ومعهم فيصل كرامي عن طرابلس وعدنان طرابلسي عن بيروت. لقد حلّ معظم هؤلاء في البرلمان سابقاً، مرّةً ومرّتين وثلاثاً.

صحيح أنّ “حزب الله” أفاد من نيابتهم، وقبلذاك دعم ترشيحهم في المناطق التي تضمّ مقترعين شيعة، كما استخدم فوزهم لإعاقة تشكيل الحكومة الجديدة، ولإنشاء موقع قدم وطيد داخل الطائفة السنّيّة، لكنّ هذا نصف الحقيقة. فالصمد وكرامي مثلاً انتُخبا في الشمال حيث لا توجد كتل شيعيّة ناخبة. إذاً، لا تجوز الاستهانة بحجم الخروج السنّيّ من العباءة الحريريّة، وبتحوّل الخارجين إلى “لقاء تشاوريّ” يطمح إلى منافستها على الداخل السنّيّ نفسه، كما يعيق تشكيل حكومة جديدة. هذا هو الجديد.

التشاوريّون هؤلاء لا ينكرون إعجابهم بنظام بشّار الأسد، ويجدون أسباباً “قوميّة” لذلك. وقد يجوز القول إنّ ثمّة لوناً عقائديّاً لمعظمهم، من دون أن يسبغ النعتُ هذا أيّ تنزيه على صاحبه: مراد ناصريّ جاء من “الاتّحاد الاشتراكيّ العربيّ”. سكريّة ناصريّ أيضاً وضابط منشقّ في زمن الحرب الأهليّة. هاشم بعثيّ. طرابلسي من “الأحباش”.  

فكأنّ الارتداد السنّيّ على الحريري يهجس، عبر الجسر السوريّ، إلى عود على بدء مُرّ ومرير. أمّا لغة الارتداد فقديمة وجاهزة، لم تعرّضها الحريريّة، في زمن قوّتها، إلى أيّة مراجعة تؤسّس مناعة للمستقبل. فردّاً على التشدّق بـ “عروبة بشّار الأسد” وبـ “عدائه لإسرائيل”، كان يُكتفى بالإشارة إلى أنّ عروبة الأسد وعداءه لإسرائيل زائفان. وردّاً على التشدّق بـ “مقاومة حسن نصر الله”، كان الردّ أنّ المقاومة الحقيقيّة هي “نحن”، لا هو.

وهذا كلام قابل للنموّ مع تدهور الأوضاع السياسيّة المرجّح وتضاؤل المساحات المشتركة بين اللبنانيّين. فهو مولود أصلاً من رحم الهزائم والانتكاسات، وقادر دائماً على توليد الهزائم والانتكاسات التي تتباهى بأنّها انتصارات. ومن يدري، فقد ينتهي الحال بفيصل كرامي، أو سواه من رفاقه، رئيساً آخر لحكومة أخرى؟

 

إقرأ أيضاً:

الصراع على الزعامة السنية 6

الصراع على الزعامة السنية 4

الصراع على الزعامة السنية 3

الصراع على الزعامة السنيّة في لبنان (١)

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (2)

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.