fbpx

صورة “عهد التميمي”: شيرلي تمبل، القديسة جون، وملالا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قرية “النبي صالح” ليست قرية ًعادية. أسبوعاً بعد آخر، يلتقي فيها الجنود الاسرائيليون، والمحتجّون الفلسطينيون، والصحفيون العالميون، والناشطون الدوليون، منذ أكثر من عقد من الزمان، ليعيشوا نفس المشهد الملحمي: فلسطينيون مدنيون يقودون حركة احتجاج مدنية لا تتوقف ضد الإستيطان الاسرائيلي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قرية “النبي صالح” ليست قرية ًعادية.
أسبوعاً بعد آخر، يلتقي فيها الجنود الاسرائيليون، والمحتجّون الفلسطينيون، والصحفيون العالميون، والناشطون الدوليون، منذ أكثر من عقد من الزمان، ليعيشوا نفس المشهد الملحمي: فلسطينيون مدنيون يقودون حركة احتجاج مدنية لا تتوقف ضد الإستيطان الاسرائيلي.
ارتفعت القرية من مستوى الواقع إلى مستوى الرمز. من هذه القرية، خرجت أكثر صور المقاومة الفلسطينية للاحتلال والاستيطان. وبسبب خطورة الرمز في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، صارت القرية شبحاً مخيفاً للدبلوماسية الاسرائيلية، واليمين الاسرائيلي، الذي صار يعتبر القرية، البؤرة الكبرى لصناعة “Pallywood”. وكلمة Pallywood، هي مزج مختصر لكلمتين، Palestine  و Hollywood. والمقصود بها، حسب اليمين الإسرائيلي، المواد الإعلامية المفبركة، بغرض دعم الفلسطينيين دولياً.
تبعاً لهذا التحوّل الرمزي للقرية، كان محتماً أن تتحول الطفلة “عهد التميمي”، إلى رمز. والرمز تتعدد تفسيراته وتتناقض، فالرموز ترتبط بخيال المتلقي، أكثر من ارتباطها بالواقع. تصبح عهد-الرمز أهم لطرفي الصراع من عهد-الحقيقة.
خلال أيام صارت عهد هي: الفتاة الشجاعة التي أصبحت مثالاً للمقاومة، و”جان دارك” الفلسطينية، التي تقود شعبها المضطهد نحو التحرر، و”ملالا” العربية، التي لم تتراجع عن دعم حق شعبها في العيش، رغم كل الأخطار، والمرأة الخطرة التي تهدد سلطة الجيش الاسرائيلي، والطفلة المستغلة من قبل والديها، للمشاركة في أعمال خطرة، والممثلة البارعة، المتخصصة في فيديوهات المسيرات المفبركة، والخارجة على القانون التي اعتدت على جندي يؤدي مهمته الرسمية، والمراهقة المتحررة، التي يطالبها البعض بالتحجب ،قبل النضال من أجل فلسطين.
“لا تنشروا فيديو عهد وهي تصفع الجندي الإسرائيلي..أنه يقدم الإسرائيليين في صورة مثالية”، كانت هذه إحدى ردات الفعل العربية، على الفيديو الشهير لعهد وهي تصفع الجندي الاسرائيلي. ووجهُ التناقض هنا، أن الجندي الاسرائيلي لم يرد على صفعات عهد وتجاهلها، مما جلب الى الأذهان صور الجنود ورجال الأمن العرب، الذين كانوا في نفس الأسبوع، يقمعون المتظاهرات في الشوارع العربية، ويسحبوهن إلى المعتقلات، ليتعرضنّ للإهانة والتعذيب والاغتصاب.
التقطتْ بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية الفرصة، قائلةً إن الجندي الذي لم يرد على عهد، نموذج ٌ لالتزام اسرائيل الأخلاقي بحقوق الإنسان. لكن التسامح الاسرائيلي لم يدم طويلاً، إذ علا الصوت المتطرف، الذي رأى في ما قامت به عهد، ممارسة قد تلهم لتكرارها مع جنود آخرين، وبالتالي هدم سلطة جيش الاحتلال وخلخلة قوته.
لكن كثيراً من العرب رأوا في الفيديو تجسيداً لشجاعة المقاومة الفلسطينية المدنية، في وجه القمع الإسرائيلي، ورسالة إيجابية للعالم، توضح الحق الفلسطيني المسلوب. عهد التميمي مختلفة عن رموز المقاومة الفلسطينية الأخرى، التي ظهرت منذ ظهور المظلومية الفلسطينية. إنها مختلفة عن (ليلى خالد) خاطفة الطائرات في ستينات القرن الماضي، وعن (وفاء ادريس)، متطوعة الصليب الأحمر، التي فجّرت نفسها في حافلة اسرائيلية، ومختلفة أيضاً عن الرمز السائد للمرأة الفلسطينية، التي تظهر دائماً محجبة باللباس الشعبي الفلسطيني. عكس كل هؤلاء، عهد فتاةٌ شقراء، ذات عينين ملونتين، ترتدي نفس ما ترتديه أي فتاة مراهقة في أوروبا أو أميركا.
تسريحة الشعر المفضلة عند عهد (curly)، وهي مرتبطة في الثقافة الشعبية الغربية، بالشباب والقوة والجموح والجاذبية الأنثوية. وربما لو كانت عهد محجبة، لما أثارت نفس هذا اللغط والاهتمام والتفسيرات الرمزية المتضاربة. فجزءٌ كبيرٌ من رمزية “صورة عهد”، ارتبط بشعرها الأشقر المفتوح بكامل حريته. إنها تشبه أي مراهقة أميركية أو بريطانية أو فرنسية أو حتى اسرائيلية، وهذا يقدم للغرب رسالة واضحة، “إن الفلسطينيين بشرٌ مثلنا، يحلمون مثلنا، ويلبسون مثلنا”، وهي صورة تختلف عن السردية الاسرائيلية السائدة في الاعلام الغربي، التي تتحدث عن الفلسطيني الإرهابي، أو المرأة الفلسطينية المحجبة، والمضطهدة تحت سلطة الرجل.
ولأن الحجاب كان ولا زال ساحة معركة محتدمة بين الغرب والعالم الاسلامي، فإن سفور عهد يقلص الفجوة التي اتسعت عمداً بين عالمين، ويقدم صورة عصريةً ومؤنسنة للفلسطيني، بعيداً عن “الإستشراق”، وعن الحريم والبندقية والنضال المسلح. ويبدو أن والد عهد واعٍ  تماماً بهذا الجانب الرمزي، فقد دعا ابنته الى الافتخار بشعرها:”ابتسمي وافردي شعرك، أنتِ رمز الجيل الجديد من الفلسطينيين الباحثين عن الحرية. جيلنا انتهى أمره، وأنت حاملة الراية”.
تاريخياً ولاهوتياً، ارتبط حجاب المرأة بتأكيد سلطة الرجل على جسدها. وفي الرسالة الشهيرة لبولس الرسول، ارتبط غطاء الرأس بالخضوع، ” فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله و مجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل”. ولهذا كان خلع الحجاب رمزاً مرتبطاً بتحررّ المرأة.
ظلّت الصورة الذهنية الأشهر لخلع النقاب، هي صورة، صفية زغلول، وهدى شعراوي، وهن يخلعن النقاب وسط ميدان التحرير القاهري عام 1923، و ويقدن موجة هائلة لتحرير المرأة، من قيود الحجاب بالمعنى الواسع للكلمة (حجب المرأة عن المشاركة في الحياة العامة). ثم جاءت صور النساء السوريات في المدن السورية المحررة من قبضة داعش، وهن يحرقن النقاب والحجاب رمزاً جديداً لإعادة امتلاك المرأة لحريتها ولجسدها. أما الصورة الأخيرة لرمزية سلطة غطاء الرأس، فكانت صورة الفتاة التي ظهرت في الاحتجاجات الايرانية الأخيرة، وهي تخلع حجاب رأسها، وتلوح بها على عصا ثم تختفي لتؤكد على أهمية امتلاك الجسد في أي نضال نحو الحرية.
في اليمن  كانت ساحات الاحتجاج في 2011 و2012، ممتلئة بالثائرات المنقبات، والمتشحات بالبالطو الأسود الفضفاض، مرسلةً رسائل متناقضة، حول المرأة التي تريد اسقاط النظام، وهي عاجزة عن اسقاط البالطو والحجاب. لكن عهد مختلفة تماماً، فهي تناضل بثقة عالية بالنفس، واستقلالية ملحوظة دفاعاً عن حرياتها العامة، بعد أن نالت من عائلتها ومجتمعها حرياتها الشخصية.
لهذا، شهدت ساحات وسائل التواصل الإجتماعي العربية، ردود فعل أخرى على شاكلة: ” قبل أن تدافع عن فلسطين علموها أن تتحجب أولا”! فجزء من الإرتباك العربي في تلقي “صورة عهد”، جاء من التناقض بين بطولة عهد التي تداوي جروح النرجسية العربية المليئة بالهزائم والنكبات أمام اسرائيل، لكنها بالمقابل تجرح معايير الرجولة التقليدية (ومعايير الانوثة العربية التقليدية ايضا). لقد وجهت عهد صفعة للجندي الاسرائيلي، وصفعتين للقيم العربية المحافظة.
تعددت اسماء عهد الجديدة بعد صيرورتها الرمزية، وصار لها اسم جديد في الصحافة الاسرائيلية بسبب ملامحها الشقراء هو، Sherley Temper ، وهو اسم ساخر يريد اليمين الإسرائيلي الإيحاء من خلاله أن ما تقوم به عهد، هو مجرد تمثيليات “بالووديه pallywood”، وانها تستحق جائزة اوسكار بسبب فيديوهاتها التي تفبرك مظلومية فلسطينية غير حقيقية! وشيرلي تمبل كانت أشهر طفلة ممثلة في هوليوود في ثلاثينات القرن الماضي.
لكن التفسيرات المتعددة لصورة عهد لم تتوقف. تراجعت صورة عهد في المسيرة الاحتجاجية، لتظهر صورتها مقيدة في قاعة المحكمة. ابتسامتها الواثقة في المحكمة أعطت عهد رمزيةً غربية أخرى، واسماً جديداً أكثر إلهاماً، فقد تحولت لدى المتعاطفين الغربيين إلى، “جان دارك” الفلسطينية. وجان دارك هي الفتاة الفرنسية التي قادت مقاومة بلادها ضد العدوان الانجليزي عام 1429، وهي لا زالت في السابعة عشرة من عمرها، ثم تم القبض عليها، وحاكمتها الكنيسة بتهمة السحر ونزع الحجاب والتشبه بالرجال، ثم أعدمت حرقاً. وكما قادت “جان دارك”، التي ستعتذر لها الكنيسة فيما بعدها وتحولها الى “القديسة جون”، مقاومة بلدها ضد الاحتلال الانجليزي، فها هي عهد تقود مقاومة بلدها ضد الاحتلال الاسرائيلي.
لكن هذا الإحتفاء بالمناضلين الأطفال أثار جدلا ًجديداً حول “استغلال الأطفال”. وقد حاولت الدعاية الاسرائيلية اللعب على وتر استغلال “باسم التميمي” لابنته الطفلة عهد في أنشطة تتجاوز عمرها.
في المقابل، تعجب البعض من الدعم الغربي الواسع للطفلة الباكستانية الحائزة على نوبل “ملالا”، رغم انها كانت تواجه خطر طالبان،  دون أن يعتبروا ذلك استغلالاً للاطفال، وزجاً بهم في أنشطة خطرة. بالنسبة لهذا الفريق، يجب أن تكون عهد، ملالا الفلسطينية، التي تناضل من أجل عالم مستقر وآمن لأطفال فلسطين، أما الخطرالدائم الذي يواجهه الأطفال، فهو الاحتلال نفسه ، وليس المسيرات الرمزية التي يقودونها من وقت لآخر.
صورة عهد حمالة أوجه، ومخزن رموز متشابكة ومتناقضة..
وكما تغلّب الرمز على الواقع في القضية الفلسطينية، إذ صارت فلسطين تختزل بالرموز (الاقصى، قبة الصخرة) يتحول الفلسطيني نفسه إلى رمز مفارق للواقع، رمز يتجاوز حتى حقيقة وضعه المهدد والضعيف والمحتاج للحماية قبل الاعجاب والتقديس.[video_player link=””][/video_player]