fbpx

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (3)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في لبنان، سعى الإمام موسى الصدر، بدأب وجدّيّة، إلى توحيد الطائفة الشيعية على شتّى المستويات: من وقف التقاتُل في برج حمّود بين شبّان مهاجرين من الجنوب وبعلبك، وبعضُه حرّكه سياسيّون ومُغرضون، إلى محاولات التقريب بين زعماء الشيعة وقادتهم، كما بينهم وبين التجّار والمدراء والمتعلّمين

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في لبنان، سعى الإمام موسى الصدر، بدأب وجدّيّة، إلى توحيد الطائفة على شتّى المستويات: من وقف التقاتُل في برج حمّود بين شبّان مهاجرين من الجنوب وبعلبك، وبعضُ التقاتل كان دامياً، وبعضُه حرّكه سياسيّون ومُغرضون، إلى محاولات التقريب بين زعماء الشيعة وقادتهم، كما بينهم وبين التجّار والمدراء والمتعلّمين.

لكنّ المعارضة له ولمجلسه كانت جدّيّة ودؤوبة أيضاً. على رأس تلك المعارضة وقف كامل الأسعد، المشهور بصلَفه وتجاهُل كلّ جديد يتهدّد زعامته القديمة.

المقارنة لم تكن لصالح “الزعيم الوائليّ”: فقراء الشيعة الذين تعوّد الأسعد أن يخاطبهم من برج سامٍ، من دون أن يُخفي قرفه منهم وبرمه بهم، كسب الإمامُ قلوبَهم بأدبه وتواضعه. الأوّل، الذي يُفترض أنّه أرضيّ، كان يتصرّف على نحو سماويّ. الثاني، الذي يُفترض أنّه موصول بالسماء، كان أرضيّاً جدّاً. المثقّفون الذين انحازوا إلى “السيّد موسى” رأوا أنّه يردّ إلى الشيعة التمكين والقوّة اللذين حرمهم منهما “عطوفة الرئيس” وضمّهما إلى نفسه. غير المثقّفين رأوا فيه وريثاً شرعيّاً لبساطة الراحل أحمد الأسعد و”شعبيّته” اللتين تنكّرت لهما عجرفة نجله.

إنّه، في الأحوال كافّة، الغد مقابل الأمس. على هذا النحو ارتسمت المواجهة في أنظار الكثيرين.

تلك المقارنة بين رجل الدين الذي كانه الإمام، ورجل السياسة الذي كانه البك، أحدثت أثراً ضخماً في الوعي والتصوّر، أثراً سوف ينحرف بعد حين، وسوف تسجّل السنوات اللاحقة بعض أسوأ نتائجه. ففي وقت يرقى إلى 1959، سنة وصول الصدر إلى لبنان، طاف رجلُ دين محترم هو محمّد جواد مغنيّة بعض قرى الجنوب وسجّل مدى كراهية الجنوبيّين لرجال الدين ومدى عزوفهم عنهم. هذا ما شرع الصدر يغيّره، مضيفاً إلى كاريزماه التي استمدّها من الدين كاريزما استمدّها من الإنجاز والعمل.

مع ذلك، وُجد بين زملائه المشايخ مَن يعارضه ويعارض مجلسه لأسباب عدّة. رجال دين، بعضهم بعلبكيّ كحسين الخطيب وسليمان اليحفوفي، وقفوا هذا الموقف، لكنّ الإمام نجح، على نحو أو آخر، في تحييدهما. الأمر نفسه يقال عن الشيخ محمّد مهدي شمس الدين الذي آثر في البداية أن يتحفّظ، إلى أن سُمّي، بطلب مُلحّ من رئيس المجلس الجديد، نائباً له. المعارضة كانت أصلب عند رجال الدين الأسعديّين كأحمد شوقي الأمين، وبعض مشايخٍ شبّانٍ على صلة بأحزاب اليسار أو بالتنظيمات الفلسطينيّة الناشئة، كمحمّد حسن الأمين، فضلاً عن مشايخ آل صادق المعروفين بمحافظتهم.

السيّد محمد حسين فضل الله

محمّد حسين فضل الله، من جهة أخرى، مثّل حالة اعتراض مختلفة. فهذا السيّد والشيخ الذي شارك في تأسيس “حزب الدعوة” في العراق، إلى جانب محمّد باقر الصدر ومحمّد مهدي شمس الدين، عاد في 1966 من النجف ليستقرّ في منطقة النبعة، وسط المهاجرين الجنوبيّين إلى الضاحية الشرقيّة من بيروت. لقد تحفّظ فضل الله على “اعتدال” الصدر و”لبنانيّته غير الإسلاميّة”، وفي تحفّظه هذا، كان أكثر أدلجةً وجذريّةً من الباقين.

السياسيّون، باستثناء الأسعد، وقفوا بين بين. صبري حمادة ربطه احترام متبادل بالصدر، لكنّه خشي الانقلابَ على المألوف اللبنانيّ كما تمرّن عليه وأجاده قبل عشرات السنين. زعماء الصفّ الأوّل، بمن فيهم حمادة نفسه، اختاروا البرودة والترقّب: لقد تركوا للأسعد احتكار العداء، مؤثرين التودّد للصدر وانتظار ما سينجم عن حركته. حمادة، كرئيس للبرلمان في 1967، دعم بقوّة مشروع المجلس الشيعيّ الأعلى، وهو ما فعله نوّاب شيعة آخرون كان من المستحيل، أقلّه حيال جمهورهم، أن يعارضوه.

عهد فرنجيّة – الأسعد

الطامة الكبرى كانت انتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة في 1970. كامل الأسعد كان حليفه وصديقه وشريك انتصاره بفعل انتساب الاثنين، ومعهما صائب سلام، إلى “تكتّل الوسط”. حرصُ فرنجيّة على إرضاء الأسعد، معطوفاً على وعيه المناهض لكلّ إصلاح، أحكم إغلاق الباب في وجه الإمام وفي وجه مشروع الليطاني لريّ الجنوب وحزمة مطالب إنمائيّة بسيطة، إن لم تكن بديهيّة.

حادثةٌ أخرى أضافت الغضب الشخصيّ إلى التنافر السياسيّ. ففي 1970، حين انتُخب كامل الأسعد، مرّة أخرى، رئيسا للمجلس النيابيّ، جاء الصدر لتهنئته. الأسعد استقبله ثمّ ودّعه وهو جالس وراء مكتبه لا يتزحزح. في اليوم التالي، نشرت الصحف صورة لرئيس المجلس، وهو متأهّب منتصب القامة، في استقبال واحد من المطارنة المهنّئين.

لا فرنجيّة ولا الأسعد كانا على بيّنة ممّا يحصل على الأرض أو يموج تحتها. فهجرة الجنوبيّين، ومنذ الخمسينات البعلبكيّين، إلى العاصمة، وفّرت جمهوراً للصدر، ولاحقاً لـ “حزب الله”. ذاك أنّ النزوح الريفيّ إلى بيروت، على عكسه في طرابلس، ذو لون مذهبيّ يغاير لون سكّان المدينة “الأصليّين”. لكنّ هذا التطوّر الكبير والمتعاظم رتّب مشكلات لم يكن من السهل تذليلها، لا سيّما بعد ظهور المقاومة الفلسطينيّة وفصائلها السخيّة في توزيع السلاح.

خلال مراسم تشييع الشيخ محمد مهدي شمس الدين

فمنذ 1969 شرعت تظهر تنظيمات شيعيّة صغرى كـ “فتيان عليّ”، وقبضاياتٌ سبق لبعضهم أن تبادلوا الخدمات مع “المكتب الثاني”. لم يكن واضحاً ما إذا كان الصدر مَن أوعز بظهور هؤلاء وأولئك في استعراض قوّةٍ أراده مضبوطاً ومحدوداً، أو إذا كان مصدرَ استلهامٍ لهم في أزمنة مضطربة تستدرج الزعماء الحُماة. في الحالات جميعاً، تململ نطاقٌ شيعيّ عريض شكّله الحِرَفيّون وأصحاب الدكاكين الصغيرة وبائعو الخضار المتجوّلون والثابتون، وتجّار الأدوات المنزليّة البسيطة، المهاجرون من قضائي صور وبنت جبيل. هؤلاء، ممّن أقاموا في النبعة وبرج حمود، ربطتهم بالتجمّعات الفلسطينيّة المقيمة في تل الزعتر علاقات جيرة متفاوتة المعاني، التعاطفُ والتضامن فيها يتاخمان التنافس والعداء واليقظة على التباين المذهبيّ. المؤكّد أنّ السلاح كان مادّة التبادل وجسر التأثّر والتأثير.

يومذاك شاع البحث عن هويّات تمكّن الجماعات المهاجرة والقلقة وتحميها في مواجهة جماعات قلقة أخرى، أو تطرد تفتّتها وجهل واحدتها بسواها عبر استنباط لحمة عقائديّة توحي بتوحيدها وتقيم التعارف بينها. وفي زمن كذاك، زمنٍ كان ينضح بترهّل الدولة وعقم السياسة وتفاهة السياسيّين، بات السلاح الشرط الشارط للهويّة الصاخبة. فإذا كان السلاح من دون هويّة يشبه العمى، فإنّ الهويّة من دون سلاح تشبه الشلل.

“للناس عالمهم ولنا عالمنا”، هذه كانت حكمة العائلات السياسيّة الهرمة

من ناحية أخرى، تأدّى عن الأزمة الاجتماعيّة، مصحوبةً بالتخلّي عن الخطط الشهابيّة في ما خصّ المناطق الحدوديّة والعشائر، توسُّعُ ظاهرة “الطفّار” في البقاع. التنظيمات الفلسطينيّة المسلّحة، خصوصاً منها تلك المدعومة من سوريّا، شرعت تسدّ بعض تلك الفراغات استقطاباً وتسليحاً. التقاطع الإيديولوجيّ بين التنظيمات الفلسطينيّة وأحزاب اليسار اللبنانيّ كان يدفع الأولى إلى استيراد الرواية السلبيّة عن الصدر كما صدّرتها الثانية.

الانطباع الخاطىء

انتخابات 1972 أعطت انطباعاً ما لبث أن تبيّن خطؤه في وقت لاحق: اليسار وحلفاء المسلّحين الفلسطينيّين يستولون على الأفق. يومها، وفي مواجهة كامل الأسعد الذي فاز بـ 15 ألف صوت، استطاع صديق الشيوعيّين حبيب صادق أن ينال أكثر من عشرة آلاف صوت. البعثيّ السابق علي الخليل انتُخب نائباً عن صور. لدى الطوائف والمناطق الأخرى، بدت الأمور مشابهة: ألبير منصور، صديق الشيوعيّين بعد ماضٍ بعثيّ، انتُخب في بعلبك. البعثيّ عبد المجيد الرافعي في طرابلس. الناصريّ نجاح واكيم في بيروت الثالثة. كذلك رُشّح عن طرابلس، ونال أرقاماً معقولة، الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ نقولا الشاوي. خالد صاغيّة، صديق البعثيّين، شكّل في عكّار أوّل لائحة في تاريخها لم يتمثّل فيها البكوات المراعبة فيما ضمّت السوريّ القوميّ فؤاد عوض. صديق الشيوعيّين علي سعد والبعثيّ فايز قزّي اختيرا على لائحة كمال جنبلاط في الشوف. القوميّ العربيّ مصطفى صيداوي رُشّح في طرابلس، النقابيّ الشيوعيّ الياس بواري في كسروان، يساريّون وقوميّون على نحو أو آخر، كمعين حمّود وأسامة فاخوري ومحمّد زكريّا عيتاني، رُشّحوا في بيروت. كذلك فعل محمود طبّو في الضنّيّة. السوريّان القوميّان أسد الأشقر وعبد الله سعادة خاضا معركتي المتن الشماليّ والكورة. هؤلاء كلّهم أحرزوا أرقاماً جيّدة.

بطبيعة الحال كان ردّ هذه النتائج إلى إقبال إيديولوجيّ على العقائد القوميّة واليساريّة ضرباً من السذاجة، سيّما وأنّ معظم المرشّحين المذكورين تحالفوا انتخابيّاً مع “تقليديّين” و”رجعيّين”، أو أخفوا وجوههم العقائديّة حين خاضوا انتخاباتهم. لكنّ هذه السذاجة الاحتفاليّة في تأويل الحاضر ورسم طريق المستقبل قابلَها الغباء الاحتفاليّ لزعماء عالقين في ماضٍ لا يمضي. هؤلاء كان التاريخ يطويهم بطرقه العجيبة والكثيرة فيما هم غافلون تماماً، يستغرقهم استئناف ألعاب دمويّة وغير دمويّة لعبوها قبل عشرات السنين: في ذاك العام نفسه، 1972، اغتال شابّ من آل الزين عبد الله عسيران، نجل عادل الذي هزم عبد الكريم الزين في انتخابات دائرة الزهراني عامذاك. فـ “للناس عالمهم ولنا عالمنا”، هذه كانت حكمة العائلات السياسيّة الهرمة.

إقرأ أيضاً:
الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (1)
الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (2)

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!