fbpx

النسيان ليس أبيض

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
كلمُن

كنتُ ألهو بهذه الفكرة عن النسيان، المرارات التي تبقى أسوأ من الذكريات، ما من صفحات بيضاء. النسيان نفسه ليس أبيض. هناك فقط صفحات موسخة، أتساءل إذا كان من الممكن تنظيفها، أن نجد لها نهايات أخرى. الوقائع تزول وتبقى مرارات من الصعب تبديلها. أفكر، أتساءل مع ذلك إذا كان يمكن أن نتجرأ على ذكرياتنا، أن نلعب معها، أن نكذب عليها. لماذا لا نخترعها كما نخترع أفكارنا ونضع لها نهايات من عندنا

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عبّاس بيضون

ذكرى ماجدة

كنت إذاً ألهو بهذه الفكرة عن النسيان، المرارات التي تبقى أسوأ من الذكريات، ما من صفحات بيضاء. النسيان نفسه ليس أبيض. هناك فقط صفحات موسخة، أتساءل إذا كان من الممكن تنظيفها، أن نجد لها نهايات أخرى. الوقائع تزول وتبقى مرارات من الصعب تبديلها. أفكر، أتساءل مع ذلك إذا كان يمكن أن نتجرأ على ذكرياتنا، أن نلعب معها، أن نكذب عليها. لماذا لا نخترعها كما نخترع أفكارنا ونضع لها نهايات من عندنا.

في الخامسة والستين لا نخاف من الذكريات، لقد فشلت جميعها وليس لديها ما تطالب به. بعد قليل لن يهم التأكد من أنها حدثت فعلاً. يمكننا عندئذ التحكم بها بلا حرج. أفكِّر أن الذكريات التي لا نكترث لها قد تكون هي الأكثر تأثيراً. لا نحتاط لها على الإطلاق لذا تبقى على حالها. تعسّ في داخلنا، وربما يكون القلق الغامض الذي يداهمنا آتياً من واحدة منها. أفكر ساخراً بالتنقيب عنها. هكذا يمكن تحييدها وإفشالها. أفكِّر بترتيب للذكريات يبدأ من الأسفل. من الأسفل حيث علينا أن ننقب كثيراً لنجد أشباه ذكريات، ذكريات طحلبية تنمو هناك. ليست لنا تماماً لكنها لمستنا وبقيت.

اختفى السعال، امّحى تماماً من بلعومي. حاولت أن أستفزّہ لكنه لم يتحرك. لم تخرج من بلعومي سعلة بل زفرة. لم تخرج بالضبط من بلعومي بل سمعتها. لقد مرقت جنب أذني وكأن واحداً غيري نفخها فيه.

أفاجأ أنها لا تزال هناك لكني لا أجد اسماً. ليس هذا مشكلة فأنا غالباً ما أبدل الأسماء. ليس هذا للتمويه فحسب، لكني أفكِّر أن شخصاً باسمه الحقيقي لا يستجيب بسهولة للعمل القصصي. لا بدَّ من كسر شيء فيه، اسمه أولاً، ليسهل إدخاله في قصة. مع ذلك لا يرضيني اسم آخر. أظل أبحث عن الاسم الذي أشعر بأنه وحده يلائم تربيعة وجهها وبساطته. أجده في النهاية: «ماجدة» وأحتفظ به. ماجدة لا تزال بعد كل هذا الزمن موجودة. وجهها الهادئ الساكن القليل الملامح. ربما صار هكذا الآن بعد كل هذا الوقت، ليس طفليّاً ولا ناضجاً، ليس شاحباً ولا دموياً. أستطيع أن أستطرد كثيراً في القول إنها ليست هذا ولا ذاك. ربما هي الآن في البين بين الذي هو في النهاية مستودع كل أسئلتنا وأفكارنا. البين بين الذي هو أيضاً هدف أشواقنا.

كانت ماجدة صديقة لأختي، التي تصغرني بستة أعوام. كنا نعرف، وتعرف هي، أنها تحمل ثقباً في قلبها وعليها أن تتحمّل عملية جراحية قد لا تنجو منها. كان قلبها مثقوباً وكان طولها النحيل وتربيعة وجهها وعيناها المسحوبتان هي سحر هذا الوجود المريض والحدود الرقيقة لانكساره. ذلك الوقت كنت قرأت «فرتر» لغوته الذي أحسب أن أثره في بدايات الرواية العربية لا يزال خافياً. كنت قرأت الرومانطيقيين العرب وغير العرب. ولم أرَ فرقاً بين ماجدة وبين القصائد التي في رأسي. كان الموت لا يزال ملاكاً وكانت هي بصوتها وشكلها حاضرة تماماً لهذا الزفاف الأخير. لم يكن العذاب ولا الصراع على وجهها ولا أتخيّل أنها فوجئت بالموت أو أطلقت في وجهه صيحة. كانت هناك فقط الرقة التي لا تخاف والتي كان عليّ أن أجازيها بحب عظيم، بل ربما كنت أشعر أن حباً عظيماً قد يقدر على إنقاذها. لم أملك في يوم حباً بهذا القدر ولا قلباً قادراً على حمله. جرى كل ذلك أمام عيني لكني لم أستطع أن أتحرك. كان الموت يقترب لكني لم أفعل شيئاً. لا بدَّ من أننا تحادثنا لكي لا أذكر ذلك، ربما لم تكن سوى كلمات دارجة ذهبت ماجدة إلى عمليتها ولم أسأل أين. لم تعد من العملية. وها مر كل هذا الوقت على ذلك وما زلت أتذكر أن ملاكي مرّ قربي لكني لم أكن جاهزاً. مرَّ قربي لكن ليختفي بلا عودة.

هل أستطيع الآن أن أمنع الموت بأن يتركها لي. أعرف أنّني لم أملك في يوم ذلك القلب الذي يستطيع أن يمنعه. هل يمكنني أن أتدخل في العملية، وماذا؟ بيديّ الخرقاوين الطائشتين اللتين لا تستطيعان حمل كأس. مع ذلك لا بدَّ من شيء. الكتابة عن ماجدة بعد أن نسيها الجميع بدون شك. تجديد الألم من أجلها. أليس هذا أمراً مختلفاً عن الضحك على الذكرى وأمرها بالرحيل. هل أزيد مثلاً مشهد مضاجعة في الحمام، كما حدث لي مع تلك البلهاء التي تلاشت بين يدي، وبيني وبين أهلي المجتمعين في المطبخ وراء الباب نصف المشقوق ولم ينتبهوا كما يحدث عادة في مثل هذه الأمور. مشهد مضاجعة لتحطيم الصورة الملائكية لماجدة وتحصينها بحياة وقوة يجعلانها، حتى في غرفة العمليات، قادرة على مقاومة الموت.

الشهيد «زاهي»

هل كنت أستطيع شيئاً لزاهي الذي قتل في معركة الدامور. كان لزاهي فك حصان، جسده الكبير كان أيضاً لحصان. هذه الجاذبية كنت لأستحبّها لبطل سينمائي. لكن لزميل، لرجل بيننا، فهذا كان فوق طاقتي. لم يكن هكذا بالتأكيد شعور المعلمتين الوحيدتين في الثانوية اللتين شكلتا معه منذ ذلك الحين ثلاثياً دائماً. لم أدرِ إلى الآن ما الذي جرى بينهم. بل لا أدري ما الذي صار بين الجميع، فالعلاقات ذلك الحين كانت تحدث بين الكل دفعة واحدة، شبيهة بضجة عالية تغطي على أي صوت خاص وتحول دون أي انفراد. كان الثلاثة معاً. بعد رحيل زاهي أفصحت دموع إحداهن عن استهواء بينهما. أما قبل ذلك فكنت الوحيد الذي لم ينجذب لزاهي. كان جميلاً وفتيّاً وغنياً واندفع فعلاً كحصان مفلت من السياج. أحب الجميع، كبر جسمه وفرقعات كلامه وشعوره القوي بنفسه. تصرّف بطبيعيّة فائقة كفتى جميل وغني وأستاذ شاب في ثانوية. كنت الوحيد الذي لم ينجذب لزاهي. لم يكن لديه بالنسبة لي ما يتمتع به. كان عادياً لكنه لا يحتاج إلى أي ميزة لينجح. لم أحبّ أجوبته ولم أحب أكثر استعداد الآخرين الدائم لاستحسانها. لم أحب لبسه على الموضة، ففي ذلك الحين كنا نخاف من أي خصوصية ونتبع الموضة باحتراس، ننتظرها حتى تعمّ تماماً. ونجرّبها بدون أن يلاحظ أحد.

فاجأني أن الحصان الذي لا يهدأ، شاب الموضة الذي يشبه فتيان المجلات، ذو الأناقة الصالونية، انخرط في العمل السياسي. انتمى لمنظمة العمل الشيوعي ومنذ ذلك الحين صرنا نلاحظ، أنا خصوصاً، تفانيه في عمله مدرّساً، متابعته لطلابه في بيوتهم والدروس الخصوصية المجانية التي يعطيها لهم. كان يعيش بينهم داخل الصف وخارج الصف، وبالتأكيد كان لبساطته ومباشرته ووسامته وحتى جاكيتاته التي على الموضة، سحر هائل على الجميع. جالسته أحياناً في المقهى. هذه المرة كان أخاً صغيراً، أحببته هكذا ولم أستطع أن أفهم ماذا فعلت بضعة أشهر فيه. لم أدر أن القدر كان يفعل، أن الموت نفسه كان يفعل. ففي بضعة أشهر تم كل شيء بسرعة لإعداد البطل لموته وإعدادنا نحن للجنازة الكبيرة.

بضعة أشهر كانت كافية ليتحول الدون جوان إلى مقاتل. لم نصدّق حتى سمعنا أنه يتدرب ويشارك في معارك. طالما تكلمنا عن الثورة، لكن لم نفكر أبداً بأن نقتني سلاحاً. لم نكن أهل سلاح ولم نفكّر أننا سنصنع الثورة. لم نفكّر رغم أن السلاح كان كثيراً وعلنيا لكنه كان في أيدي مرتزقة وصعاليك. لذا تورّعنا عنه واحتقرناه، أما وهو في أيدي زملائنا، المتكلمين مثلنا، فبدا أعجوبة. كان هكذا جديداً ونبيلاً ومستقبلياً.

كانت الدامور ساقطة لكنهم لم ينتظروا أن تقاوم. أصيب زاهي تحت ركبته. تمزق وريده وانفجر الدم…

صديقنا الصغير انتقل بسهولة وبساطة إلى الثورة بينما نحن بقينا طوال الوقت نتردّد عند كلمتها. كان هذا هو السحر. وجدنا فجأة الحلّ، أو كان موجوداً دائماً أمامنا، واحتاج فقط إلى شجاعة رجل واحد. زاهي نفسه بدا متفاجئاً. اختفت طاووسيته وضجيجه وحتى صوته صار منخفضاً. مرتين أو ثلاثاً جالسته في المقهى، وكانت أجوبته سريعة وتقنية. في الحقيقة كان يريد أن يسمع أكثر. أما ما حيّرني قليلاً فهو إحساسي أنه يغالب شعوراً سيئاً.

أيقظني عبد اللطيف. سألني بعجلة إذا كنت ذقت طعاماً. حين تأكد أخبرني أن زاهي مات. أخبار كهذه تجدنا متراصين من الداخل في مواجهتها. ما إن نسمعها حتى نستجمع كل قوتنا ونسد كل ثغرة فينا. إنها في الحقيقة تسقط على سطح صلب. لا تجد منفذاً وغالباً ما تنزلق عنا. لكني سمعت الخبر كأني أعرفه، لا يمكن أن نحصل على بطل بطريقة أخرى. نحتاج إلى بطل وها هو، إنه هدية إلينا، بطلنا نحن، بطلنا نحن أصدقاءه وزملاءه. لقد مُنينا بخسارة عظيمة، لكنها خسارة نستحقها. إننا ندخل معاً إلى الملحمة، معاً نصعد إلى السماء التراجيدية، سنغسله بدموعنا لكنها أيضاً دموع النفس التي تدفقت ينابيعها وماؤها. النفس المحلقة بحزنها، المتجذرة بتجربتها. سنتقاسم هذا القربان مع الآلهة. لا نعرف أي مباركة وأي شفاعة استحققناهما.

بكينا وبكينا طويلاً. لم أجد دموعاً بهذا القدر عند رحيل والدي. ثمة ما حبس دمعتي، ما أحرقها كما يقولون. في جنازة زاهي، كنا نتوقف لنبكي عند كل درجة. نجلس ونحن نبكي. ننفجر كلما التقت أعيننا، وكلما سمعنا اسم زاهي. نبكي كل وقت، ننشج بغزارة لنستحقه بدموعنا. إحدى المعلمتين المسيحيتين التي كانت تسكن في صيدا داومت على حضور العزاء كل يوم وبكت هي الأخرى طويلاً. المعلمة الثانية التي كانت من الدامور لم تأتِ بالطبع.

أصيب زاهي في المعركة، ذهبوا إليها كما لو كانوا ذاهبين إلى باربكيو. كانت الدامور ساقطة لكنهم لم ينتظروا أن تقاوم. أصيب زاهي تحت ركبته. تمزق وريده وانفجر الدم. حملوه في سيارة مع تلميذه. لم تكن هناك ممرضة ولم يعرف التلميذ كيف يوقف النزف. لو وجد خبير كان وصل خيطاً متيناً بقضيب ولفه على فخذ الجريح إلى أن يسد الجرح تماماً. التلميذ لم يجد سوى حزامه العريض فشده على ساق زاهي لكن الدم بقي يتدفق إلى أن نزفه كله قبل الوصول إلى المستشفى.

ما كان في وسعي أن أفعل شيئاً، يصعب عليّ حتى بعد 35 عاماً أن آتي في ثياب ممرضة. لكن هذا الخيط اللعين الذي توقفت عليه حياة زاهي كان موجوداً بوفرة في أي مكان. ساوت حياته خيطاً. هذا الحصان الكبير لم يشتره أحد بخيط. مع ذلك أفكِّر أن 35 سنة كافية لتبدو الحرب نفسها بلا فائدة. يمكن أن نبطلها كلها ونحرر الموتى. يمكن أن نطلقهم بدون خوف، فمن يتذكر الآن أنهم وجدوا. في الواقع وصمت الحرب كلها ووصم من اشترك فيها. ولإنقاذ زاهي علينا مرة ثانية أن نجد الخيط.

على ما روى محمد، كانت الشاحنات تقف قريباً من المدينة. أمامها حشد من تجار ووجهاء ينتظرون نهاية المعركة. هدأ الدويّ وبقيت رشقات قليلة. كان لديهم أجهزتهم اللاسلكية فاتصلوا بالقادة في الميدان واطمأنوا إلى زوال الخطر. تقدموا مع شاحناتهم وعمالها إلى الداخل وتوقفوا تحت البيوت. صعد العمال وفي دقائق كانت السجاجيد والفرش والستائر والأسرّة وأفران الغاز والغسالات والبرادات تنزل إلى الشاحنات. بعضهم توجّه بشاحناته إلى حيث أتى. بعضهم عصي عليه السائق والعمال ونازعوه على الغنيمة. بعضهم تركه السائق على الأرض وهرب وحده بالأسلاب. ستكون هذه هي الغزوة الأولى. بعدها سيأتي لصوص الأبواب والنوافذ. ثم سيأتي سقط اللصوص ليقتلعوا البلاط. سارت الشاحنات لكن الطلقات استمرت، فالمقاتلون شربوا واحتفلوا طوال الليل. بعضهم طارد الحيوانات وصوّب عليها. بعضهم اصطاد أطفالاً لم يستطيعوا الهرب في الوقت المناسب. بعضهم وجد عجائز متترسات في بيوتهن فاغتصبهن.

ما كان يجوز أن يموت زاهي من أول مرة. أن لا يصمد في أول معركة. كان عليه أن يعيش بعدها. أن يتجاوز عشرين معركة ليصفّي حسابه مع الحرب كلها. كان عليه أن يقفز مراراً فوق الخيط الذي ليس خيطاً بين الموت والحياة فقط، لكنه أيضاً بين القتلة والصادقين، كما هو أيضاً بين التجارب المتغيّرة والفرص لمحاكمتها، بين الظروف والنوايا. كان عليه أن يقفز عشرين مرة… فوق الخيط، أن يحظى بعشرين فرصة ليخرج متساوياً مع نفسه وزمنه، لأن الخيط الذي قد يكون الفارق يحتاج إلى زمن.

في عزاء زاهي كنت أعرف ما جرى، أخبرني إياه محمد لكن محمد عاش بعدها واستطاع في عشرين دورة أن يصفّي حسابه كله. زاهي الذي لا أعرف كم سيكون عمره الآن ما يزال بحاجة إلى ذلك الخيط، وعلينا نحن الذين عشنا أن نجده له. علينا أن نخرجه من حرب الكميونات والمغتصبين واللصوص هذه إلى خارج الحرب.

«مكتبة أبي»

لو كان لأبي أن يكون شيئاً آخر لكان مجلداً حيّاً، ولربما فضّل أن يكون واحداً من أجزاء تاريخ الطبري. لم تكن لغته الكتبية وحدها تؤهله لكنه بمعطفه الأبرش وقشرة الشعر البيضاء المنثورة على ياقته، وربما بطاقيته البنية المطوية على رأسه، كان يبدو أشبه بمخطوط منتفخ اختلطت السطور على جلدته، وسالتعلى بعضها.

لم أجد كتباً كثيرة في بيتنا حين انتقلنا إلى المدينة لكني لم أجد إلا كتباً، كتباً كبيرة ومخطوطات مسنّة بقيت مجهولة لي. لم أعرف فحواها إلى أن أطبقت أفواهها تماماً لفرط ما مضغته من غبار. لم تكن كتب أبي وحده، جدي الأفندي كان يحفظ تاريخ الطبري الذي لم أجرؤ على لمس أجزائه. لم نكن نبدّل أثاثنا كثيراً لكن والدي كلف نجاراً أن يصنع مكتبة جديدة، وكانت هذه لامعة وذات مصراعين زجاجيين. احتجت إلى وقت حتى تأكدت من أنها أكثر من خزانة. كان سوادها اللامع غير متناسب مع الكتب الثقيلة والمقشرة التي زادها تجليدها، الذي تدرّب عليه أبي بغير مهارة، سماكة. كان الخشب المشبع بالغبار والداكن الذي يجثم في تجاويفه، من قبل، أكثر مناسبة. كانت الكتب بظهورها الخشنة تبدو فيه أشبه بطيور في أوكارها. شعرت هكذا لدى أي تجديد في الأثاث، غادرت سريري المجوّر آسفاً. لكن الكتب التي بدت كبيرة بالنسبة إلي لم تعد كذلك. لقد تساوينا مع الوقت كابن صار في طول أبيه، ثلاثة وأربعة من بينها كانت تنزل بوقار تام كل بعد ظهر، حين يحضر أصدقائي وتوضع كأناجيل على الطاولة ونتولى القراءة فيها بالتتابع بصوت عال: ديوان المتنبي، ديوان ابن الرومي، الشوقيات.

الكتب الجديدة التي نشتريها كانت تخرج من البيت أما هذه فلا. كنا نفهم أن مثلها لا يعود إذا خرج. روى أبي أنه أعار بيته في صُوْر حين أقام في القرية التي يعمل فيها مدرساً، إلى القاضي، القاضي الذي هو القانون أي الكتاب، ثم عاد ذات يوم إلى بيته فوجد القاضي نفسه عبث بالمقتنيات، والأسوأ أنه فرّط في الكتب، أباحها لأصدقائه الذين رموها في كل مكان ولم تعرف قط طريق العودة. كان هذا بالنسبة لأبي طيشاً لا يليق بالقاضي الذي لم يعرف كيف يضبط بيتاً فكيف يضبط مدينة، كأنه إذ أتاح الكتاب لأصدقائه رمى القوانين نفسها أرضاً وجعلها لعبة في أيديهم. لم يكن القاضي بسبب ذلك عند أبي سوى أحمق ثرثار.

صوت والدي الذي لم أسمعه إلا وهو مغطى برطاناته، صوته موجود، على نحو ما، هنا

ضاع صندوق مليء بمجلات «العرفان»، كما ضاعت أكياس خيش مليئة بصكوك الأرض، لا أعرف إلا أنها اختفت، أكان ذلك قبل رحيل أبي أم بعده، اختفت فحسب. كان في الأكياس قرى وأطنان مملوكة على الورق وحده. ليس تاريخ العائلة وحده ولكنْ ثروتها أيضاً تحولا فقط إلى حمل ورقي. لم أنظر في هذه الأوراق. كنا نكتفي بحجمها وننقلها بدون أن نفضّها فوق سقوف الخزائن. كان جد أبي هو المؤسس البعيد والأول لكل التراث الذي ينام بأمان في الأكياس. كنا نعيش على الكفاف لكن لا نشعر بحاجة. ما زالت لنا كل هذه الثروة المخبوءة في الأوراق. كانت الخطوط المتعرجة والأختام والبصمات والأسماء الغامضة والشهود الموتى والديباجات العقارية هي كود حياتنا. لم يزر أبي بلدته من قبل ولادتنا ولم يفكر بأخذنا إلى هناك. لم يهتم حتى بزيارة قبر أبيه. كان يعرف أن كل ذلك صار على نحو ما في الأوراق، كما لو أن العالم كله صار في مجلدات الطبري. مع ذلك اختفت الأكياس وغالباً في حياته. في ما بعد رأيت نبذة منها ملصقة على أوراق دفتر. ربما أراد أبي أن يختصرها أو بالأحرى يضغطها في هذا الدفتر. ربما كان هكذا يستطيع أخيراً أن يجعل منها كتاباً.

قلَّت ثروتنا الورقية. أظن أن والدي انتخب منها، هكذا جعل منها تاريخاً.

بعد رحيل والدي انتقلنا إلى حي جديد، حملنا المكتبة بما فيها إلى الصالون الطويل للغاية وهنا بدا أنها وجدت مكانها. كان الصالون يحتاج إلى واسطة مثلها، بدت كالميدالية في منتصفه. كانت مجدداً محل أنظار الجميع. كنت أخرج «الكامل» للمبرد أو تاريخ الطبري وأفتح الكتاب، كما اتفق، وأبدأ من هناك قراءة شطر ما إلى أن أملّ. كنت أحسب أني أقرأ هنا بين القراءات، أرتاح هنا من القراءة، فهذه ليست قراءة بل زيارة. زيارة لست فيها وحيداً، كنت محتاجاً إلى أن أستعير عيني أبي لأقرأ. هذه الصفحات الصفراء واليابسة لم تكن تخيفه كما تخيفني الآن. وبالتأكيد لم يتعب مثلي من قراءة المتفرقات الشبيهة بحطام فخاري كما جمعها كُتّابها الذين كانوا على نحو ما أثريّي عصرهم. هذه بالنسبة له لم تكن حفريات كما هي بالنسبة لي ولم يرغمه شيء على أن يتصرف كأثري غير مدرّب وأن يضيع في البقايا، ثم إنه لم يطلب مثلي حكاية كاملة. كان الناس بالنسبة له كلمات وعبارة واحدة تكفي لتصنع شخصاً أو قصّة. بالنسبة لي لم أسع إلى أكثر من أن ألقي نظرة. كانت العبارات المأثورة شبيهة بقصور تاريخية، كانت تحفاً حتى بالنسبة لواضعيها الذين حملهم اكتشاف الزمن المرعب على أن يضعوا هذا السد في وجهه، حاولوا أن يجعلوا من عصرهم دليلاً للمستقبل، وأن يرسموه كحد فاصل وسط الأبدّية. كنت فقط أزور، وفي لحظة ما يعاودني الشعور بأن والدي هو الكتاب، وأكاد أسمعه بصوته.

كتب والدي كتابين منشورين وترك مخطوطين، المخطوطان هما رواية ومسرحية، الرواية بعنوان «جميلة النهار» والمسرحية نسيت عنوانها. كتاباه المنشوران كانا ثمرة قراءاته: «أم سلمة» إحدى نساء النبي و»موكب النور في سيرة الرسول»»، أما مخطوطاه فأحب أن أفكِّر أنه سرب إليهما شيئاً من حياته. روايته تصف حباً بين معلم ومعلمة. ألم يكن معلماً هو، وهذه المرأة إذا لم تكن حقيقية، ألم تكن على الأقل موجودة في أحلامه. لا يمكنني أن أقابلها بأمي التي كانت بأذنيها المشرومتين والثقب المتخلف في أنفها أبعد من أن تكون «جميلة النهار». لم نتكلم في ما بيننا عن النساء، ولم يُبدِ أن له حلمه عنهن. هذه الرواية حتى في أسلوبها العائم تخفي شيئاً لا أريد فكه، لكن صوت والدي الذي لم أسمعه إلا وهو مغطى برطاناته، صوته موجود، على نحو ما، هنا.

هذا المقال مأخوذ من مجلّة كلمُن وللاطّلاع على المقال الأصلي زوروا الرابط التالي