fbpx

سينما طرابلس: أيام صباح وأم كلثوم وصالات ساحة التل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

علاقة طرابلس بالسينما لا تشبه أي مدينة أخرى. تفوّقت عاصمة الشمال على بيروت لجهة عدد صالات السينما وأحجامها وتصاميمها، إلا أن الهَجر أنهى عقوداً من الانسجام، فلم تعد طرابلس مركزاً للثقل الثقافي ولم تعد السينما العربية نافذةً للانفتاح والإبداع، ومنذ ذاك الحين والصالات تقفل أبوابها تباعاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عندما بدأت هذا التحقيق، كان المخرج الطرابلسي اللبناني جورج نصر أول من لجأت إليهم، فهو واحد من الذين عاصروا عزّ السينما في طرابلس وعايشوا تفاصيله عن كثب. سرد لي نصر قصصاً كثيرة، وبين حكاية وأخرى، كان يمرّر كلمات عتب على الدولة التي تترك مبدعيها يهلكون وحيدين، من دون أي التفاتة ولو معنوية إليهم. لم أستطع أن أجيبه حينها، ولكنني عزمت على أن يكون هذا النص بمثابة التفاتة بسيطة وصادقة، تُعيد إليه ورفاقه بعضاً من ذاكرتهم الجميلة والقصص التي كلّلوها بالحنين والدمع، لكنه رحل قبل كتابة هذه السطور. وعليه، لا بدّ أن أتقدم منه باعتذار على الملأ، فقد تشابهتُ ودولتنا يا أستاذ جورج وقصّرت… إليك أيها المُبدع أهدي هذا النص. ألف تحية لروحك أينما حلّت.

جلس حمادة على كرسي البار الخشبي منهكاً. مسح بيده العرق المتصبب من جبينه. ألقى نظرةً على الحضور، ثم حَمَل الصينية التي وضع عليها الحاج أبو سعد “كاسات” الشاي المُحلّى وانطلق يوزّعها على الطاولات. أزيز معالق وسكاكين و”كركرة” نراجيل، ملأت فضاء مقهى “التل العليا” تلك الليلة. همسات الجمهور خرقت هدوءه المعتاد. عشرات الطرابلسيين حضروا لاستعادة ماضٍ سُلب منهم على حين غرّة. “لحظات وينطلق العرض”، صرخ أحدهم. عدّل الحاضرون جلساتهم تأهباً. ما إن مضت لحظات صمت، حتى علا التصفيق مع انطلاق شارة فيلم “الوردة البيضاء” للراحل محمد عبد الوهاب.

أعاد ذلك العرض الحياة إلى السينما الصيفية التي اشتهرت بها طرابلس، وتحديداً مقهى “التل العليا” لسنين خلت. كان المجلس الثقافي للبنان الشمالي صاحب فكرة إعادة إحياء تلك التجربة، ولم يأت اختيار الفيلمين اللذين عُرضا في ليلتين متتاليتين عن عبث. فـفيلم “الوردة البيضاء” من إنتاج عام 1933، كان أول فيلم عربي ناطق، وأول فيلم عُرض في “التل العليا” منذ ما يزيد عن 80 عاماً. أما الفيلم الثاني فكان “غزل البنات”، الذي جَمَع في بطولته نجيب الريحاني وليلى مراد، وترك أثراً بالغاً في نفوس الطرابلسيين، لما حققه من نجاحٍ جعله الأول في شبابيك التذاكر لأسابيع.

علاقة طرابلس بالسينما لا تشبه أي مدينة أخرى. تفوّقت عاصمة الشمال على بيروت لجهة عدد صالات السينما وأحجامها وتصاميمها، إلا أن الهَجر أنهى عقوداً من الانسجام، فلم تعد طرابلس مركزاً للثقل الثقافي ولم تعد السينما العربية نافذةً للانفتاح والإبداع، ومنذ ذاك الحين والصالات تقفل أبوابها تباعاً.

كان لوسط طرابلس حصة الأسد من تمركز صالات السينما، إذ ضم ما يزيد عن 40 صالة عرض، وتوزعت الصالات الأخرى على الشكل التالي: صالتان في باب الرمل، أربع صالات في باب التبانة، و7 صالات في مدينة الميناء. أكبر تلك الصالات وأكثرها حداثة هي سينما “كولورادو” التي تضم 900 كرسي إلى مسرح وبلكون فسيح، صُمما على الطريقة الأوروبية وخصصا للعروض الفنية والأوركسترا الضخمة، لكنها الآن برسم البيع.

أول صالة عرض في المدينة كانت سينما “أمبير” التي بُنيت في ثلاثينات القرن الماضي، وعلى رغم أنها أقفلت أبوابها أمام الرواد منذ عام 1980، إلا أنها لا تزال على حالها، جميلة كما تركها زوارها، مُزيّنة بأجنحة خاصة بالذوات والوجهاء وصالة ضخمة للعموم وتجهيزات فاخرة للإضاءة، إضافةً إلى كراسٍ شُحنت خصيصاً من إيطاليا.

بدأت دور السينما تنتشر من ساحة التل وتفرّعت في اتجاهات مختلفة، وبخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فتم اقتطاع قسم من مقهى “التل العليا” وتحويله إلى صالة عرض صيفية للأفلام المصرية. توقفت هذه العروض مع بداية الحرب الأهلية عام 1975. وتحوّل قسم من مسرح “الإنجا” ذائع الصيت في المدينة، والذي كان يُعرف أيضاً بـ “زهرة الفيحاء”، إلى صالة للسينما أطلق عليها اسم “البيروكي”، بُنيت على طراز المسارح الإيطالية المخصصة للعروض المسرحية والأوبرا. تألفت الصالة من قاعة فسيحة وعلى جانبيها حُجرات صغيرة للرواد من ذوي الثراء، وتخصصت بعرض الأفلام المصرية أيضاً. كان الإنجا مركز استقطاب لأهم مشاهير العالم العربي، منهم السيّدة أم كلثوم التي غنت على مُدرّجه. حالياً، لم يبقَ من الإنجا سوى مبنى متهالكٍ جراء هدم أجزائه، بانتظار أن يحلّ مكانه برج تجاري ضخم.  

في الشارع المؤدي من التل باتجاه السراي القديمة بُنيت صالة “الركس”. ثم افتتحت سينما “النجمة” و”الكواكب”، وعلى مقربة منهما في ساحة الحدادين شُيّدت سينما “الشرق”. بعدها ظهرت “الأمير” و”ساميرا ميس” في حارة النجمة، وجميعها صالات تخصصت بعرض الأفلام العربية والمصرية على وجه الخصوص، وأفلام المغامرات الأجنبية، وكانت هذه ميزة صالات العرض في المدينة، فمعظمها كان يعرض أنماطاً محددة من الأفلام.  

معظم الصالات ضمت خشبة مسرح في صدارة قاعاتها لاستقبال الأنشطة والاحتفالات الرسمية والخاصة، واشتهرت كل من “روكسي” و”كابيتول” في احتضان الأنشطة الحزبية والمدنيّة التي كانت تدعو إليها الأحزاب والمؤسسات الأهلية والمدنية آنذاك. أما سينما “الأمير” فكانت لعرض أفلام الكاراتيه، وسينما “ريفولي” للأفلام الهندية، وكل من “بالاس” و”أوبرا” و”كليوباترا” و”رابحة” اهتمت بالأفلام الأميركية والأوروبية.

كانت عروض السينما تمتد طيلة أيام الأسبوع. يبدأ العرض الأول عند الثالثة بعد الظهر، والثاني عند السادسة، والثالث في تمام التاسعة مساءً. أما أيام الآحاد فقد كانت تختنق الصالات بروادها وتشهد الطرق ازدحاماً كثيفاً، يصل في بعض الأحيان إلى حد قطع الطرق بطوابير الناس الذين ينتظرون حجز تذاكرهم.

أسعار التذاكر لم تكن تتخطى الثلاثة فرنكات للصالة، والنصف ليرة أو ليرة ونصف الليرة، للجلوس في حُجرات البلكون، فكان لعشاق السينما قدرة على مشاهدة أكثر من فيلم. أما مدّة العرض فكانت تطول قليلاً أو تقصر بحسب وقت الفيلم. وكانت تتخلل العرض استراحتان، تمر خلالهما مجموعة من الفتيان يبيعون مرطبات ومأكولات.

أما الإعلان عن الأفلام الجديدة لاستقطاب الجمهور فلم يكن مُيسّراً، على رغم أن الصالات بمعظمها كانت تعتمد مساء الأحد موعداً لتغيير رزنامة الأفلام المعروضة، إلا أن صعوبة الترويج لها، دفعت بكل صالة إلى ابتكار طريقة مختلفة، الأمر الذي جعل التنافس بينها يحتدم سنة بعد أخرى.

شفيق مسرة في مكتبة الريفولي

كان لسان بائع الجرائد شفيق مسرّة أهم طريقة للترويج لفيلم ما. الرجل الذي لا يزال إلى اليوم يتنقل صباحاً بين أزقة طرابلس العتيقة منادياً على الصحف الورقية المتبقية بين يديه. يشتم رائحة أبواب الصالات المغلقة وقد أكلها العفن. يمر بذكرياته فيها فيغلبه الصمت. تحكي عيناه تفاصيل ماضٍ محاصر بالحنين، وهو ماضٍ جميل مهما انطوى في الغياب.

شفيق مسرة بيبع الصحف في شبابه

كان أسمر اللون، نحيلاً. شعره أسود كثيف جرده منه الزمن، فلم يبقَ من ملامحه سوى سواد عينيه ونظرتهما الثابتة. كان ينتقل من سينما إلى أخرى منادياً على الصحف، لا سيما في أوقات الذروة، فيُكافئ من يشتري منه بإخباره عن أسماء الأفلام الجديدة وأماكن عرضها وأسماء أبطالها. أهالي طرابلس كانوا يدركون أن الحصول على الخبر اليقين عن آخر إنتاجات السينما، لا سبيل له سوى شفيق مسرة. أحياناً، كان يُنادي مثيراً فضول المارة: “الأخبار الجديدة كلها عنا.,. بالسياسة والسِلَما” (سينما باللهجة الطرابلسية). اليوم، يمضي شفيق معظم وقته في مكتبته، “مكتبة الريفولي”، التي افتتحها بالقرب من سينما ريفولي، التي هُدّمت قبل 3 سنوات وانهار باقتلاعها معلم راسخ في تاريخ طرابلس وذاكرة الطرابلسيين.

صالات أخرى اعتمدت على ماسح الأحذية ليُعلن بلسانه عن جديدها. فكان يمر في ساحات المدينة وبين يديه جرس يقرعه وهو يُردد أسماء الأفلام والصالات العارضة والأبطال. واعتمدت بعض الصالات على لصق إعلانات ورقية على الألواح الموضوعة أمام أبواب المدارس تُعلم المارة بأحدث الأفلام وتوقيت عرضها، إلى أن بدأت كل سينما برفع إعلاناتها الخاصة إلى جانب صورة غلاف الفيلم الجديد أمام باب الصالة.

تميّزت طرابلس في عهد السينما بانتشار النوادي الثقافية وأبرزها ما كان يُعرف بـ”cine club”، إذ كان كثرٌ من مثقفي المدينة والعاملين في المجالات المسرحية والإخراجية، يجمعون الطلاب والهواة في مناقشات حوارية بعد انتهاء الأفلام، يتبادل خلالها الحاضرون انطباعاتهم حول الأفلام المعروضة. ويوضح الأستاذ الجامعي في السينما والمسرح المخرج جان رطل أن “حضور صالات السينما في المدينة لم يكن مهماً على المستوى الترفيهي فقط، إنما أيضاً على المستوى الثقافي والاجتماعي، فقد تزامن صعود دَور صالات السينما مع تطور الحركة الفكرية والثقافية، على عكس ما هو حاصل اليوم، فتراجع السينما أدى بشكل أساسي إلى تراجع الحركات الثقافية بشكل ملحوظ”، قائلاً: “المجتمع كله أصيب بالعطب، ومما لا شكّ فيه أن تراجع الفن السابع وتخليه عن دوره وانصراف صنّاعه للاهتمام بالشق التجاري البحت، أمور جعلت الفكر الجَماعي يأخذ في الانهيار”.

معظم صالات السينما تعود ملكيتها لعائلات طرابلسية شهيرة مثل آل غريّب وآل رحيم وآل خلاط. هناك مبانٍ باعها أصحابها، فيما تم الاستيلاء على مبانٍ أخرى من قبل أصحاب نفوذ أثناء الحرب اللبنانية وما تبعها من أحداث في طرابلس في فترة حُكم حزب التوحيد. عام 1986 حاولت صالات أن تقاوم الأحداث الدموية وأن تعود إلى العرض، إلا أن الأزمة تجددت بقوة، وتجلّت بتقهقر عام على مستوى طرابلس التي سُلخت بشكل واضح عن محيطها، ما أنذر ببداية تراجع السينما وتتالى إقفال أبواب صالاتها. وبحسب رئيس مهرجان طرابلس للأفلام الياس خلاط، فإن “صالات طرابلس بمعظمها ترتبط بذاكرة المدينة، وتشكل جزءاً أساسياً من هويتها، إلا أن الإهمال الذي أصابها وسط صمت رسمي مخيف، فرض واقعاً لا يمكن تجاهله الآن، وهو أن استنهاضها من جديد ليس بالأمر السهل، خصوصاً في ظل غياب خطة ورؤية اقتصادية عملية، تُعيد لطرابلس جزءاً مما فقدته على مرّ السنين”، مشيراً إلى أن “ما لا يمكن نكرانه أيضاً أن السينما على مستوى لبنان كله، تتراجع لمصلحة ثقافة النرجيلة والفيسبوك، فالأفلام السينمائية الحالية لا تُغري غالبية الجمهور اللبناني، لأن الترفيه عموماً بات يحمل مضامين مختلفة عما عرفناه سابقاً”.

سينما ريفولي بعد هدمها

خلاط كان شاهداً على هدم سينما “ريفولي”. تاريخ ذلك اليوم محفور في ذاكرته، فبينما كان خلاط وزملاؤه يفتتحون مهرجان طرابلس للأفلام لعام 2016 الذي حمل أفيشه صورة “سينما ريفولي”، كانت الجرافات تقتلع المكان وتهدم أسراره وتدفن ضحكات من مروا به تحت التراب.

الصالات التي نجت من الهدم أو الختم بالشمع الأحمر لم تنجُ من الإقفال، فعلى رغم أن معظم صالات السينما لا تزال بحال جيدة، إلا أن أبوابها مغلقة بوجه الرواد والزائرين إلى أجل غير مسمى.

يوم زارت الشحرورة سينما طرابلس

عام 1945 سارت تظاهرة شعبية في شوارع طرابلس احتفالاً بالشحرورة صباح، يكاد أهالي طرابلس ينسون أسماءهم ولا ينسون هذه الواقعة. فقد قدمت صباح إلى المدينة في افتتاح العرض الأول لفيلمها السينمائي “القلب له واحد” الذي عُرض في سينما “دنيا”، التي كانت تقع أمام ساعة التل العثمانية. شهدت صالة السينما اكتظاظاً كثيفاً لم تشهد له المدينة مثيلاً، فالجميع احتشدوا، صغاراً وكباراً، كهولاً وشباباً، نساءً ورجالاً، لسرقة ولو نظرة من “الصبوحة”. بعد عرض الفيلم، توجهت صباح إلى منزل زوجها آنذاك، نجيب الشمّاس، الكائن في ساحة النجمة، وسارت خلفها وفود شعبية ضمت مئات الطرابلسيين مرددين أغنياتها وهاتفين لها بعبارات الثناء والتقدير.

فَسّاد السينما

تحوّل ارتياد صالات السينما إلى متنفس أساسي لكل أبناء جيل الخمسينات والستينات في طرابلس، ومع الوقت بدأت الفتيات الذهاب ضمن مجموعات لمشاهدة الأفلام، ولا سيما المصرية منها، خصوصاً بعدما باتت الصالات مختلطة بين الجنسين. على الأثر انتشرت ظاهرة ما كان يُعرف بـ”فسّاد السينما”، وهو عبارة عن شخصية غير معروفة ترتاد السينما لمراقبة ما يدور فيها من نظرات أو سلامات بين الفتيات والشبان، لنقل الأخبار إلى من يهمهم الأمر!

 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.