تستعيد التصريحات الروسية الأميركية المتبادلة، بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، السياق ذاته الذي كان في عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان (في الثمانينات)، الذي كان أطلق مبادرة “حرب النجوم”، أي إلى الدوامة ذاتها المتعلقة بسباق التسلح، التي أدّت، في ما أدت إليه، إلى استنزاف الاتحاد السوفييتي السابق، وتعجيل انهياره، في مطلع التسعينات.
فمنذ أسابيع قليلة أعلن بوتين نجاح روسيا في إنتاج منظومة صواريخ “أفانغارد” عابرة للقارات، وأسرع من الصوت بعشرين مرة، الأمر الذي اعتبره الرئيس ترامب انتهاكاً لاتفاقيات وقف سباق التسلح، مع مطالبة بوقف إنتاجها، بل والتهديد بإشعال سباق جديد في حرب نجوم، تذكّر بسابقتها. هذا الأمر استدعى رد فعل سريعاً، ومتسرّعاً، من بوتين، بإعلانه تعليق موسكو العمل بمعاهدة “نزع الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى” (الموقّعة إبان الحرب الباردة)، كردّ على ما اعتبره انسحاب واشنطن منها.
يذكر أن ردّ ترامب، على إنتاج الصواريخ الروسية، كان تضمن إعلانه عن برنامج تطوير لنظام مضاد للصواريخ الباليستية، وتشكيل “قوة فضائية”، فتصبح الذراع السادسة في الجيش الأميركي، وتطوير أجهزة استشعار في الفضاء، يمكنها رصد إطلاق الصواريخ، وتدميرها لحظة إطلاقها، من أي مكان في العالم، وليس فقط في مسارها.كشف ترامب في كل ذلك سعي الولايات المتحدة إلى جعل الفضاء بمثابة المفتاح لتكريس هيمنتها وترسيخ تفوقها العسكري، على دول العالم، لا سيما أنها تملك الوسائل التي يمكنها أن تفعل ما تقوله، لجهة توفر الموارد المالية، والإمكانات التكنولوجية والعلمية، والكوادر البشرية، والمجال الحيوي، في الأرض والفضاء.
التنافس الأميركي ـ الروسي الجديد، لا سيما مع رئيسين شعبويين، لن يقود إلى شيء مفيد، لمصلحة الشعبين الأميركي والروسي، أو لمصلحة الاستقرار في العالم
لعل هذا التجاذب الصاروخي والفضائي يشكل مناسبة لعقد نوع من مقارنة بين الطرفين الروسي والأميركي، في مجال الجيوبولوتيك، بعيداً من الأوهام أو الرغبات أو المواقف المسبقة، ما يمكن تبينه في المجالات الآتية:
أولاً، لا يوجد أي تناسب في القدرات التكنولوجية والعلمية بين القطاع العسكري والقطاع المدني في روسيا، فالقطاع العسكري الروسي ينمو أكثر بكثير من القطاعات الأخرى الإنتاجية (الصناعية والتكنولوجية والعلمية)، ولعل هذه من أهم نقاط ضعف روسيا، إضافة إلى النقص في التنمية البشرية، وفي نمط الحكم، على رغم ملاحظاتنا على النظام السياسي الأميركي، وهي نقاط الضعف ذاتها التي أدت سابقاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي.
ثانياً، تخصّص الولايات المتحدة 700 بليون دولار للنفقات العسكرية، ما يساوي 12 ضعفاً لمثيلتها الروسية (وخمسة أضعاف مثيلتها الصينية) وهي تشكل 40 في المئة من الإنفاق العسكري في العالم، بل إن موازنة الدفاع الأميركية تساوي نصف إجمالي الناتج القومي لروسيا (1500 بليون دولار)، وثمة تفوق هائل لمصلحة الولايات المتحدة في نوعية السلاح من ناحية تكنولوجية ومن ناحية نظم المعلوماتية والإدارة.
ثالثاً، ثمة فجوة هائلة لمصلحة الولايات المتحدة في التطور العلمي والتكنولوجي، وهي المصدر الأساسي لهذه التطورات في العالم، فضلاً عن أن اقتصادها يساوي ربع الاقتصاد العالمي، 20 ترليوناً من 80 ترليوناً، في حين وصل في الصين إلى 14 ترليون دولار، ووصل في روسيا إلى 1.5 ترليون، مع تفصيل بسيط هو أن عدد سكان الولايات المتحدة 325 مليوناً (4.3 في المئة من العالم) في حين أن عدد سكان الصين 1400 مليون نسمة (18.5 في المئة من سكان العالم).
رابعاً، إذا احتسبنا أن عدد سكان الصين هو أربعة أضعاف سكان الولايات المتحدة، فهذا يعني أن الولايات المتحدة متفوقة على الصين الصاعدة بمقدار ستة أضعاف، بقوتها الاقتصادية (ناهيك بالعلمية والتكنولوجية ونمط الحكم مع كل نواقصه وعيوبه)، وهي أقوى من روسيا اقتصادياُ بمقدار سبعة أضعاف أيضاً من الناحية الاقتصادية مقارنة بعدد السكان).
وفي سبيل التذكير، فقط، فمع سقوط الاتحاد السوفييتي (السابق)، في مطلع التسعينات، لم يسقط النموذج الاقتصادي والأيديولوجي والسياسي، نموذج الحزب الواحد، والدولة التسلّطية الشمولية، فقط، إذ سقط معه نموذج الدولة “الإمبراطورية”، أيضاً، التي كان نفوذها يشمل بلداناً عدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، إضافة إلى أوروبا الشرقية، بما يفوق إمكاناتها أو قدراتها الواقعية؛ هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، فإن اللافت في سقوط تلك الإمبراطورية (1991) حصل من داخلها، وبالوسائل السلمية، ومن دون أي تدخّل خارجي، لا عسكري ولا سلمي، وهو ما كان تنبأ به، قبل عقدين (1970) زبينغيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق (عهد كارتر)، في كتابه: “بين عصرين… أميركا والعصر التكنوتروني” (ترجم الكتاب محجوب عمر، ونشر عن دار الطليعة في بيروت عام 1980). ففي حينه رجّح بريجنسكي ذلك الاحتمال باعتباره أن الاتحاد السوفييتي يخسر في مجالات عدة، أهمها، أولاً، المباراة الاقتصادية. وثانياً، في المجال التكنولوجي ـ العلمي. وثالثاً، في مجال الحريات، وقوة النموذج إزاء مواطنيه.
وباختصار فإن التنافس الأميركي ـ الروسي الجديد، لا سيما مع رئيسين شعبويين، لن يقود إلى شيء مفيد، لمصلحة الشعبين الأميركي والروسي، أو لمصلحة الاستقرار في العالم، فهو لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاستنزاف لروسيا وإفقار شعبها، كما سيؤدي ذلك إلى تضاؤل التقديمات الاجتماعية في الولايات المتحدة، وتالياً دخول العالم حقبة مخاطر جديدة، في المجالات كافة.
إقرأ أيضاً:
المثقف السوري بين لوائح التخوين والتخوين المضاد
عن إسرائيل المُصطنعة ونحن الطبيعيّين