fbpx

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (8)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على مدى الثمانينات، بقي “برنامج” حزب الله محكوماً بحرب الخليج. العمليّات ضدّ إسرائيل عزّزت صورة الحزب كمقاومة للغزاة على حساب صورته الأخرى كأداة لتوسيع رقعة النفوذ الإيرانيّ في لبنان وعلى حدوده.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
محمد حسين فضل الله

على مدى الثمانينات، بقي “برنامج” حزب الله محكوماً بحرب الخليج. هنا تكمن القضيّة التي لأجلها قاتلَ وقتلَ ودفع أكلافاً باهظة، بما فيها متفجّرة بئر العبد، عام 1985. المُستهدَف الأوّل بالمتفجّرة كان محمّد حسين فضل الله الذي درج الإعلام الغربيّ على وصفه بـ “المرشد الروحيّ لحزب الله”.

العمليّات ضدّ إسرائيل عزّزت صورة الحزب كمقاومة للغزاة على حساب صورته الأخرى كأداة لتوسيع رقعة النفوذ الإيرانيّ في لبنان وعلى حدوده. إلى ذلك، بدت تلك المقاومة ربحاً خالصاً لسوريّا التي استأنفت تصدير نزاعها مع الإسرائيليّين إلى “الساحة اللبنانيّة”، فيما كانت تخوض، في “الساحة” نفسها، حربها على الفلسطينيّين والمسيحيّين والسلطة المركزيّة في بيروت. الحروب كلّها كانت تُخاض بأيدي لبنانيّين لا تنقصهم الحماسة للقتال. الاحتلال الإسرائيليّ بدا هديّة من السماء لمُقاوميه الكثيرين.

“برنامج” “أمل” اختلف: لا بأس بشيء من المقاومة بين وقت وآخر، وبشهيد هنا وشهيد هناك، إلاّ أنّ الأهمّ انعكاس ذلك على الموقع السلطويّ في بيروت. هنا يكمن الموضوع الأساس وعنوانه الأبرز أمين الجميّل و17 أيّار، أمّا ذروته فكانت “انتفاضة” 6 شباط 1984. في حكومة ما بعد إلغاء 17 أيّار الكراميّة، حلّ برّي وزيراً ولم يعد يغادر الوزارة.

بندٌ آخر كان أساسيّاً في “برنامج” برّي و”أمل”: حرب المخيّمات التي اندلعت أواسط 1985 ولم تتوقّف إلاّ في صيف 1988. هذه كانت من أقسى حروب لبنان ما بين 1975 و1989، ومن أشدّها إيلاماً للفلسطينيّين المحاصَرين. لقد نفّستْ مشاعرَ شيعيّة متراكمة لم تعرف الإشباع لكنّها، في آخر المطاف، كانت جزءاً من مواجهة سوريّة – فلسطينيّة سمّتْها دمشق استئصالاً للعرفاتيّة.

في موازاة حرب المخيّمات، تعاونت “أمل” الشيعيّة مع “الاشتراكيّ” الدرزيّ ضدّ “المرابطون” السنّة، فأُخضع الأخيرون. وبسبب اجتماع الحرب على المخيّمات وحرب صغرى على ميليشيا سنّيّة، وجد القائلون بتهميش السنّة كنزاً من الحجج. لقد أريدَ تلخيص الساحة البيروتيّة وحصر القوى المستفيدة من طرد “سلطة أمين الجميّل”. بيد أن المنتصرَين الشيعيّ والدرزيّ ما لبثا، في 1987، أن انخرطا في حرب طاحنة أخرى استدعت دعوة القوّات السوريّة مجدّداً إلى بيروت. العاصمة اللبنانيّة اكتمل سقوطها، والحال هذه، في يد حافظ الأسد. إذاً، وفي حساب المنتصرين الجدد، لفظَ غزو 1982 الإسرائيليّ آخر أنفاسه، علماً بأنّ الرئيس السوريّ امتنع، مرّة أخرى، عن التقدّم جنوباً.

“حزب الله” نأى بنفسه عن حرب المخيّمات، لكنْ ظلّ المشترك بين الطرفين الشيعيّين تقليم أظافر الشيوعيّين وما عُرف بـ “جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة” ذات الجدوى العسكريّة المحدودة في مواجهة إسرائيل. هنا أيضاً فعلت الصلات القرابيّة فعلها وخطّتْ آخر فصول التعاون بين “الأخوين” قبل حلول القطيعة. فعند الحزب، قد يجوز الإقرار بحصّة سوريّة في مناطق الحدود تساكن الحصّة الإيرانيّة الكبرى. الأمر الواقع والتحالفات وتوازنات القوى تفرض ذلك. أمّا السماح للشيوعيّين ببعض هذا المجد فسخاءٌ مجّانيّ ليس من شيم الأحزاب التوتاليتاريّة. فوق هذا، فالصراع مع “الشيطان” الإسرائيليّ يستدعي في مواجهته قوى إلهيّة، فيما القوى العلمانيّة أطرافها مبلولة بالشيطان. حضورها يشوّه صورة المعركة ويسيء إلى صفائها. ألم يتعامل المعلّم الإيرانيّ الأكبر مع شيوعيّيه بوصفهم جوقة شياطين حُمر صغار؟   

عند “أمل”، وفضلاً عن الأحقاد الشيعيّة – الفلسطينيّة/ الشيوعيّة، التي تعود إلى أواخر الستينات، أُخذ على الشيوعيّين امتناعهم عن خوض حرب المخيّمات التي باتت معياراً للحكم والمحاكمة. كماليّات عدم المشاركة قد تجوز لـ “حزب الله”، بسبب قوّته وعلاقته بإيران، لكنّها حكماً لا تجوز لغيره. الشيوعيّ تحديداً مُطالَب دائماً بإظهار وفائه للطوائف القويّة، وكلُّ تمايزٍ عنها، في الرأي والسلوك، يردّه صعلوكاً طريداً.

وبالطبع كانت سوريّا الأسد هناك: إنّها، منذ 1976، ترى أنّ الحدود، والتماسّ مع إسرائيل، أثمن من أن تُترك للشيوعيّين، فكيف وأنّهم لم يعلنوا تبرُّؤهم من عدوّها ياسر عرفات؟

هكذا، وفي تلخيص آخر للساحتين الشيعيّة والجنوبيّة، اغتيل في 1986 و1987 رموز شيوعيّون كخليل نعوس وسهيل الطويلة وحسين مروّة وحسن حمدان وسواهم، ودارت في غير منطقة معارك بين “مسلّحين شيوعيّين” و”مسلّحين شيعة”. في الوقت نفسه تقريباً كان “حزب الله” يُجلي السوريّين القوميّين عن مشغرة في البقاع.

لقد كان للحرب على “العرفاتيّة”، مصحوبة بتحويل “المقاومة” من ملكيّة حصريّة للسنّة، أكانوا فلسطينيّين أم لبنانيّين، إلى ملكيّة حصريّة للشيعة، أن أسّست مبكراً إحدى خلفيّات الصراع السنّيّ – الشيعيّ الذي سينتشر، بعد سنوات قليلة، في المنطقة كلّها.

الحرب الشيعيّة – الشيعيّة

بطن الحرب بدا بالغ الخصوبة، والقوّتان الشيعيّتان أثبتتا أنّهما تستطيعان خوض معارك عدّة في وقت واحد. أمّا ترسيم الحدود بينهما، وبين النفوذين الإيرانيّ والسوريّ، فكان يرتفع بإيقاع يوميّ إلى سويّة الأمر المُلحّ والمباشَر. انسحاب إسرائيل في 1985 إلى الشريط الحدوديّ عزّز التنازع على المناطق المحرّرة الممنوعة على “سلطة أمين الجميّل”.

“حزب الله” استخدم في الحرب الحجّة التي استخدمها في وقت لاحق ميشال عون إبّان حربه على “القوّات اللبنانيّة”: “أمل” ميليشيا مكروهة من السكّان فيما نحن مقاومة السكّان. الحرمان كذبتُهم لكنّه حقيقتنا. “أمل”، بدورها، لم تقتصد في التهجّم على نوايا إيرانيّة توسّعيّة، واجهتْها بخلطة من الوطنيّة اللبنانيّة والعروبة. نبيه برّي صار فخر الدين المعنيّ مدموجاً بسعد بن أبي وقّاص.

لقد شملت الحرب معظم مناطق السكن الشيعيّ، لكنّ كلفتها الإنسانيّة والعمرانيّة بلغت مداها في الضاحية الجنوبيّة. ذاك أنّ أعمال التهجير السابقة ثمّ نشأة المناطق المُستحدَثة، كحيّي السلّم وماضي وبير العبد والرمل العالي، والتي أقبل أبناؤها على الحزب والحركة سواء بسواء، ضخّمتْ ذاك التجمّع المدينيّ ووفّرت للقذائف أهدافاً بشريّة ومادّيّة جاهزة. قليلةً كانت القذائف التي لم تعثر على رأس أو على مبنى سكنيّ تقع عليه.    

في تلك الحرب، وفي 1987 تحديداً، جدّ الحدث الكاشف بدلالاته القرابيّة والتنظيميّة. فبعدما سقطت الضاحية في يد الحزب، أقدمت الحركة على طرد قائدها العسكريّ عقل حميّة من صفوفها. لقد اتُّهم حميّة بتسليم الضاحية لحزب الله. في الوقت نفسه، كان الفلسطينيّون يعرّفون عنه بـ “جلاّد المخيّمات”.

قادةٌ آخرون كانت حظوظهم أسوأ: في 22 أيلول 1988، وعلى طريق الأوزاعي، اغتيل ثلاثة من قادة “أمل” هم داوود داوود ومحمود فقيه وحسن سبيتي. نبيه برّي هاجم النفوذ الإيرانيّ وقال إنّ مُدّعي المقاومة يقتلون القادة بأكثر ممّا تفعل إسرائيل. هناك مَن ذهب أبعد وإن في اتّجاهات معاكسة من التأويل والتكهّن. قيل، مثلاً، إنّ داوود ورفيقيه بات همّهم الأوحد أن يضمنوا جنوباً خالياً تماماً من حزب الله، وأنّهم مستعدّون للتعامل مع أيّ عدوّ لهذا الغرض. قيل أيضاً إنّ داوود منافس قويّ على زعامة “أمل”.

في الحالات جميعاً، برهنت الحرب الشيعيّة – الشيعيّة أنّ الحرب المارونيّة – المارونيّة التي أعقبت اغتيال توني فرنجيّة لعبُ أطفال كانوا يقلّدون الكبار. وحْلُ الكلام والتّهم لم يكن أقلّ من الدم الكثير المُهدَر.

البعد الإقليميّ لتلك الحرب جَلاه حدث آخر أسماه حزب الله “مجزرة ثكنة فتح الله”. هناك، وبعد الدخول السوريّ إلى بيروت الذي اقتصد الحزب في الاحتفال به، أقدم الضابط السوريّ جامع جامع على تنفيذ الإعدام رمياً بالرصاص بـ 22 من مقاتليه. حصل ذلك في 25 شباط 1987. المشهد والعقاب كانا مُرعبين للبنانيّين لم يعهدوا هذين الجبروت والرعونة في سلطتهم. حزب الله طالب بـ “محاكمة المسؤولين” ثمّ سمّى قتلاه “الشهداء المظلومين”، مُذكّراً بالشيوعيّين الذين اتّهموا “القوى الظلاميّة” بقتل رموزهم. ما من أحد يسمّي أحداً في هذا “العصر الجديد” وما من أحد يعيّن. بعد أقلّ من عقدين سيظهر من يقرن اسمي حزب الله وجامع جامع في عمليّة واحدة جبّارة اسمها اغتيال رفيق الحريري.   

لقد تنقّلت الحرب من منطقة إلى أخرى، وتقاسم طرفاها الانتصارات والهزائم، لكنّ ختامها الرهيب حطّ في إقليم التفّاح عام 1990 حيث سقط ما بين ألفي قتيل وثلاثة آلاف. اتّفاق الطائف كان قد وُقّع فاتحاً الباب لتوزيع حصص المرحلة المقبلة، أمّا الطرفان المحلّيّان والطرفان الإقليميّان فقنعوا بنهائيّة حصصهما وعرفوا ما يمكن وما لا يمكن: إنّ “أمل” جزء راسخ من النظام ومن المنظومة السوريّة الوصيّة على البلد، فيما حزب الله الميليشيا الوحيدة التي استثناها الطائف من تجريد السلاح. على هذه القواعد رعى “الأخوة” السوريّون والإيرانيّون مصالحة “الأخوة” في “أمل و”حزب الله”، ووُلدت بالتالي “الثنائيّة الشيعيّة” التي كوفئت على حروبها.

ميّت لا يموت

جهةٌ وحيدة ظلّت تشاغب على هذه الثنائيّة. إنّها البرلمان ممثّلاً بكامل الأسعد ثمّ بحسين الحسيني. لقد ظُنّ، إبّان الحروب الكثيرة التي كان يخوضها الحزب والحركة، أنّ ذاك الموقع المؤسّسيّ تحوّل إلى مجرّد مبنى مهجور في ساحة النجمة. لكنّ أمر البرلمان بدا أعقد قليلاً: نقطة قوّته هي الشرعيّةُ الدستوريّة التي يمثّلها، ونقطة ضعفه أنّه انتُخب في 1972، وعاش بفعل التمديد المتواصل، ما أدّى إلى تآكل شرعيّته تلك وأنهى زمن صلاحها.

كامل الأسعد تمكّن، بفضل رئاسته هذا المجلس حتّى 1984، أن يرعى انتخاب رئيسي جمهوريّة كتائبيّين. لقد مثّل بصلفه وعجرفته وتعلّقه بعالم بائد، ولكنْ أيضاً بشجاعته وضرب من الوطنيّة الرجعيّة تحلّى به، المقاومةَ الشيعيّة الضعيفة للنفوذين السوريّ والإيرانيّ. بالطبع لم يُعيَّن الأسعد للنيابة في 1991، واستمرّ في 1992 و1996 و2000 يخوض الانتخابات وسط غابات من السلاح المعادي، و”المقدّس” أيضاً. أوضاعه الصحّيّة تدهورت وانعزل في بيته حتّى وفاته في 2010.

حسين الحسيني حلّ في رئاسة المجلس عام 1984. كان لا بدّ لتوازنات القوى التي ألغت 17 أيّار أن تنعكس على البرلمان وتطيح الأسعد الذي هو أحد أهمّ رموز الاتّفاقيّة المذكورة. الحسيني ليس مرفوضاً من قوى الأمر الواقع كالأسعد. إنّه من أصول صدريّة، وكان القائد الأوّل لـ “امل” بعد اختفاء الصدر. أمّا دوره النشط في اتّفاق الطائف فضمنَ تمديد رئاسة المجلس، أي المنصب الشيعيّ الأوّل، إلى أربع سنوات. في هذه الغضون، عارض 17 أيّار وأيّد الاتّفاق الثلاثيّ، فسجّل شرعيّة انتمائه إلى مؤسّسات التوافق مع سوريّا الأسد.

مع هذا، أظهر الحسيني أنّه أقلّ قدرة على التحمّل من سواه: بعد مقتل رشيد كرامي وتسلّم سليم الحصّ رئاسة الحكومة، ضدّاً على الرغبة السوريّة في إدامة الفراغ، قدّم استقالة تراجع عنها لاحقاً، فيما ألمّت وعكة بالحصّ أودت به إلى المستشفى. حصل ذلك بعد لقاء جمع عبد الحليم خدّام بالاثنين.

بُعيد الطائف، تردّد أنّ رينيه معوّض والحسيني سوف يشكّلان ثنائيّة أكثر حزماً وسياديّةً في تطبيق الاتّفاق. معوّض أودى به الانفجار الشهير.

في السنوات اللاحقة تحوّل “السيّد حسين” ناقداً شرساً للحريريّة، وكان مُحقّاً في معظم نقده، لكنّ نقديّته للقوى الأخرى في المُركّب السلطويّ بدت شديدة اللطف والمواربة. رئاسته المجلس كانت محطّة للعبور من كامل الأسعد إلى نبيه برّي. كان ذلك في 1992، حين كُتبت آخر نهايات الحيرة والتسوويّة الصدريّتين. لاحقاً، تصرّف الحسيني بوذيّاً فأحرق نفسه في مواجهة وضع سيّء: في 2008 استقال من البرلمان. في 2018 استقال من خوض الانتخابات النيابيّة جملةً وتفصيلاً.

المَدافع سكتت نهائيّاً مع فوز برّي برئاسة المجلس بعد فوز حزب الله بالاستثناء السلاحيّ.

 

إقرأ أيضاً :

 الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (7)

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (6)
الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (5)