fbpx

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (9)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قدّمت “أمل” و”حزب الله”، بصعودهما وانتصارهما، أكثر الانقلابات الطبقيّة داخل الطوائف اللبنانيّة جذريّة. لكنّ الانقلاب هذا ربّما كان أيضاً الأقلّ إقناعاً بأنّ الانقلابات أفضل ممّا تنقلب عليه

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قدّمت “أمل” و”حزب الله”، بصعودهما وانتصارهما، أكثر الانقلابات الطبقيّة داخل الطوائف اللبنانيّة جذريّة. لكنّ الانقلاب هذا ربّما كان أيضاً الأقلّ إقناعاً بأنّ الانقلابات أفضل ممّا تنقلب عليه. مثل هذه الحصيلة المُرّة غالباً ما تنتجها الأحداث الكبرى حين تتأخّر في الزمن ثمّ تتّسم بالاحتقان وبكثرة المتدخّلين وتشعّبهم.

لقد كانت الكلفة الدمويّة للتحوّل الشيعيّ فادحة، وكذلك مدى التأثّر بأوضاع خارجيّة هي التي كان لها اليد الطولى في المنعطفات الأهمّ. أمّا القيم التي انقُلِب عليها فلم تحلّ محلّها قيمٌ أشدّ تقدّماً أو أكثر حضّاً على التقدّم: من جانب، فساد واستعمار للإدارة واستعداد للتوريث، ومن جانب آخر، نضاليّة دينيّة وطائفيّة متورّمة.

عجز الدولة اللبنانيّة وتهاوي الوطنيّة اللبنانيّة في الثمانينات كانا مهدين لذاك التحوّل. الاحتلال الإسرائيليّ والثورة الإيرانيّة كانا مهدين آخرين.

لقد صعدت إلى الواجهة الشيعيّة قيادات جديدة ينتمي معظمها، خصوصاً في حالة الحزب، إلى عائلات صغرى في قرى صغرى. رفد هؤلاء، لا سيّما في حالة “أمل”، أثرياء من المهاجر وأعيان متوسّطون ووجهاء صغار. وبفعل موقع الحركة في السلطة، وموقع نبيه برّي في الترويكا التي حكمت بعد الطائف، لم تبق مؤسّسة بمنأى عن آثار الانقلاب، والانقلاباتُ غالباً ما تتجاوز تصحيح الماضي وظلاماته إلى تغليط الحاضر والمستقبل.

التسعينات أطلقت تلك التحوّلات وثبّتتها: في 1993 مثلاً، تولّى القاضي الشيعيّ أسعد دياب رئاسة الجامعة اللبنانيّة. في 1998، عُيّن الضابط الشيعيّ جميل السيّد مديراً عامّاً للأمن العامّ. الموقعان كانا، وفق نظام “الحصص” السابق على الطائف، من “حصّة” الموارنة. في مستويات أعلى وأدنى سادت نزعة الاستبدال نفسها.

الصلة بالمؤسّسة البرلمانيّة لم تطرد عقليّة الميليشيا وتصرّفها، بل أدخلت إليها معاييرها وطرق اشتغالها: ذاك ما بلغ الذروة في 2006 و2007 حين أقفل نبيه برّي المجلس النيابيّ للحؤول دون إقرار المحكمة الدوليّة التي تنظر في اغتيال رفيق الحريري. هكذا مُرّرت تلك الخطوة بالتحايل على البرلمان، عبر مجلس الأمن وقراره 1757. أمّا نوّاب حزب الله الذين نادراً ما أبدوا اعتناءً بالتشريع، فتصرّفوا في المجلس كمن يدافع عن حزبه وصورة حزبه، مع إشعار الزملاء المُستَضعفين بغلبة فظّة. تلك المهمّة لاحت بوصفها أولى مهمّات العمل البرلمانيّ. لقد شابَهَ نائبُ الحزب مَن يضع المسدّس أمامه على الطاولة، لا يستخدمه لكنّه يواصل ملاعبته بأصابع متوتّرة.

الوجهة العامّة وطنيّاً

بين 1992 و2018 خاضت الثنائيّة الشيعيّة معاركها الانتخابيّة على لوائح موحّدة، مع أنّ طرفيها تَواجَها ويتواجهان في معارك بلديّة عزّ فيها التوافق الأهليّ. التفاوت هذا نمّ عن التباين الصلب والمستمرّ بين الأدنى العائليّ المُفتّت والأعلى الوطنيّ المتجانس. فباستثناءت قليلة جدّاً، راحت الأكثريّات الكاسحة في الطائفة تقترع نيابيّاً لتلك اللوائح، موصلةً إلى البرلمان كتلتين مُعتبَرتين، واحدة للحركة هي “التنمية والتحرير”، وأخرى للحزب هي “الوفاء للمقاومة”. اللوائح المشتركة بينهما أُسميت “محادل” تعبيراً عن أنّها تحدل كلّ شيء ولا يقف شيء في وجهها.

في هذه الدورة الانتخابيّة أو تلك كان التنظيمان يتركان موقعاً لحليف غالباً ما يكون الوصيُّ السوريّ قد أوصى به، كمحسن دلّول وعاصم قانصوه وجميل السيّد في البقاع، لكنّ هذا لا يطال الوجهة العامّة لتوسّعهما. وإذا صحّ أنّ الوجهة هذه تلكّأت في بيروت والضاحية عنها في الجنوب والبقاع، فإنّها انتهت إلى النتيجة ذاتها. في العاصمة مثلاً، كان انتخاب محمّد يوسف بيضون في 1996، آخر حضور سياسيّ لتلك العائلة. التنظيمان استوليا على التمثيل. المساومات الانتخابيّة حين كانت تُعقد مع الحريري الأب كانت تتيح الفرصة لنوّاب حريريّين كباسم السبع في الضاحية. أمّا غازي يوسف الذي فاز عن بيروت في 2005 و2009 فبات فوزه اليوم، بعد انفجار الاستقطاب السنّيّ – الشيعيّ، مستحيلاً. نائب حزب الله أمين شرّي غدا الأقوى بلا منازع. نائبا الحزب والحركة، علي عمّار وفادي علامة، صارا، منذ 2018، يتقاسمان تمثيل شيعة الضاحية في دائرة المتن الجنوبيّ – بعبدا. حتّى في جبيل، عمق الجبل المارونيّ، انضمّ مصطفى الحسيني، الذي انتُخب نائباً في 2018، إلى “كتلة التنمية والتحرير” لبرّي.

العائلات التقليديّة لم تغب عن حسابات الأخير: على لوائحه اصطحب عن آل عسيران علي عسيران، نجل عادل. المعروف عن علي أنّ تعلّقه بالزراعة والمواشي يفوق حبّه للسياسة. عبد اللطيف الزين أيضاً بقي ثابتاً على لوائح “أمل”، لكنّ الزين، وهو من مواليد 1932، لم يقوَ على الترشّح في 2018. عائلته كفّت عن الحضور السياسيّ. آل الخليل المتّهمون بممالأة الإسرائيليّين استُبعدوا كلّيّاً. زعيمهم كاظم توفّي في 1990، ومحاولات نجله السفير خليل الخليل لم تُقلع. برّي اصطحب على لوائحه البعثيّ السابق علي الخليل، لكنّ علي توفّي في 2005. نجلا الراحلين محمّد صفيّ الدين وجعفر شرف الدين لم يُدعيا إلى الوليمة، وباتت صور تتمثّل بأربعة هم من أبناء القرى المحيطة بها. علي بزّي، الذي بات يمثّل “أمل” في بنت جبيل، ليس من الفرع السياسيّ التقليديّ في آل بزّي. الشيء نفسه يصحّ في علي حسن خليل في الخيام، الذي لا يتفرّع عن البيوت السياسيّة في آل العبد الله. التجربة ذات الدلالة كانت مع رجل يحظى بالاحترام هو حبيب صادق: لقد انتُخب في 1992 على لائحة “التنمية والتحرير” لينسحب من الكتلة، بعد انتخابه، ويتحوّل نائباً مستقلاًّ. الرجل الذي قضى معظم عمره يكافح كامل الأسعد لم يُبدِ الاستعداد المطلوب لمبايعة كامل الأسعد آخر. باب البرلمان أُغلق في وجهه.

جنوب – بقاع

لقد واجه تنظيما الثنائيّة الشيعيّة معارضة عدد من أبناء السياسيّين القدامى، ومن أبناء رجال دين لم يكونوا في صفّهما. وظهر في وجههما رجال شجعان كغالب ياغي في بعلبك، كما عبّرت عائلات في النبطيّة عن تذمّرها منهما، وكتب مثقّفون وُلدوا شيعةً ضدّهما، وتململ شيوعيّون سابقون لم يحتملوا التديين السياسيّ ولا “الإقطاع” في حلّة جديدة، كما ضاق ذرع قلّة من الأغنياء والمتعلّمين بطرَفٍ يحول دون طموحهم ويتبدّى لهم أقلّ استحقاقاً وجدارةً. وقد تؤخذ على هؤلاء المعارضين مآخذ: بعضهم بالغ في التماهي مع 14 آذار التي لم تكترث بمخاطبة الشيعة فتُركوا معلّقين في الهواء. بعضهم بالغ في التعويل على ماضٍ مضى لآبائهم وعائلاتهم، فشابهوا نجل الشاه الذي يظنّ أنّ إيران تنتظره راكباً حصاناً أبيض…  في الحالات جميعاً، أعلنت انتخابات 2018 هزال المعارضة لسبب يكاد يستحيل التدخّل فيه: ذاك أنّ الثنائيّ، في ما بين طرفيه، يملك السلاح والمال و”القضيّة” والدولة معاً.

مع هذا، هناك أكثر من إشارة إلى ثنائيّة أخرى داخل كلّ من التنظيمين المؤتلفين. إنّها ثنائيّة البقاع – الجنوب. البقاعيّون الذين رحّبوا بإعلان بعلبك – الهرمل محافظة في 2004، يتذمّرون من أنّ الإنفاق الرسميّ على الجنوب يفوق أضعافاً الإنفاق على البقاع. هذا فضلاً عن أنّهم لا يملكون ما يملكه الجنوبيّون من مواقع في الإدارة، ومن تراث في الهجرة أو توسّع في التعليم. بيد أنّ البقاعيّين يتذمّرون أيضاً من ضعفهم في صناعة القرار السياسيّ للتنظيمين.

في الحركة، وبعد استقالة حسين الحسيني من قيادتها، حلّ في نيابة القيادة حسين الموسوي الذي انشقّ وانعطف نحو حزب الله يوم كان يقوده البقاعيّ صبحي الطفيلي. بعد ذاك حلّ في نيابة القيادة العقيد البقاعيّ المتقاعد عاكف حيدر. في 1992 استقال عاكف واعتكف. جيء ببقاعيّ آخر هو المحامي هيثم جمعة الذي عُرف، حتّى تقاعده في 2018، بوصفه مدير عامّ لوزارة الخارجيّة والمغتربين أكثر كثيراً منه كسياسيّ.

الشيخ صبحي الطفيلي

في الحزب، انتقلت القيادة في 1991 من صبحي الطفيلي إلى بقاعيّ آخر هو عبّاس الموسوي. لكنّ طائرة إسرائيليّة قصفت موكب الموسويّ في 1992، فحلّ محلّه في القيادة الجنوبيّ حسن نصر الله. البقاعيّان ابراهيم أمين السيّد، أوّل الناطقين بلسان الحزب، وحسين الموسويّ، الذي عزّزه بانشقاقه عن “أمل”، صارا وجهين ثانويّين فيه. نائب الأمين العامّ نعيم قاسم جنوبيّ أيضاً. رئيس كتلة الحزب البرلمانيّة، محمّد رعد، جنوبيّ كذلك. حسين الخليل، معاون الأمين العامّ، من الضاحية.

لكنّ “مسألة الطفيلي” ما لبثت أن كبرت. منذ 1991 بدأت تظهر اعتراضاته على سياسات حزبه، ابتداء بقرار المشاركة في انتخابات العام التالي. بعد ذاك اعترض على أمور كثيرة ومهمّة أخرى في عدادها “شخصَنة” الحزب وقيادته. في 1997، أعلن “ثورة الجياع” على السلطة، وبعد عام فصلَه الحزب رسميّاً، ما تلتْه اشتباكات في قرية عين بورضاي حيث أقام حوزته. الاشتباكات تلك، التي شارك فيها الجيش إلى جانب الحزب وقُتل فيها النائب خضر طليس، طُوّقت رغم كثرة ضحاياها. الطفيلي ما لبث أن صار أعلى صوتاً في نقد حزب الله وإيران وسياساتها. استمالتْه بطريقتها 14 آذار ثمّ أيّد الثورة السوريّة.

تحويل برّي ونصر الله إلى زعامتين خالدتين صادرَ كلّ طموح في تنظيميهما، بقاعيّاً كان أو غير بقاعيّ. لوحظ، في المعمعة هذه، أنّ الظاهرتين الحزبيّتين جنوبيّتان في النهاية، وثمّة من استرعتْه الحماسة الفائقة لدى بعض البقاعيّين للمشاركة في الحرب السوريّة: لقد قيل إنّهم يبحثون عن “قضيّة” يوازنون بها “قضيّة” الجنوبيّين حيال إسرائيل. مراقبون آخرون استوقفهم دور جميل السيّد: ضابط الأمن الطموح الذي سُجن ثمّ خاض انتخابات 2018 مدعوماً من حزب الله. السيّد، الذي لا يجمعه الودّ ببرّي و”أمل”، قد يتحوّل ناطقاً بلسان المعاناة البقاعيّة. ثمّة من يذهب أبعد: ربّما كان واحداً من أبرز الساعين إلى دور سياسيّ كبير في طائفته، خصوصاً إن لم تعثر “أمل” على وريث لبرّي المولود في 1938. في هذه الحال، قد تتناثر الحركة: “الشارع” يرث بعضها وحزب الله بعضها الآخر.

 

إقرأ أيضاً:

الصراع على الزعامة الشيعية )8(

 الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (7)

الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (6)
الصراع على الزعامة الشيعيّة في لبنان (5)

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!