fbpx

كامران قره داغي شاهد على ثورة الكرد (2) :الطريق إلى الجبل وإلى “صوت كردستان”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ اندلاع النزاع المسلح في أيلول 1961 بين الحركة الكردية بزعامة مصطفى بارزاني والحكومة العراقية في عهد عبد الكريم قاسم وبعده، استمرت بين حين وآخر موجات من التحاق الأكراد بالحركة في المناطق الجبلية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يواصل“درج” نشر مقال اسبوعي للكاتب والصحافي الكردي العراقي كامران قرة داغي، هو عبارة عن شهادة لرجل كان شاهداً ومساهماً في معظم حقبات الصراع الذي خاضه أكراد العراق مع السلطات العراقية ومع دول الجوار. عاصر كامران حقبة الملا مصطفى البارزاني في مراحل دقيقة من مراحل التفاوض والنزاع، وعمل كصحافي وكمترجم، ثم انتقل إلى الجبال، وغادر بعدها إلى أوروبا من دون ان ينقطع عن الأدوار التي استمر بتأديتها دعماً للقضية الكردية، سواء من موقعه كصحافي في جريدة الحياة اللندنية، أو كمدير لراديو صوت أوروبا الذي كان يبث من العاصمة التشيكية براغ، أو كوسيط بين القيادة الكردية وبين الأوساط السياسية الأوروبية.وبعد سقوط نظام صدام حسين عاد كامران إلى العراق ليعمل مستشاراً ومديراً لمكتب رئيس الجمهورية العراقية الراحل جلال طالباني.

في صباح 11/3/1974 ذهبت إلى الشركة العامة للمقاولات حيث كان شقيقي الأصغر موظفاً، وأخبرته بأنني قررت التوجه إلى الجبل وطلبت منه أن يدلني على من يمكنه أن يساعدني لمغادرة إربيل، وتجنّب المرور بنقاط السيطرة الأمنية الحكومية.

محمود كان عمل سابقاً لسنوات في فرع الشركة في إربيل ويعرف شعابها وناسها. قال إنه يفضل مرافقتي “على الأقل” إلى إربيل، حيث أمضينا ليلتنا في بيت شقيقتي الكبرى الراحلة نظيمة التي كان زوجها الراحل كمال محمد أمين يعمل مفتشاً في مديرية التعليم هناك. صباح اليوم التالي، هيأ محمود سيارة من نوع “لاند روفر”، يقودها أحد معارفه واسمه فارس، أوصلنا إلى قرية اسمها كسنزان كي نتوجه منها إلى آخر محطة قبل الانتقال إلى المناطق الواقعة خارج سيطرة السلطة المركزية، التي كنا نسميها المناطق المحررة الخاضعة للثورة، وقال إنه سيرافقني إلى هناك ويعود مع صديقه إلى إربيل.

الوصول إلى كسنزان كان سهلاً، والطريق اليها استغرق أكثر بقليل من نصف ساعة. أشار عدد من البيشمركة إلينا بالاتجاه الذي يفترض أن نسلكه. هنا فاجأني محمود قائلاً بحزم، إنه قرر أن يذهب معي إلى الجبل، وأكد أنه لن يتراجع عن قراره. وهكذا كان. السائق فارس أوصلنا بسيارته إلى أقرب مقر لقوات البيشمركة. كان ذلك المقر بأمرة فارس باوة الذي كان وقتها قائداً معروفاً، مسؤولاً عن تلك المنطقة. أوضحنا له من نحن وإلى أين نريد أن نصل، فأمر بمساعدتنا كي نتابع سفرنا.

رفاق الجبل

الهدف النهائي لنا كان قرية ناوبردان حيث المقر المفترض لإدارة الإعلام والثقافة ضمن الإدارات التي كانت القيادة الكردية تنوي تشكيلها بالتوازي مع الإدارات الرسمية، وفقاً لقانون الحكم الذاتي. وكنت أعرف أن رئيس تحرير “التآخي” دارار توفيق يقيم في ناوبردان وأنه كان مسؤولاً عن إدارة الإعلام والثقافة، أو أمينا عاماً للأمانة العامة للثقافة والإعلام والشباب بحسب التسمية الرسمية. يشار إلى أن القيادة الكردية قررت تأسيس هيئات موازية لهيئات إدارة الحكم الذاتي الحكومية ورئاستها تتألف من مجلس تشريعي ومجلس تنفيذي يضم أمانات عامة يكون أمناؤها بدرجة وزير. إلى ذلك، كان مقر المكتب السياسي لـ”الحزب الديموقراطي الكردستاني” في موقع مرتفع يطل على ناوبردان. وكان معتاداً في ظروف الثورة الكردية منذ اندلاعها في أيلول/ سبتمر 1961، أن يتخذ المكتب السياسي مقراً منفصلاً عن مقر قائد الثورة ملا مصطفى بارزاني الذي كان مستقراً في تلك الفترة في موقع منيع في الجبل قرب حاج عمران، آخر قرية عراقية على الحدود مع إيران.

ناوبردان، التي تطل عليها أربعة جبال هي سكران وكورني ومامه روت وهلكورد (التسمية الكردية لحصاروست أعلى جبل في كردستان العراق)، قرية وادعة جميلة جعلتها حكومة إقليم كردستان مركزاً سياحياً، بسبب موقعها وجمال الطبيعة المحيطة بها.

واصلنا السير من مقر فارس باوه في سيارات أخرى، “لاندروفر” أحياناً، و”بيكاب” أحياناً اخرى، حتى قضاء رانيه شرق مدينة إربيل وكانت تحت سيطرة الأكراد، كي نتوجه منها شمالاً عبر مناطق بالاكايتي وصولاً إلى ناوبردان. يشار إلى أن رانيه تقع في منتصف إقليم كردستان ومنها انطلقت الانتفاضة الكردية في آذار/ مارس 1991، في أعقاب تحرير الكويت من القوات العراقية.

كان الوقت بداية الربيع وفي الحقول والوديان التي كنا نعبرها، بدأت تزهر ورود النرجس وشقائق النعمان، وهي من رموز طبيعة كردستان. في رانيه علمنا أن مجموعة من المتوجهين إليها مثلنا ستغادر صباح اليوم التالي إلى ناوبردان وأماكن أخرى. أمضينا ليلة في أحد الفنادق المتواضعة وفي الصباح تسوقنا ما خف من حاجيات ضرورية كأدوات الحلاقة وفراشي الأسنان والمناشف الصغيرة، قبل أن نستقل سيارات أوصلتنا إلى أقصى ما يسمح به الطريق نحو أقرب سفح لسلسلة جبال تحتم علينا أن نعبرها مشياً نحو القمة، ومنها ننحدر إلى الجانب الآخر لنصل إلى أهدافنا.

بعد مسافة من التسلق كان البرد خلالها يزداد باضطراد، إذ كانت الثلوج ما زالت تغطي الجبال. الحق أنها لم تكن قمة واحدة، فكلما كنا نصل إلى قمة نفاجأ بأخرى. وهكذا تحتم علينا أن نتسلق عدداً من القمم قبل أن نبدأ الانحدار. أخيراً، حين وصلنا إلى واد بعد آخر قمة تسلقناها، كان هناك كوخ من الطين واسع نسبياً، قيل لنا إنه “دار ضيافة” يمكننا أن نستريح هناك ونشتري من بعض الخبز واللبن والجبن. بعد استراحة قصيرة خرج محمود وعاد بسرعة ليخبرني بفرح شديد أنه استطاع أن يتفق مع أحد الأهالي على استئجار بغلين لنقلنا إلى قرية تسمى قسري، حيث يمكننا إيجاد سيارة توصلنا إلى نابردان، على أن يرافقنا ابنه لأنه يعرف الطريق. دفعنا له مقدماً المبلغ الذي طلبه وتحركنا. ما أدهشني أن ذلك الصبي ولعله لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره يسير أمامنا بخطى سريعة وثقة كاملة عبر وديان ومرتفعات ومنخفضات تجري فيها مياه الثلوج الذائبة. بعض الممرات كان ضيقاً جداً، في جانب منه مرتفعات صخرية وفي الجانب الآخر واد سحيق تكاد لا ترى قعره. هناك تأكدت فعلاً من حقيقة ما يقال عن عناد البغل. حتى الآن لا أنسى أن البغل الذي كنت أمتطيه كان يصر على أن يسير أقرب ما يمكن من الجهة القريبة من الوادي، كأنه يتقصد إرعابك وأنت تتوقع أنه قد ينزلق في أي لحظة ويهوي بك إلى قاع الوادي. وكان محمود خلفي يحرص على تنبيهي بين آن وآخر حتى لا أنظر إلى الوادي، والأهم ألا أحاول إجبار البغل على تغيير مساره، بعيداً من حافة الوادي، تجنباً لغضبه وعواقبه الوخيمة.

المناطق التي قطعناها تتميز بطبيعة ساحرة. جلول ووديان وحقول ونهيرات وبحيرات يمكن أن تصبح مواقع سياحية طوال السنة. طقس رائع صيفاً وثلوج شتاء. سألت محمود عن أسمائها فأرسل إلي قائمة بها: دربندي كومه سبان وسماقولي سرجاوه وسماقولي كرنك وهيزوب وفمتران وجوارقرنه وهذه كلها بين نقطة انطلاقنا من كسنزان إلى رانيه. بعدها سركبكان وزيني وورتي وخانقا وقسري وهذه من رانيه الى ناوبردان. هناك مناطق تحولت الآن مناطق سياحية.

أخيراً وصلنا إلى ناوبردان بعد المغرب وسألنا من يدلنا على مكان دارا توفيق. هناك في غرفة متواضعة في بيت متواضع استقبلنا توفيق وكان معه عضوان في المكتب السياسي لـ “الديموقراطي الكردستاني”، هما الراحلان صالح اليوسفي ونوري شاويس. بعد استراحة قصيرة أخذنا دارا توفيق إلى “قصر السلام” الكائن على مرتفع يطل على بلدة جومان التي تبعد دقائق بالسيارة من ناوبردان وكان تحول مكاناً لإيواء ملتحقين بالثورة موقتاً، حتى تدبير أمورهم. بصعوبة وجد لنا المسؤول سريرين في إحدى الغرف. توفيق طلب مني الحضور صباحاً إلى مكتبه في ناوبردان للبحث في ما يجب أن نفعله. هكذا باشرنا فوراً مع فريق صحافيين وشعراء وكتاب بارزين، بالعمل على إعادة تأسيس إذاعة صوت كردستان.

في الجبل

منذ اندلاع النزاع المسلح في أيلول 1961 بين الحركة الكردية بزعامة مصطفى بارزاني والحكومة العراقية في عهد عبد الكريم قاسم وبعده، استمرت بين حين وآخر موجات من التحاق الأكراد بالحركة في المناطق الجبلية. الملتحقون، من مدنيين وعسكريين، كانوا عموماً ينضمون إلى قوات البيشمركة، ناهيك بأن بعضهم كان يلجأ إليها هرباً من ملاحقة السلطات بسبب نشاطات سياسية. لكن تلك الموجات كانت تتوقف كلما حدثت مفاوضات بين القيادة الكردية والحكومة التي تتخللها فترات من الهدنة والهدوء ثم تتجدد بعد فشلها واستئناف القتال. ولم يختلف الأمر بعد انهيار المفاوضات في آذار/ مارس 1974 بين الطرفين علماً أن موجة الالتحاق بدأت عشية انهيارها في ظل أجواء التوتر التي سادت العلاقات بين القيادة الكردية والنظام البعثي الذي كان يرأسه آنذاك الرئيس أحمد حسن البكر، لكن ملف التعامل مع الوضع الكردي كان حصراً في يد نائبه رجل العراق القوي صدام حسين.   

لكن ما حدث هذه المرة كان ظاهرة غير مسبوقة فاجأت الجميع وفاقت كل التوقعات. فقد تدفق آلاف الأكراد، رجالاً ونساء من أعمار مختلفة بعضهم مع عائلته، إلى “المناطق المحررة” من المحافظات الكردية وبغداد ومدن أخرى، أفواجاً وأفراداً، بينهم أطباء ومهندسون ومحامون وقضاة ومدرسون وأكاديميون وصحافيون وكتاب وشعراء وعمال وطلبة مدارس وجامعات. “إلى الجبل” و”إلى الثورة” كما كنا نقول. كان ذلك تعبيراً عن الدعم الواسع للقيادة الكردية وتشديداً على عزلة الأكراد المتعاونين مع الحكومة في خطتها تطبيق قانون الحكم الذاتي ووضع أجهزتها تحت سيطرتها. ما جعلها أيضاً ظاهرة غير مسبوقة أن غالبية الملتحقين بالثورة كانوا مستقلين ذوي توجهات فكرية متنوعة، ماركسيين وليبراليين وقوميين معتدلين وقوميين متطرفين. بل إن كثيرين منهم لم يكونوا حتى من مؤيدي الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي كان بارزاني زعيمه. العامل المشترك بين الجميع كان ما يسميه الأكراد الـ”كردايتي” وهو مصطلح تصعب ترجمته بدقه لكنه باختصار مفهوم تتبناه الأحزاب الكردية في جميع أجزاء كردستان، ويرتبط بالنضال من أجل الهوية وحقوق الأكراد.

جلال طالباني

إلى ذلك، كان كثيرون من مؤيدي التيار الذي تزعمه في الحزب آنذاك في منصف الستينات، سكرتيره آنذاك ابراهيم أحمد، لكن الانشقاق ارتبط عملياً باسم جلال طالباني عضو مكتبه السياسي الأبرز وربما الأقرب إلى بارزاني. من هنا ظهور مصطلحي “جلاليين” و”ملائيين” (نسبة إلى ملا مصطفى بارزاني). لكن بعد اتفاق 11 آذار 1970 توقف دعم الحكومة لجناح أحمد – طالباني، وبالتالي انتهت المواجهات العسكرية بينه وبين بارزاني وتمت مصالحة بينهما في لقاء بين الطرفين في مقر الأخير. لاحقاً بارزاني أوفد طالباني إلى خارج العراق، ممثلاً له فاتخذ القاهرة مقراً حتى انهيار الحركة المسلحة في آذار وتأسيسه الاتحاد الوطني الكردستاني في حزيران/ يونيو من العام ذاته. أما ابراهيم أحمد فبقي في كردستان وكان موجوداً في الجبل والتقيته في ناوبردان مرة، في مكتب دارا توفيق الذي رأس الأمانة العامة للإعلام وباشر بداية في تفعيل إذاعة صوت كردستان وتأسيس فريق العمل فيها ووضع خطة لأسلوب البث فيها بقسميها العربي والكردي. لاحقاً أضيف البث بالتركمانية والآشورية والإنكليزية. الإذاعة بالتسمية ذاتها كانت تأسست في 1963 في الجبال، ناطقة باسم الثورة واستمرت حتى 1970 إثر اتفاق الحكم الذاتي. من المصادفة أن أخي الأكبر الراحل شيخ حسين قره داغي عمل في الإذاعة مذيعاً، بعد التحاقه بالحركة المسلحة في 1963 وبعد 11 عاماً جاء دوري للعمل فيها.  

في الاجتماعات التمهيدية لبدء البث، نشب فوراً خلاف بين تيارين، معتدل ومتشدد يمكن وصفهما أيضا بيساري ويميني. أذكر من المشاركين في الاجتماعات التحضيرية بإدارة توفيق، وأعتذر في حال خانتني الذاكرة وفاتني ذكرهم كلهم، فلك الدين كاكائي وفرهاد عوني ومصطفى صالح كريم ومحمد البدري وأنور جاف وسعيد ناكام والشاعر البارز هزار موكرياني وكاتب السطور وانضم إلينا من أعضاء فريق العمل زملاء كانوا عملوا في الإذاعة الكردية التابعة للدولة في بغداد عبد الوهاب طالباني وعبد الله عباس وشعراء أبرزهم شيركو بيكه س ولطيف هلمت ورؤوف بيكرد وجلال ميرزا كريم وجمال شاربازيري وصلاح عرفان وصلاح شوان وفاضل قصاب وآخرون. موكرياني واسمه الحقيقي عبد الرحمن شرفكندي من أكراد إيران وولد في مدينة مهاباد وشارك في تأسيس وزارة إعلام حكومة جمهورية مهاباد عام 1945. لاحقاً انضم إلى الحركة الكردية في العراق وكان قريباً من بارزاني الذي ربما كان يعرفه من فترة قيادته قوات البيشمركة في تلك الجمهوية. مام هزار كما كنا نسميه تحبباً، يعتبر من رموز الثقافة الكردية وله دواوين شعرية وكتب في النقد الأدبي وقاموس كردي – كردي – فارسي، إضافة إلى ترجمات من العربية والفارسية إلى الكردية، منها ترجمته رباعيات الخيام. وكان لطيف المعشر محباً للنكتة يرويها بلغة بهيجة وتراه في لحظات يهدأ فيها مزاجه، محاطاً بزملائه في القسم الكردي، يستمعون إلى ذكرياته عن حياته في مهاباد والجمهورية التي وُئدت بعد أقل عام على تأسيسها.

كان هزار بحكم خلفيته أميل إلى استخدام خطاب إعلامي قومي مباشر، لكن ناكام كان قومياً متطرفاً إلى حد العنصرية وانعكست آراؤه المتطرفة لاحقاً في تعليقات كتبها للقسم الكردي لكنه لم يستمر طويلاً، فترك العمل معنا وانتقل إلى منطقة أخرى. عموماً المتشددون سواء في فريق الإعلام أو في هيئات حزبية نافذة. توفيق أثبت صدقه عملياً بأن اعتمد شيئاً فشيئاً على فريق من المثقفين المتنورين، قدمهم لشغل المراكز الرئيسية في إدارة الإعلام. أذكر من هؤلاء، الأكاديمي والمؤرخ الدكتور كمال مظهر أحمد وفرهاد عوني الذي كان مدير الادارة في جريدة “التآخي” وطلعت نادر الذي كان مديراً عاماً للثقافة الكردية في وزارة الاعلام العراقية، وجلال سام آغا الذي كان مديراً لإدارة جامعة السليمانية. كان بيننا ماركسيون وأعضاء سابقون في الحزب الشيوعي و”جلاليون” ومستقلون وشعراء وكتاب وشعراء ليبراليون متمردون على النمطية والجمود والقيود الرقابية.

عموماً، غالبيتنا حُسبت على اليسار وكنا نعوّل على دعم توفيق الذي سعى بحكم موقعه القيادي في “الديموقراطي الكردستاني”، إذ كان عضواً في لجنته المركزية وقريباً من بارزاني إلى إيجاد نوع من التوازن بين الآراء المطروحة وكان خلال أحاديث معنا خارج الاجتماعات التحضيرية، يؤكد دعمه لنا مع تأكيد أن الوضع يستدعي العمل بهدوء وتأن من دون استفزاز. توفيق بدأ حياته السياسية في شبابه يسارياً، انضم إلى الحزب الشيوعي العراقي وتعرض للملاحقة والاعتقال أكثر من مرة. درس في كلية الهندسة في بغداد وأكمل دراسته في بريطانيا في الخمسينات، ونشط هناك في جمعية الطلبة العراقيين المحسوبة على الحزب الشيوعي، ولاحقاً نشط وأصبح عضواً في قيادة “اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي” المحسوب على الحركة الشيوعية العالمية. لكنه في الستينات، ترك الحزب الشيوعي واقترب من الحركة الكردية بزعامة بارزاني والتحق بها في 1964، وأصبح في الجبل قريباً من بارزاني، وانضم إلى “الديموقراطي الكردستاني” في 1970، وانتخب عضواً في لجنته المركزية. ونتيجة نشاطه السياسي السابق أممياً وعلاقاته مع أحزاب وشخصيات دولية، لعب دوراً بارزاً في إطار إقامة العلاقات الخارجية لـ “الديموقراطي الكردستاني” وتوثيقها، وكان غالباً ما يمثله ضمن وفوده إلى الخارج. وخلال رئاسته لتحرير “التآخي” في بغداد، استقطب كثيرين من اليسار أكراداً وعرباً في قسمي التحرير والكتابة. وكان من كتابها أسماء مثقفين عراقيين بارزين.  

 

منذ اندلاع النزاع المسلح في أيلول 1961 بين الحركة الكردية بزعامة مصطفى بارزاني والحكومة العراقية في عهد عبد الكريم قاسم وبعده، استمرت بين حين وآخر موجات من التحاق الأكراد بالحركة في المناطق الجبلية.

 

الأمانة العامة تألفت من ثلاث مديريات عامة: فلك الدين كاكائي أصبح مديراً عاماً للإعلام وفرهاد عوني مديراً عاماً للشباب وطلعت نادر مديراً عاماً للثقافة. مصطفى صالح كريم أصبح مديراً للبث الكردي، وأنا مديراً للبث العربي. الدكتور مظهر أحمد، الذي كان عين أول أمين عام للفرع الكردي المؤسس بعد اتفاق آذار في أكاديمة العلوم العراقية، والتحق بالثورة لاحقاً، أصبح نائباً للأمين العام. كاكائي وأنا كنا في الغالب نكتب التعليقات اليومية التي نفتتح بها البث. كاكائي بالكردية والعربية وأنا بالعربية. توفيق كان نادراً ما يكتب التعليق اليومي بنفسه، لكنه كان عادة يملي علينا أفكاراً تعبر عن موقف القيادة من الأحداث، فنكتب التعليق في ضوئها. إضافة إلى أن إدارة القسم العربي وكتابة التعليق اليومي، كلفت بإعداد البلاغ العسكري اليومي. هكذا أصبحت “خبيراً” عسكرياً على رغم أنفي. كان هناك قسم تابع لنا، للاتصالات اللاسلكية، يعمل فيه عناصر من البيشمركة كانوا في السابق تقنيين في استخدام وسائل اتصالات مماثلة في أجهزة الشرطة الحكومية. العاملون في هذا القسم، كانوا يتسلمون طوال اليوم برقيات من مسؤولي جبهات القتال عن تطورات القتال بين البيشمركة والقوات العراقية. البرقيات من الجبهات كانت توجه إلى مقرات بارزاني والمكتب السياسي والجهات القيادية المعنية الأخرى ونسخة إلى أمانة الاعلام.

لم تكن لي خلفية في الشؤون العسكرية فأصبحت في “حيص بيص”، خصوصاً لجهة التعامل مع برقيات بعض مسؤولي الجبهات الذين كانوا يضخمون نتائج المواجهة والتصدي لهجمات “العدو”، وتقديم أرقام مبالغ بها لـ”الخسائر الجسيمة” التي تكبدها. مثال على ذلك المبالغة في أعداد تدمير دبابات وآليات نقل الجنود براجمات الـ “بي آر جي” قتلاهم والتصدي بالدوشكات للغارات الجوية. برقيات من هذا النوع كانت غالباً ما تُختم بعبارة “واستطعنا إصابة الطائرة وشوهد الدخان يتصاعد منها وهي تنسحب إلى مناطق العدو”. في البداية اتصلت بصديق كان ضابطاً سابقاً في الجيش ويعمل في جهاز الاستخبارات الكردية للتأكد من الأرقام والمعلومات. الأهم أن بعض البرقيات كان يتضمن معلومات كان من شأن بثها أن يفيد “العدو”. أخيراً وتجنباً لهذه المشكلات ارتأينا أن الأمر يحتاج الى تدخل خبراء فطلب توفيق من جهاز الاستخبارات والمكتب العسكري المرتبط بمكتب بارزاني، أن يأتي إلى مقرنا يومياً، قبل بدء البث في وقت مناسب، ممثل عن كل منهما للاطلاع على البلاغ الذي كنت أعده للتأكد من أنه يخلو من معلومات خاطئة أو مبالغ بها أو مما لا يجوز بثه لأسباب أمنية. وهكذا كان.

الإعداد بحماسة ونشوة لإطلاق إذاعة صوت كردستان ونحن في ناوبردان كانت بداية العمل. لم تكن الغارات الجوية والمعارك على طول جبهات المواجهة بدأت بعد. بعبارة أخرى، كان هناك نوع من الهدوء الذي يسبق العاصفة. وعندما هبت العاصفة، جلبت معها الدمار والقتلى والجرحى والدموع، فيما شنت السلطات الحكومية عمليات قمع ضد “العملاء” في المناطق الكردية الواقعة تحت سيطرتها وترحيل عشرات الآلاف من عائلات الملتحقين بالثورة، نساء وأطفالاً، لتلقي عبئاً غير متوقع على قوات البيشمركة والإدارات في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، واشغالها باستيعابها.

أما الخوض في تفاصيل هذه المآسي وتطورات الوضع السياسي والقتالي وتداعياته، فإلى موعد آخر.

 

إقرأ أيضاً:

 كامران قره داغي شاهد على ثورة الكرد(١)