fbpx

150 عاماً من عمر الجمهورية الفرنسية: جدل في إرثها ومستقبلها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خطوة الاحتفال في ذكرى قيام الجمهورية الثالثة التي أحيتها فرنسا هذه السنة بدعوة استثنائية من الرئيس ماكرون توّجهت بخطاب مثير للجدل في البانتيون، تناول ممكنات استمرار الجمهورية الخامسة ومعاني المواطنة التي يحملها كل فرنسي اليوم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

على غير العادة، قرّرت فرنسا هذه السنة الاحتفال بذكرى قيام الجمهورية الثالثة التي أعلنها ليون غامبيتا في 4 أيلول/ سبتمبر 1870 من على شرفة بلدية باريس بعد سنوات من الأحداث السياسية التي هزّت البلاد. منذ انتصار الثورة الفرنسية وقيام الجمهورية الأولى، مروراً بانقلاب نابوليون وعودة آل بوربون مع الملكية الدستورية la restauration) )، وصولاً إلى سقوط الإمبراطورية الفرنسية الثانية بعد معركة سيدان التي هزم فيها البروسيون بقيادة بسمارك الجيش الفرنسي وأسروا الإمبراطور نابوليون الثالث، لم تشهد فرنسا نظام حكم سياسياً أمّن لها الاستقرار والسيادة كالذي عايشته تحت الجمهورية الثالثة. 

باستثناء فترة الاحتلال النازي التي ختمت 70 عاماً من عمرها، شكّلت النزاعات الداخلية في السنوات العشر الأولى تحت الجمهورية الثالثة بين إرث يساري للثورة الفرنسية ورغبة يمينية في الكنيسة الكاثوليكية والإقطاع والجيش، أبرز المراحل المؤسسة للجمهوريانية المؤسساتية في السنوات اللاحقة مع نظام جول فيري التربوي وفصل الكنيسة عن الدولة والأزمة البولانجية وصولاً إلى قضية الضابط درايفوس.

 خطوة الاحتفال في ذكرى قيام الجمهورية الثالثة التي أحيتها فرنسا هذه السنة بدعوة استثنائية من الرئيس ماكرون توّجهت بخطاب مثير للجدل في البانتيون، تناول ممكنات استمرار الجمهورية الخامسة ومعاني المواطنة التي يحملها كل فرنسي اليوم، جانبت موضوع الاندماج الهوياتي لشخصيات فرنسية “صنعت الجمهورية” – على حدّ قول ماكرون – ما جعله عرضة لاتقادات تطرح أسئلة مشروعة اليوم عن تعريف آخر للجمهورية، مرتكزاتها ومآلاتها: هل كل مواطن فرنسي جمهوري حتماً؟ من يؤمن بالجمهورية؟ يسار أو يمين؟ ما هي مقوّمات الجمهورية؟

جذر الأفكار الجمهورية في فرنسا (1870- 1940)

على رغم ظروف النشأة الصعبة مع أكثرية برلمانية محافظة، ملكية وبونابارتية أوصلت أدولف تيير إلى سدّة الرئاسة، ومع قمع دموي لكومونة باريس في العام التالي لقيامها، فإنّ الجمهورية الثالثة ستكون مسرح الأفكار الجمهورية الأساسية لا سيّما بعد عام 1879، مع اعتماد الـMarseillaise نشيداً وطنياً رسمياً للبلاد، واعتبار 14 تموز/ يوليو عيداً لانتصار الثورة ورضوخ جزء من المؤيدين للملكية لواقعية الجمهورية، بناء على نصائح كنسية أطلقها البابا ليون الثالث عشر (تمكن مراجعة المؤرخ المختصّ بالجمهورية الثالثة موريس أغولون في هذا الصدد) وتمكين نظام تربوي شرّع مجانية التعليم وعلمانية المناهج مع جول فيري إضافة إلى تحوّلات كثيرة طاولت تعريف الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. 

لا يمكن تجاهل ثنائية اليسار/ اليمين في السنوات الأولى التي تلت سقوط الإمبراطورية الثانية، لأنّ ما توفّر في فترة سابقة تحت حكم لويس- فيليب من ميكانيزمات سياسية “ليبرالية” كالحق في التصويت والمناظرات البرلمانية – بقي منقوصاً من الاقتراع العمومي – خفت في عهد بونابارت لكنه جاء بما غاب في حكم لويس-فيليب: الانتخاب العام.

لذلك حاولت حكومة الدفاع الوطني، أولى حكومات الجمهورية الثالثة، مع ليون غامبيتا أن توفّق بين ايجابيات العهدين السابقين فأصبحت الجمهورية ديموقراطية ليبرالية وترجمت الغالبية رغبتها في هذا التحوّل في انتخابات شباط/ فبراير- آذار/ مارس 1876، حين حصل الجمهوريون على 360 مقعداً، لقاء 153 لمؤيدي عودة المَلَكيّة في الجمعية الوطنية.

اعتمد الجمهوريون في الداخل، بخاصة الراديكاليون منهم، على الطبقات الوسطى في عصر التحوّلات الصناعية لنشر سياسة تقدمية أساسها التكافل الأهلي والتضامن الاجتماعي.

 سيكون الصدام بين النزعة الملكية الدستورية والنزعة الجمهورية البرلمانية الذي مثّلته أحسن تمثيل أزمة 16 أيار/ مايو 1877، بين الرئيس باتريس ماك ماهون (ملكيّ) وليون غامبيتا وعموم الجمهوريين، مصدراً أساسياً لسطوة خطاب الجمهوريين، بعد خروج ماك ماهون من الحكم. لكنّ عوامل كثيرة ساهمت في نجاح هذا الخطاب في اختراق المدن الكبرى والأرياف الفرنسية أبرزها أنّه خطاب قام على نفي السمة البلوتوقراطية للحكم عبر توجّه البرجوازية التقدمية والمتعلمة إلى الفئات غير المتعلّمة فتقدّم الجزء الأكبر من الأفكار الجمهورية من المركز إلى الأطراف، من المثقف إلى غير المتعلّم عبر شبكات الإتصال الطبيعية كالقراءة والجمعيات والتبادلات الشفهية.

أصبح النظام السياسي الفرنسي المرتكز بشكل أساسي على الديموقراطية البرلمانية في نهاية القرن التاسع عشر النموذج الأكثر اكتمالاً، مع الملكية البريطانية، للديموقراطية الليبرالية وتمت استعادة مفاهيم جان-جاك روسو حول السيادة التي تجد نفسها في صلب “الإرادة العامة” ونظريات الإصلاح التربوي وحتمية العلمانية في قراءات فولتير وكوندورسيه. في تلك الفترة، برّرت فرنسا توسّعها الاستعماري بعملية النقل الحضاري لرسالتها الغنية بقيم التنوير والعقلانية. عارض جزء من الراديكاليين في الجمعية الوطنية هذا التوجّه الذي رأوا فيه خيانة لإرث “الثورة الكبرى” والأفكار الجمهورية وكان جورج كليمنصو أبرز المعادين لخطابات الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية الذي مثّله جول فيري حين تحدّث عن “أعراق غير متساوية” وعن “أعراق متفوقة” تذهب لتطعيم رسالة الحضارة لـ”أعراق دنيا”.

اعتمد الجمهوريون في الداخل، بخاصة الراديكاليون منهم، على الطبقات الوسطى في عصر التحوّلات الصناعية لنشر سياسة تقدمية أساسها التكافل الأهلي والتضامن الاجتماعي. لذلك ارتكزوا على عمل الجمعيات والأحزاب لبثّ أفكارهم التقدمية التي عبّروا عنها في مصنع الديموقراطية: مجلس النواب. من تنظيم عمل المرأة والطفل عام 1892 إلى الحماية الاجتماعية من حوادث العمل (1898) وساعات الراحة الإجبارية (1906)، مروراً بنظام تقاعد العمال والفلاحين وصولاً إلى ساعات العمل اليومية التي حدّد بـ10 في حالتها القصوى، اتخذت الجمهورية نموذجاً اجتماعياً، واشتراكياً في مظاهر عدة، سيشكّل جوهر القوانين التي تنظّم العلاقات الأفقية والعمودية ومنبع الحقوق الأساسية التي يتمتّع بها المواطنون ويكفلها الدستور.

 في جو من الحريات العامة والعمل النقابي والحزبية التعددية، صاغ دستور الجمهورية الثالثة تعريفا واضحا للعلمانية، كانت المؤسسة التربوية في صلبه، فأصبحت التعليم مجانيا للجميع وإلزاميا لمن تترواح أعمارهم بين الـ6 والـ13 سنة، ورُفعت ميزانية الإنفاق على المدارس الرسمية، فيما بقي التعليم الثانوية حتى العقد الأول من القرن العشرين حكراً على النخبة. وفي مسعاهم لتعميم اللائكية على النطاق العام في الجمهورية شرّع الراديكاليون قانون فصل الكنيسة عن الدولة ودعوا لإقفال المدارس التي يديرها الكهنة ورجال الدين. في الوقت الذي كانت اللائكية – بعد عام 1905 – تأخذ طابعاً أنتيكليركيا على المستوى الاجتماعي استطاعت الحرب العالمية الأولى أن تبني روابط جديدة بين الكنيسة (والكهنوت) والجمهورية العلمانية.

ماذا يعني أن تكون جمهورياً في فرنسا اليوم؟

لا يمكن الحديث عن جمهورية فرنسية من دون العودة إلى رموز وتصوّرات وأفكار صاغت تلك الجمهورية. قوة الجمهورية هي في قوة الترميز والتصوير الذي تبنّاه الفرنسيون كشكل من أشكال الإيمان الفولوكلوري بجمهوريتهم. في العصور الوسطى وحتى انتصار الثورة الفرنسية كانت زهرة الزنبق موجودة على ختم ملوك فرنسا، وعندما سقط سجن الباستيل بيد الثوّار وانتهى الحكم الملكيّ، قرّروا أن يستبدلوا الزهرة بشخصية تقترن صورتها بمعنى الحرية فكانت تلك السيدة بقبعتها الفريجية ماريان. ومجازاً، أصبحت السيدة التي تحمل مرآةً عند أنصار الثورة مرادفاً للحقيقة وتم الإشارة للزراعة عبر صورة السيدة التي تحمل منجلاً. هكذا أصبحت ماريان رمزاً جديداً للجمهورية واحتلّت تماثيلها الساحات العامة والبلديات الفرنسية. تطلّب الأمر وقتاً طويلاً لنتجاوز النقاش حول ماريان “البطلة والمخلّصة الحقيقية” (بنظر مريديها الباحثين عن شخصية القائد) و”الصنم الذي تحوّل إلى أيقونة” (بنظر خصومها أعداء الأيقنة). 

ماريان، العلم الثلاثي، المارسييز، كلها رموز كانت مكروهة من إرث الثورة المضادة الملكية والدينية. ويمكن القول إنّ فكرة الجمهورية، كرموزها، هي موروث الثورة الفرنسية وهي اختراعات يسارية تبناها اليمين في وقت لاحق، فحققت إجماعاً عابراً دفعت باليمين للمزايدة على اليسار في الحقبة الديغولية. بمساواة ذلك، راجت فكرة تبناها اليسار المتطرّف حول “برجوازية” تلك الرموز من منطلق نفي الموروث الملكي كنفي الموروث الشيوعي العمالي اذ أصبح العلم الوطني بنظر هؤلاء معاديا للعلم الأحمر كما هو الحال مع العلم الأبيض الملكي.

قوة الجمهورية هي في قوة الترميز والتصوير الذي تبنّاه الفرنسيون كشكل من أشكال الإيمان الفولوكلوري بجمهوريتهم.

آخر محاولة للتخلص من الجمهورية كانت مع نظام فيشي وهي إن نجحت في إسقاط الجمهورية الثالثة لكنّها صالحت اليمين بشكل قاطع مع فكرة الجمهورية. رأى شارل ديغول أنّ أطر المقاومة وجسمها التنظيمي الأساسي مؤمنة بالكامل بالجمهورية وأنّ أحزاب اليمين في تلك الفترة أصبحت تعدّ جمهوريين أكثر بكثير من الملكيين أو الراغبين بعودة الملكية. في دستوري عام 1946 (الجمهورية الرابعة) و1958 (الجمهورية الخامسة)، أعادت فرنسا تأكيد قيم الجمهورية ومبادئها: الحرية، العلمانية، شرعة حقوق الإنسان، الإخاء والمساواة. وإن اختلفت برامج اليمين واليسار تحت الجمهورية الخامسة – وأثارت في حالات استثنائية جدلاً بيزنطياً حول مبادئها ومصادرها – فإنها التزمت بالحد الأدنى بشعار مشترك “حرية، مساواة، أخوّة” فغلبت الحرية بمعنى الليبرالية الاقتصادية عند اليمين وتقدّمت العدالة الاجتماعية على سياسة اليسار وعندما حضرت الحرية على اليسار كانت تعنى أكثر بالحريات الجنسية والاجتماعية. 

من الصعب جداً اليوم الحديث عن الجمهورية الخامسة من دون العودة إلى الجمهورية الثالثة، فالمعنى ومؤداه وحقله الدلالي وكلّ مفاعيله في أصل القيامة وفي كلّ النزاعات والخصومات التي تلت سقوط الملكيّة بين الجمهوريين أنفسهم. وهي، أي الجمهورية، تكتسب كل قوّتها في موروثها الإشكالي والراسخ معاً وفي صورها المتشظية والناصعة في آن وأفكارها غير المكتملة والواضحة في الوقت نفسه، لذلك أمكننا القول إنّ الانتماء إلى فرنسا يفرض على أبنائها أن يكونوا جمهوريين، ما جعلها جمهورية شائخة من غير جمهوريين شباب بمفاهيم التأسيس والولادة.

07.09.2020
زمن القراءة: 6 minutes

خطوة الاحتفال في ذكرى قيام الجمهورية الثالثة التي أحيتها فرنسا هذه السنة بدعوة استثنائية من الرئيس ماكرون توّجهت بخطاب مثير للجدل في البانتيون، تناول ممكنات استمرار الجمهورية الخامسة ومعاني المواطنة التي يحملها كل فرنسي اليوم.

على غير العادة، قرّرت فرنسا هذه السنة الاحتفال بذكرى قيام الجمهورية الثالثة التي أعلنها ليون غامبيتا في 4 أيلول/ سبتمبر 1870 من على شرفة بلدية باريس بعد سنوات من الأحداث السياسية التي هزّت البلاد. منذ انتصار الثورة الفرنسية وقيام الجمهورية الأولى، مروراً بانقلاب نابوليون وعودة آل بوربون مع الملكية الدستورية la restauration) )، وصولاً إلى سقوط الإمبراطورية الفرنسية الثانية بعد معركة سيدان التي هزم فيها البروسيون بقيادة بسمارك الجيش الفرنسي وأسروا الإمبراطور نابوليون الثالث، لم تشهد فرنسا نظام حكم سياسياً أمّن لها الاستقرار والسيادة كالذي عايشته تحت الجمهورية الثالثة. 

باستثناء فترة الاحتلال النازي التي ختمت 70 عاماً من عمرها، شكّلت النزاعات الداخلية في السنوات العشر الأولى تحت الجمهورية الثالثة بين إرث يساري للثورة الفرنسية ورغبة يمينية في الكنيسة الكاثوليكية والإقطاع والجيش، أبرز المراحل المؤسسة للجمهوريانية المؤسساتية في السنوات اللاحقة مع نظام جول فيري التربوي وفصل الكنيسة عن الدولة والأزمة البولانجية وصولاً إلى قضية الضابط درايفوس.

 خطوة الاحتفال في ذكرى قيام الجمهورية الثالثة التي أحيتها فرنسا هذه السنة بدعوة استثنائية من الرئيس ماكرون توّجهت بخطاب مثير للجدل في البانتيون، تناول ممكنات استمرار الجمهورية الخامسة ومعاني المواطنة التي يحملها كل فرنسي اليوم، جانبت موضوع الاندماج الهوياتي لشخصيات فرنسية “صنعت الجمهورية” – على حدّ قول ماكرون – ما جعله عرضة لاتقادات تطرح أسئلة مشروعة اليوم عن تعريف آخر للجمهورية، مرتكزاتها ومآلاتها: هل كل مواطن فرنسي جمهوري حتماً؟ من يؤمن بالجمهورية؟ يسار أو يمين؟ ما هي مقوّمات الجمهورية؟

جذر الأفكار الجمهورية في فرنسا (1870- 1940)

على رغم ظروف النشأة الصعبة مع أكثرية برلمانية محافظة، ملكية وبونابارتية أوصلت أدولف تيير إلى سدّة الرئاسة، ومع قمع دموي لكومونة باريس في العام التالي لقيامها، فإنّ الجمهورية الثالثة ستكون مسرح الأفكار الجمهورية الأساسية لا سيّما بعد عام 1879، مع اعتماد الـMarseillaise نشيداً وطنياً رسمياً للبلاد، واعتبار 14 تموز/ يوليو عيداً لانتصار الثورة ورضوخ جزء من المؤيدين للملكية لواقعية الجمهورية، بناء على نصائح كنسية أطلقها البابا ليون الثالث عشر (تمكن مراجعة المؤرخ المختصّ بالجمهورية الثالثة موريس أغولون في هذا الصدد) وتمكين نظام تربوي شرّع مجانية التعليم وعلمانية المناهج مع جول فيري إضافة إلى تحوّلات كثيرة طاولت تعريف الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. 

لا يمكن تجاهل ثنائية اليسار/ اليمين في السنوات الأولى التي تلت سقوط الإمبراطورية الثانية، لأنّ ما توفّر في فترة سابقة تحت حكم لويس- فيليب من ميكانيزمات سياسية “ليبرالية” كالحق في التصويت والمناظرات البرلمانية – بقي منقوصاً من الاقتراع العمومي – خفت في عهد بونابارت لكنه جاء بما غاب في حكم لويس-فيليب: الانتخاب العام.

لذلك حاولت حكومة الدفاع الوطني، أولى حكومات الجمهورية الثالثة، مع ليون غامبيتا أن توفّق بين ايجابيات العهدين السابقين فأصبحت الجمهورية ديموقراطية ليبرالية وترجمت الغالبية رغبتها في هذا التحوّل في انتخابات شباط/ فبراير- آذار/ مارس 1876، حين حصل الجمهوريون على 360 مقعداً، لقاء 153 لمؤيدي عودة المَلَكيّة في الجمعية الوطنية.

اعتمد الجمهوريون في الداخل، بخاصة الراديكاليون منهم، على الطبقات الوسطى في عصر التحوّلات الصناعية لنشر سياسة تقدمية أساسها التكافل الأهلي والتضامن الاجتماعي.

 سيكون الصدام بين النزعة الملكية الدستورية والنزعة الجمهورية البرلمانية الذي مثّلته أحسن تمثيل أزمة 16 أيار/ مايو 1877، بين الرئيس باتريس ماك ماهون (ملكيّ) وليون غامبيتا وعموم الجمهوريين، مصدراً أساسياً لسطوة خطاب الجمهوريين، بعد خروج ماك ماهون من الحكم. لكنّ عوامل كثيرة ساهمت في نجاح هذا الخطاب في اختراق المدن الكبرى والأرياف الفرنسية أبرزها أنّه خطاب قام على نفي السمة البلوتوقراطية للحكم عبر توجّه البرجوازية التقدمية والمتعلمة إلى الفئات غير المتعلّمة فتقدّم الجزء الأكبر من الأفكار الجمهورية من المركز إلى الأطراف، من المثقف إلى غير المتعلّم عبر شبكات الإتصال الطبيعية كالقراءة والجمعيات والتبادلات الشفهية.

أصبح النظام السياسي الفرنسي المرتكز بشكل أساسي على الديموقراطية البرلمانية في نهاية القرن التاسع عشر النموذج الأكثر اكتمالاً، مع الملكية البريطانية، للديموقراطية الليبرالية وتمت استعادة مفاهيم جان-جاك روسو حول السيادة التي تجد نفسها في صلب “الإرادة العامة” ونظريات الإصلاح التربوي وحتمية العلمانية في قراءات فولتير وكوندورسيه. في تلك الفترة، برّرت فرنسا توسّعها الاستعماري بعملية النقل الحضاري لرسالتها الغنية بقيم التنوير والعقلانية. عارض جزء من الراديكاليين في الجمعية الوطنية هذا التوجّه الذي رأوا فيه خيانة لإرث “الثورة الكبرى” والأفكار الجمهورية وكان جورج كليمنصو أبرز المعادين لخطابات الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية الذي مثّله جول فيري حين تحدّث عن “أعراق غير متساوية” وعن “أعراق متفوقة” تذهب لتطعيم رسالة الحضارة لـ”أعراق دنيا”.

اعتمد الجمهوريون في الداخل، بخاصة الراديكاليون منهم، على الطبقات الوسطى في عصر التحوّلات الصناعية لنشر سياسة تقدمية أساسها التكافل الأهلي والتضامن الاجتماعي. لذلك ارتكزوا على عمل الجمعيات والأحزاب لبثّ أفكارهم التقدمية التي عبّروا عنها في مصنع الديموقراطية: مجلس النواب. من تنظيم عمل المرأة والطفل عام 1892 إلى الحماية الاجتماعية من حوادث العمل (1898) وساعات الراحة الإجبارية (1906)، مروراً بنظام تقاعد العمال والفلاحين وصولاً إلى ساعات العمل اليومية التي حدّد بـ10 في حالتها القصوى، اتخذت الجمهورية نموذجاً اجتماعياً، واشتراكياً في مظاهر عدة، سيشكّل جوهر القوانين التي تنظّم العلاقات الأفقية والعمودية ومنبع الحقوق الأساسية التي يتمتّع بها المواطنون ويكفلها الدستور.

 في جو من الحريات العامة والعمل النقابي والحزبية التعددية، صاغ دستور الجمهورية الثالثة تعريفا واضحا للعلمانية، كانت المؤسسة التربوية في صلبه، فأصبحت التعليم مجانيا للجميع وإلزاميا لمن تترواح أعمارهم بين الـ6 والـ13 سنة، ورُفعت ميزانية الإنفاق على المدارس الرسمية، فيما بقي التعليم الثانوية حتى العقد الأول من القرن العشرين حكراً على النخبة. وفي مسعاهم لتعميم اللائكية على النطاق العام في الجمهورية شرّع الراديكاليون قانون فصل الكنيسة عن الدولة ودعوا لإقفال المدارس التي يديرها الكهنة ورجال الدين. في الوقت الذي كانت اللائكية – بعد عام 1905 – تأخذ طابعاً أنتيكليركيا على المستوى الاجتماعي استطاعت الحرب العالمية الأولى أن تبني روابط جديدة بين الكنيسة (والكهنوت) والجمهورية العلمانية.

ماذا يعني أن تكون جمهورياً في فرنسا اليوم؟

لا يمكن الحديث عن جمهورية فرنسية من دون العودة إلى رموز وتصوّرات وأفكار صاغت تلك الجمهورية. قوة الجمهورية هي في قوة الترميز والتصوير الذي تبنّاه الفرنسيون كشكل من أشكال الإيمان الفولوكلوري بجمهوريتهم. في العصور الوسطى وحتى انتصار الثورة الفرنسية كانت زهرة الزنبق موجودة على ختم ملوك فرنسا، وعندما سقط سجن الباستيل بيد الثوّار وانتهى الحكم الملكيّ، قرّروا أن يستبدلوا الزهرة بشخصية تقترن صورتها بمعنى الحرية فكانت تلك السيدة بقبعتها الفريجية ماريان. ومجازاً، أصبحت السيدة التي تحمل مرآةً عند أنصار الثورة مرادفاً للحقيقة وتم الإشارة للزراعة عبر صورة السيدة التي تحمل منجلاً. هكذا أصبحت ماريان رمزاً جديداً للجمهورية واحتلّت تماثيلها الساحات العامة والبلديات الفرنسية. تطلّب الأمر وقتاً طويلاً لنتجاوز النقاش حول ماريان “البطلة والمخلّصة الحقيقية” (بنظر مريديها الباحثين عن شخصية القائد) و”الصنم الذي تحوّل إلى أيقونة” (بنظر خصومها أعداء الأيقنة). 

ماريان، العلم الثلاثي، المارسييز، كلها رموز كانت مكروهة من إرث الثورة المضادة الملكية والدينية. ويمكن القول إنّ فكرة الجمهورية، كرموزها، هي موروث الثورة الفرنسية وهي اختراعات يسارية تبناها اليمين في وقت لاحق، فحققت إجماعاً عابراً دفعت باليمين للمزايدة على اليسار في الحقبة الديغولية. بمساواة ذلك، راجت فكرة تبناها اليسار المتطرّف حول “برجوازية” تلك الرموز من منطلق نفي الموروث الملكي كنفي الموروث الشيوعي العمالي اذ أصبح العلم الوطني بنظر هؤلاء معاديا للعلم الأحمر كما هو الحال مع العلم الأبيض الملكي.

قوة الجمهورية هي في قوة الترميز والتصوير الذي تبنّاه الفرنسيون كشكل من أشكال الإيمان الفولوكلوري بجمهوريتهم.

آخر محاولة للتخلص من الجمهورية كانت مع نظام فيشي وهي إن نجحت في إسقاط الجمهورية الثالثة لكنّها صالحت اليمين بشكل قاطع مع فكرة الجمهورية. رأى شارل ديغول أنّ أطر المقاومة وجسمها التنظيمي الأساسي مؤمنة بالكامل بالجمهورية وأنّ أحزاب اليمين في تلك الفترة أصبحت تعدّ جمهوريين أكثر بكثير من الملكيين أو الراغبين بعودة الملكية. في دستوري عام 1946 (الجمهورية الرابعة) و1958 (الجمهورية الخامسة)، أعادت فرنسا تأكيد قيم الجمهورية ومبادئها: الحرية، العلمانية، شرعة حقوق الإنسان، الإخاء والمساواة. وإن اختلفت برامج اليمين واليسار تحت الجمهورية الخامسة – وأثارت في حالات استثنائية جدلاً بيزنطياً حول مبادئها ومصادرها – فإنها التزمت بالحد الأدنى بشعار مشترك “حرية، مساواة، أخوّة” فغلبت الحرية بمعنى الليبرالية الاقتصادية عند اليمين وتقدّمت العدالة الاجتماعية على سياسة اليسار وعندما حضرت الحرية على اليسار كانت تعنى أكثر بالحريات الجنسية والاجتماعية. 

من الصعب جداً اليوم الحديث عن الجمهورية الخامسة من دون العودة إلى الجمهورية الثالثة، فالمعنى ومؤداه وحقله الدلالي وكلّ مفاعيله في أصل القيامة وفي كلّ النزاعات والخصومات التي تلت سقوط الملكيّة بين الجمهوريين أنفسهم. وهي، أي الجمهورية، تكتسب كل قوّتها في موروثها الإشكالي والراسخ معاً وفي صورها المتشظية والناصعة في آن وأفكارها غير المكتملة والواضحة في الوقت نفسه، لذلك أمكننا القول إنّ الانتماء إلى فرنسا يفرض على أبنائها أن يكونوا جمهوريين، ما جعلها جمهورية شائخة من غير جمهوريين شباب بمفاهيم التأسيس والولادة.

07.09.2020
زمن القراءة: 6 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية