fbpx

“أليس” في بلاد العجائب اللبنانية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أدرت محرك السيارة وأدرت الراديو، فأطل صوت أم كلثوم من كل الإذاعات. مطولات الغرام، رفيقة منتصفات الليالي، كما الرومنسية المملة التي تفرضها عتمة الطرقات والمطر الغزير ومغامرة فجائية على وشك الانطلاق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أنهيتُ عملي منتصف الليل كالعادة، وقررتُ الهرب من بيروت على غير عادتي. في النشرة التي أعددتها لهذه الليلة، أخبار عن انهيارات وانجرافات وقطع طرقات بسبب العاصفة المطرية، لكن ذلك لم يثنني عن المغامرة أو المخاطرة. المطر لم يتوقف عن الهطول منذ أسبوع، والأرض امتلأت بالمياه، فتضخمت أحشاؤها وانتفخت مثل امرأة حبلى، ولم يعد بوسعها ابتلاع المزيد، فهرب الفائض هادرا في الطرقات، كفائض الشوق الذي يهدر داخلي كلما طالت إقامتي بعيدا عن دفء النبطية.

أطفأت هاتفي كي أتحاشى مكالمات أمي وأسئلتها عن سبب تأخري، وأين سأبيت ليلتي؟ وهل تترك لي البوابة مفتوحة قبل أن تخلد إلى النوم؟ والوصية المعتادة، ألا أسرع لأنها بانتظاري!

أدرت محرك السيارة، وأدرت مقدمتها باتجاه النبطية، وأدرت الراديو، فأطل صوت أم كلثوم من كل الإذاعات. مطولات الغرام، رفيقة منتصفات الليالي، كما الرومنسية المملة التي تفرضها عتمة الطرقات والمطر الغزير ومغامرة فجائية على وشك الانطلاق.

أوتوستراد الأوزاعي وجهتي للعودة، معالم الطريق اختفت بفعل تجمع المياه، التي تتدفق شلالات باتجاه الأحياء المشاطئة، حيث تلتقي بأمواج البحر العالية – مرَج البحرين يلتقيان – فتحاصر البيوت الغارقة بالفقر والعتمة والبطالة. أنفذ بصعوبة من المسطحات المائية، بحذاء مكب “كوستا برافا”، الجريمة المشتركة بين حكام باعوا ضمائرهم وأهالٍ باعوا أنوفهم، روائحه النتنة تنفذ من شبابيك السيارة المحكمة الإغلاق، فتبدد مشاعر الحماسة التي اعترتني قبيل انطلاقي. يا إلهي، كيف اعتاد الناس على هذه الرائحة؟ كيف ارتضوا بالعيش تحت سطوتها؟ كيف يتنفسون؟ يأكلون؟ يعملون؟ لمَ لا يغضبون؟ لا يعترضون؟ ما الذي يسكتهم؟ من الذي يسكتهم؟

ينفتح أمامي أوتوستراد خلدة، فضاء واسعا. هنا، يشعر الخارج من بيروت أنه خرج من عنق زجاجة، فتصعد أنفاسه بلا عوائق. أفهم الآن، من أين أتت عبارة “تنفس الصعداء”، زحمة الأنفاس في بيروت وزحمة الأنفس تعيق التنفس “لنبلونكم بقليل من النقص في الأنفس والثمرات” لكنه ابتلى بيروت بالكثير.

أمر من أمام “أفران شمسين”، المكان مقفر بعد قليل من منتصف ليل مطري كثيف، نادرا ما يبدو على هذه الحال. إذ إنه يشكل كل يوم، خصوصا في عطل نهاية الأسبوع، أكبر تجمع للسيارات والمتسوقين في لبنان، ينفقون ما في جيوبهم في تبضع الأشياء ذاتها، ويتناولون الإفطار ذاته، ويلتهمون الحلويات والمعجنات والمناقيش ذاتها، من دون ملل أو من دون تفسير حتى. الأمر يستحق البحث والتمحيص، نفسياً.  التسوق حسب مفاهيم المدنية الحديثة يزيل التوتر والاكتئاب، حسب مفاهيم جدتي لا شيء يبعث على السعادة والاطمئنان، سوى توفير القرش الأبيض لليوم الأسود.

 

هنا الفساد مغلف بالقداسة، لا يجوز النقد ولا الاعتراض ولا حتى طرح الحلول البديلة، فتهمة العمالة والخيانة والفتنة، ستكون بالمرصاد.

 

أكمل تقدمي البطيء، الطريق بدأت تصبح موحشة، العتمة مطبقة، الغيوم مستمرة “تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال”، فيزداد ارتباكي في القيادة، أوشك أن أركن سيارتي جانبا، بانتظار أن تهدأ موجة المطر الجديدة، فينقذني رتل من سيارات قوات “اليونيفل”، يمر بجانبي، فأنضم إليه، أستهدي بأضوائه إلى ما تبقى من الطريق. سيكون من حسن حظي أن يكونوا من الكتيبة الأسبانية، لأنها تعمل في منطقتنا – أخاطب نفسي – وإلا سننفصل عند نقطة الزهراني، هم يكملون إلى صور بينما أصعد أنا نحو النبطية.

أصل إلى مفرق برجا، أحدهم أضاف إلى آخر اللافتة التي تشير إلى البلدة بضعة أحرف، فأصبحت تُقرأ “برجالونا” مثل “برشلونا”، لو أن جنود “اليونيفل”، الذين أتمنى أن يكونوا من القوة الأسبانية، بمقدورهم أن يقرأوا اللافتة، لأُعجبوا وتعجبوا من هذا الشعب المحروم من أسباب الضحك، الفاقد لكل أنواع الرفاهية الاجتماعية، المكبل بأصفاد الهموم، كيف مازال يملك القدرة على اختلاق هكذا نكات خفيفة الدم. كان أهل برجا في الأزمنة الغابرة أو العامرة، تجار قماش، حتى صار يطلق على كل بائع قماش في قرانا اسم “برجاوي” نسبة إلى البلدة، التي وصلت شهرة حرائرها إلى أقصى نواحي الأرض، فألبسوا منها ملوكا وسلاطين وجواري حسانا. لكن، لم يبق من رغد تلك الأيام سوى الذكرى.

بدأ الأوتوستراد يضيق شيئا فشيئا، هذا يعني أنني وصلت إلى مشارف صيدا، وأني قطعت أقل من نصف المسافة بأمان حتى الآن. تتجمع أعداد غير قليلة من السيارات في الممر المؤدي إلى نقطة الجيش عند جسر الأولي، فتبدو مثل جمل يحاول الدخول في سُمّ إبرة، تهتز أركان الجسر تحت وقع الرعد والبرق والمطر، أحس أنه يكاد يهبط من ثقل العائدين فلا يعبرونه خفافا.

الجندي على الحاجز، قال لي تفضلي يا حجة، لأني محجبة! منذ أيام عبرت من هنا وصديقتي غير المحجبة، قال لها جندي زميله، تفضلي يا مدام! إذا، التفريق بين الحداثة والتقليد، مبني على ما نضعه على رؤوسنا وليس فيها.

صيدا، تنام باكراً منذ أكثر من عشرين سنة، من يوم قررت “الجماعة” تحويلها إلى مدينة إسلامية، فألغت كل المظاهر المعادية للدين فيها، فلجأ أهلها إلى النوم، وتركوا السهر لغيرهم. أما بحرها ففي ذروة صحوه، صاخب، هائج، يصفق ويزغرد بأعلى صوته، لعله يوقظ النيام ليشاركوه احتفاله، يرمي أذرعه على الكورنيش، يمددها بكل الاتجاهات، يتشبث بالأرصفة، كأنه يريد أن يمضي أطول وقت على اليابسة، على الجامدة. ثم، كأن صوتا من الأعماق ينهره، ويجبره على الانسحاب، يرتخي قليلا، ثم يعاود المحاولة، وصيدا غير آبهة. ولولا الرائحة المنبعثة من “جبل الزبالة”، أشهر معالمها في القرن الواحد والعشرين، وأهم إنجازات طبقتها السياسية، يحس العابر أنه قطع لتوه الصحراء الكبرى.

صيدا صارت خلفي الآن، وإلى يساري، ينام مخيم عين الحلوة الفلسطيني، ليلة أخرى بعيدا عن “البلاد”، غارقا في ظلام وظلم ذوي القربى، بلا كهرباء ولا دفء ولا عمل ولا أونروا ولا مستقبل.

طريق الزهراني نحو صور مقطوعة عند تقاطع العدوسية بسبب الانهيارات، طريق برج رحال أيضا، بسبب الانخسافات، لا أدري كيف يذهب الناس إلى صور هذه الليلة؟! ما يهمني أن الطريق إلى النبطية سالكة وآمنة، فموكب “اليونيفيل” مازال يرافقني أو أرافقه كما توقعت.

أقود سيارتي صعودا، سيول المياه في طلعة المصيلح، تسحبها نزولا، أضاعف الضغط على دواسة البنزين، فتميد الأرض تحتي. أدخل في منطقة الأضواء قرب منزل رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، فيتضاعف شعوري بالأمان، جنود “اليونيفل” أمامي وعلى جانبي حرس مجلس النواب.

في النشرة التي أعددتها الليلة أيضا، لفتني كلام رئيس مجلسنا مع الملك الأردني. سوف نتبادل والأردن فائض الكهرباء مقابل فائض المياه! لكن فائض مياهنا يكرج الآن صوب البحر، وبحلول الصيف، لن يبقى منه قطرة تبلل عطشنا. لو أنك وعدته، يا زين مجلسنا، أن نتبادل الكهرباء الملكية بقطرات دموعنا، ففاقد الشيء لا يعطيه.

أخرج من منطقة الإنارة في المصيلح، وأدخل مرة أخرى في متاهة العتمة، أقترب من النبطية أكثر فأكثر، يزداد جنون المطر أكثر فأكثر، وتخلو الطريق إلا من مجانين مثلي، قرروا خوض مغامرة مجنونة في هذا الطقس المجنون، إلى يميني ترتفع تلة الفنار، حيث يقوم “مستشفى المجانين” كما يسميه أهل المنطقة، شاهد آخر على عقود طويلة من الإهمال والفساد والجريمة الأخلاقية المنظمة.

الطريق من هنا، وصولا إلى النبطية، بلا أضواء ولا إشارات تحذير، ملأى بالحفر والمطبات والالتواءات والانخسافات، وجوانبها بلا حوائط دعم، تتدحرج عليها الحجارة والأتربة والأوساخ، وتقذف الرياح إليها أعمدة الكهرباء والأشجار والصخور، وغياب تام لأي نقطة أمنية أو حاجز أو مركز للنجدة.

منذ 1992 والثنائي الحاكم يتقاسم السيطرة على المنطقة، مع صفر تقدم على صعيد التنمية. لا النواب الذين يمثلونه في البرلمان أحدثوا فرقا، ولا البلديات الموزعة بينهما، أنجزت مشروعا حقيقيا. المنطقة منذ هذا التاريخ، على حالها، على فقرها وتخلفها تنمويا وثقافيا واقتصاديا وسياحيا، ولولا فوضى العمران العشوائي، لا يمكن رصد أي تغيير في منظرها العام. الإنجاز الوحيد الذي يمكن إضافته إلى إنجاز “التحرير”، هو احتلال أراضي الدولة من قبل النافذين فيها، وتحويلها إلى ملكيات خاصة. المشاريع التشغيلية فيها، يمكن حصرها، بذلك العدد المخيف من الكسارات والمقالع والمرامل ومعامل الباطون ومكبات النفايات العشوائية.

هنا الفساد مغلف بالقداسة، لا يجوز النقد ولا الاعتراض ولا حتى طرح الحلول البديلة، فتهمة العمالة والخيانة والفتنة، ستكون بالمرصاد. وغير مسموح لأحد، أن يتحدث عن وحش الكسارات الذي يقضم تلال خلة خازن، وتمدد الباطون المحمي في محمية وادي الحجير، والمرامل التي تغسل أوساخها في مياه الليطاني فتقضي على كل حياة فيه، وقنوات الصرف الصحي التي تصب في مجراه، رغم أن البلديات المتاخمة له، تأخذ التمويل تلو التمويل من الاتحاد الأوروبي لمعالجة هذه المسألة، والمكبات العشوائية المنتشرة في كل البراري، ومأساة وادي الكفور، والكارثة البيئية التي خلفها مكب كفرتبنيت الشهير وإضافة إلى هذا كله أزمة الكلاب الشاردة.

أخيرا، انتهت مغامرتي، التي دامت ساعة ونصف من العتمة والمطر والتوجس والذكريات، ودعت موكب “اليونيفل”، ونزلت صوب حي السراي النائم الآن، الكهرباء مقطوعة كالعادة، قفزت من السيارة إلى البوابة بأسرع من البرق، ودخلت منطقة الأمان، شبح الكلاب الشاردة، التي تبدأ هجماتها بعد منتصف الليل، يستولي على تفكيري، أمس أصيبت سيدتان في عربصاليم، وقبلها في الدوير وجبشيت وكفرتبنيت وغيرها، مررت يدي لأضغط على مفتاح الضوء، ثم عدلت، أشعلت بخورا برائحة القرنفل البلدي، ورحت أتفقد الغرف، الأشياء تبدو أكثر ألفة في العتمة.

اليوم هو الاثنين، وبلغة أهل النبطية هو يوم السوق، تيمناً بسوقها الشعبي الذي يلتئم صباح كل اثنين، الأثر الوحيد المتبقي من عهود المماليك. تذكرت أبي حين كان يدندن محطما كل درجات السلم الموسيقي “مالي شغل بالسوق مريت أشوفك”. تكومت تحت اللحاف وأنا أتذمر من هذه الدنيا، التي تحرمنا من شوفة أحبابنا ولا نشوف فيها سوى العجائب.

 

بيتي الذي نذرتُه لأبي الفضل العبّاس