fbpx

الجيوش ورهاب الثورات(١):الانقلابات العسكرية والمسألة الطائفية في الجيش السوري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كيف اهتزّت مواقع الضباّط السنّة في الجيش السوري، ثمّ سقطت تدريجياً، مذ نجح حافظ الأسد ورفاقه في السيطرة على القوّات المسلّحة عام 1963؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أعادت الاحتجاجات الجزائرية الاعتبار للتفكير بأدوار الجيوش في دول الثورات في كبح الاحتجاجات وسحقها كما هي الحال في سوريا ومصر أو في اتاحة المجال للثورات لصناعة التغيير كما هي الحال في تونس.

يبدأ درج اليوم بنشر ثلاثة تحقيقات بحثية للأكاديمي هشام بونصيف حول الأدوار التي لعبتها  الجيوش في كل من سوريا ومصر وتونس…

كيف اهتزّت مواقع الضباّط السنّة في الجيش السوري، ثمّ سقطت تدريجياً، مذ نجح حافظ الأسد ورفاقه في السيطرة على القوّات المسلّحة عام 1963؟ هناك خطأ شائع مفاده أن جذور الهيمنة العلوية على الجيش السوري تعود إلى زمن الانتداب الفرنسي بين 1920 و1946، باعتبار أن الفرنسيين فضّلوا تجنيد الاقليّات في نواة الجيش التي أنشأوها على حساب الغالبية العربية السنية. يبدو خطل هذا التصوّر بسرعة إذا ما تنبهّنا إلى أنّ الضبّاط السنّة، بمن فيهم الأكراد المستعربون، كانوا أكثر حضوراً في الانقلابات التي هزّت سوريا بين عامي 1949 و1963 من زملائهم العلويين. لو كان العلويون فعلاً الأقوى في الجيش السوري الفتي، كان يفترض أن يكون دورهم أكبر في الانقلابات التي سلّمت زمام الحكم في سوريا للعسكر.

سأحاول في هذه العجالة تتبّع انعاكسات الانقلابات في سوريا على الجيش – واستطراداً، على موازين القوى الطائفية فيه من الاستقلال حتّى صعود ضبّاط البعث بعد انقلاب آذار/ مارس 1963.

تعود جذور الجيش السوري إلى قوّات الشرق الخاصّة التي أنشأها الفرنسيون مطلع العشرينات من القرن الماضي، زمن انتدابهم على سوريا. يزعم عدد غير قليل من كلاسيكيات الدراسات عن سوريا، ومنها مؤلفات باتريك سيل وفيليب الخوري، أن السنّة السوريين تمنّعوا عن الاتضمام إلى نواة الجيش السوري هذه، وأن القوّة المنتدبة ما أرادتهم هناك أصلاً. ولكنّ عدداً من الدراسات المعاصرة، منها أطروحة دكتوراه غير منشورة أنجزها أمين بو نخلة عام 1989 في جامعة يوتاه، شكّكت في ما ذهب إليه سيل وخوري وسواهما، حول مسألة الحضور السنّي في الجيش السوري الناشئ. يبدو من دراسة بو نخلة أن الفرنسيين سعوا فعلاً إلى إدخال العرب السنّة إلى القوّات الخاصّة لأسباب عدّة، منها ما هو متعلّق بالديموغرافيا السنّية الوازنة في سوريا ولبنان، وبرغبة الفرنسيين بالاستفادة من طاقاتها، ومنها مع هو سياسي – جيوبوليتيكي مرتبط بخوف الفرنسيين من انعكاس تدهور علاقاتهم مع السنّة في سوريا ولبنان سلباً على مناطق نفوذهم في الجزائر وتونس والمغرب. في المقابل، شكّل الانضمام إلى طلائع الضبّاط السوريين فرصة اغتنمها لا أبناء الشرائح السفلى من سنّة الأرياف وحسب، بل أيضاً جزء من سنّة المدن، بمن فيهم أبناء العائلات السنّية الحاكمة كالاتاسي (حمص)، أو الكيلاني (حماه)، أو الكيالي (حلب)، على سبيل المثال لا الحصر. الجدول أدناه يوضح التوزيع الطائفي للضبّاط السوريين واللبنانيين الـ279، الذين تخرّجوا من المدرسة الحربية في حمص في زمن الانتداب الفرنسي.

يظهر هذا الجدول بوضوح أن العرب السنّة شكّلوا النسبة العليا من ضبّاط قوّات الشرق الخاصّة – وتتعزّز النسبة السنيّة عموماً، اذا ما أضفنا الى العرب السنّة العدد المعتبر من السنّة الأكراد والشركس، الذين تخرّجوا أيضاً من الكلّية الحربية في حمص. وإذا صحّت الأرقام التي تشير إلى أن نسبة السكان السنّة في سوريا ولبنان، أي في مجموع الأراضي التي خضعت للانتداب الفرنسي، انخفضت عن النصف، فهذا يعني أن نسبة السنّة في صفوف الضبّاط الذين تخرّجوا من حمص لامست نسبتهم المجتمعية العامّة، ما ينسف نظرية التمييز الفرنسي ضدّ السنّة في صفوف الجيش من أساسها – دع عنك نظرية أن السنّة ككلّ تلكأوا عن الالتحاق بقوّات الشرق الخاصّة. وفي وقت لاحق، شكّل الضبّاط السنّة، من العرب والأكراد المستعربين، نجوم الانقلابات العسكرية السورية وقادتها. أذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، حسني الزعيم (قائد الانقلاب الاوّل في آذار 1949)، وسامي الحنّاوي (قائد الانقلاب الثاني في آب/ أغسطس 1949)، وأديب الشيشكلي (قائد الانقلابين الثالث والرابع في كانون الاوّل/ ديسمبر 1949 وتشرين الثاني/ نوفمبر 1951)، وأنور بنّود (قائد المحاولة الانقلابية الفاشلة ضدّ الشيشكلي في كانون الاوّل عام 1952)، وفيصل ألاتاسي ومصطفى حمدون (أبرز ضابطين أعلنا من حلب التمرّد الذي أطاح بالشيشكلي في شباط/ فبراير 1954)، وعفيف البزري (قائد الانقلاب الصامت الذي فرض على الرئيس القوتلي الوحدة مع مصر في كانون الثاني/ يناير عام 1958)، وعبد الكريم النحلاوي (قائد الضبّاط الانفصاليين الشوام الذين أطاحوا بالجمهورية العربية المتحدة في أيلول/ سبتمبر عام 1961)، وجاسم علوان ولؤي الاتاسي (قائدي الانقلاب الوحدوي الفاشل في نيسان/ أبريل 1962)، وسواهم. طبعاً هذا لا يعني أن ضبّاط الاقليّات كانوا غائبين عن ساحة الانقلابات في تلك الفترة. فهم حضروا إمّا كحلفاء للضبّاط السنّة (مثل الضابطين الدرزيان أمين بو عسّاف وفضل الله بو منصور اللذين لعبا أدواراً مهمّة في الانقلابات الاولى)، أو، استثنائياً، كقادة لمحاولات انقلابية غير ناجحة (مثلاً، قائد سلاح الجوّ السوري محمد ناصر، وهو ضابط علوي، قد يكون متورطاً بمحاولة انقلابية فاشلة ضدّ الشيشكلي عام 1950 – وقد دفع ناصر حياته ثمن الفضيحة. الضابطان العلويان محمود معروف وغسّان جديد أيضاً تورّطا بمحاولات غير ناجحة مدعومة من العراق لقلب النظام في منتصف الخمسينات). ما هو ثابت عموماً أن الحضور السنّي في طبقة الضباط السوريين كان الأساس، والحضور الاقلّوي كان المكمّل، لا العكس.

 

كيف اهتزّ الدور السنيّ في الجيش السوري؟

يظهر الجدول التالي أبرز المحاولات الانقلابية التي هزّت سوريا في السنوات الأولى بعد الاستقلال.

الضبّاط في هذا الجدول سنّة باستثناء محمد صفا (شيعي) والضبّاط العلويين الثلاثة، الذين ذكرتهم سابقاً، أي محمد ناصر ومحمود معروف وغسّان جديد. عندما كان الضبّاط الانقلابيون المظفّرون يطيحون بمنافسيهم من السنّة، كانوا يطهّرون الجيش من أعوانهم أيضاً، ويكون جلّهم من السنّة، خصوصاً في الرتب الرفيعة. وهكذا، من انقلاب إلى انقلاب، ومن تطهير إلى آخر، فقد الجيش العشرات من كبار الضبّاط السنّة الذين تورّطوا في لعبة الانقلابات. من نافل القول أن عمليات التطهير طاولت ضبّاط الأقليات أيضاً. ولكنّ عدد هؤلاء باعتبارهم قادة للانقلابات، أو جنرالات يحتلّون المواقع الأولى في الجيش، كان أقلّ من عدد الضبّاط السنّة. وتالياً كان أثر علميات التطهير على الضبّاط السنّة أكبر من أثرها على سواهم. خذ النحلاوي على سبيل المثال. تمتّع هذا الضابط الذي صنع الانفصال عام 1961، بتأييد قوي في صفوف الضبّاط السنّة الدمشقيين. تطهير الجيش من مؤيديه بعد الانفصال، عنى أن موقع الضبّاط الدمشقيين ككلّ اهتزّ، لا النحلاوي نفسه فقط. أمّا وأن جلّ الضبّاط من دمشق سنّة، فقد ساهم إضعاف الضبّاط الدمشقيين في تراجع حجم النفوذ السنّي ككلّ في الجيش. ما هو صحيح بالنسبة إلى النحلاوي، صحيح أيضا بالنسبة إلى الزعيم والشيشكلي وسواهما من كبار الضبّاط السنّة العرب أو الأكراد المستعربين. ويبدو أنّ اطمئنان الأكثرية إلى أنّها كذلك أضعفها، لا سيّما أنّه ترافق مع استسهال التخلّص من الخصوم، من دون التفكير بالانعاكسات، على مستوى موازين القوى الطائفية في الجيش.

ينبغي التنبّه هنا إلى الانقسامات العميقة التي ساهمت في تأجيج الصراع السنّي – السنّي داخل الجيش. هناك من جهة الحساسيات الجهوية التي قسّمت الضبّاط إلى تكتلات مناطقية (بين الضباّط الشوام، الحمويين، الديريين  – أي من دير الزور – الخ). هناك أيضاً الخلافات الايديولوجية (ضباّط يساريون متعاطفون مع أكرم الحوراني أو حزب البعث في مواجهة ضبّاط يمينيين أقرب إلى الحزب الوطني أو حزب الشعب). لاحقاً أيضاً جاء الموقف من عبد الناصر ليشكلّ فالقاً جديداً، وضع الضبّاط الوحدويين الذين سعوا إلى عودة الجمهورية العربية المتحدة بعد سقوطها عام 1961 (فكّر بالعقيد جاسم علوان على سبيل المثال)، في مواجهة الضبّاط “الانفصاليين”، ولا سيّما الشوام منهم. أضف إلى ذلك، ما حصل من توترات بين كبار الضبّاط وصغارهم، وصراعات على النفوذ والموقع الأوّل في الجيش، فيكتمل مشهد انقسامي معقّد وعنيف. ولا يعني هذا أن السنّة خسروا كلّ مواطن القوّة في الجيش قبل انقضاض الضبّاط البعثيين الأقلويين على السلطة في آذار عام 1963. القصد ممّا سبق الإشارة إلى أن سلسلة الانقلابات، والاستقطابات داخل الطائفة، هزّت مواقعها في القوّات المسلّحة تدريجياً، بين عامي 1949 و1963. ثمّ جاء التمييز المنهجي ضدّ الضبّاط السنّة في الجيش بعد آذار 1963، ليقضي على ما بقي من معطيات النفوذ والتأثير تباعاً، لا سيّما بعدما طرد البعثيون أعداداً معتبرة من ضبّاط اللواء زياد الحريري، والضبّاط الناصريين، ولاحقاً ضبّاط أمين الحافظ، وجلّ هؤلاء من السنّة. ولكنّ هذا لعجالة أخرى.

 

اليسار الأميركي… ونحن