بعد سبع سنوات على سقوط نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، يمكن القول إن تونس نجحت بالانتقال من مرحلة التحوّل الديموقراطي (Democratic Transition) إلى مرحلة تثبيت الديموقراطية (Democratic Consolidation)، بمعنى أن الارتداد إلى الماضي الاتوقراطي يبدو اليوم مستبعداً. ليست هذه النتيجة حتمية بمجرّد أن تتحدّى الثورات الشعبية الأنظمة غير الديموقراطية. أحياناً، ينجح التحدّي الشعبي بإسقاط النظام ودفع البلاد باتجاه التحوّل الديموقراطي، ثمّ تفشل النخب بتثبيت الديموقراطية، فتقتنص الثورة المضادّة الفرصة لإعادة بعث الستاتيكو السلطوي. وتبدو مصر – السيسي أفضل نموذج هنا. أحياناً أخرى يفشل التحوّل الديموقراطي أصلاً، بمعنى أن يحمي العسكر الستاتيكو بالعنف المفرط، فلا يسقط، وهذا بالضبط ما حدث في سوريا. وسواء انتصرت الحركات الشعبية، أو انتصرت الأنظمة، يبقى في المحصلة أن دور الجيش محوري في إنجاح التحوّل الديموقراطي، واستكماله، أو وأده. بهذا المعنى، تدين الديموقراطية التونسية الوليدة بالكثير لجيش البلاد، الذي أثبت في لحظات 2010 – 2011 المفصلية أنّه جيش الجمهورية، لا النظام الحاكم.
وصل الضبّاط الأحرار على ظهر دبابات إلى السلطة في مصر عام 1952. جعل الجيش جمال عبد الناصر رئيساً، وهو كان ضابطاً مغموراً بغير قاعدة شعبية يوم سقط الملك فاروق عن عرشه. كذلك أوصل الجيش السوري حافظ الأسد إلى السلطة تدريجيّاً بعد انقلابات 1963، و1966، و1970. وكان الأسد بدوره من دون قاعدة شعبية يوم قبض على زمام الأمور في سوريا، وقد أبقاه ولاء الضبّاط في السلطة، بعدما فتحوا له طريقها. من منظار مقارن، يختلف مشهد تأسيس النظام السلطوي في تونس جذرياً. فبعكس الضابطين ناصر والأسد، لم يصل بورقيبة إلى السلطة بانقلاب. وبخلافهما أيضاً، تمتّع بورقيبة بشرعية لا غبار عليها، راكمها طوال سنوات النضال من أجل الاستقلال وسبقت انتخابه رئيساً لتونس عام 1957.
بورقيبة و”عقدة” الجيش
كتب الصافي سعيد في البيوغرافيا المرجعية التي وضعها عن الرئيس التونسي الراحل، أن بورقيبة لم يكن “يمثّل شيئاً على الصعيد الرسمي، ولكنّه كان كلّ شيء على الصعيد الشعبي”، يوم عاد إلى بلاده من المنفى عام 1955. عنى هذا ببساطة أن بورقيبة لم يكن مديناً برئاسته للجيش، وقد وضعته شرعيته فيها، لا حراب العسكر.
وفيما لم يكن لناصر حزب عام 1952، وكان للأسد شبه حزب عام 1970، ما فاقم اتكالهما على العسكر لضمان السلطة، أمسك بورقيبة بزمام حزب الدستور الجديد الذي كان منتشراً وفاعلاً في سائر المناطق التونسية، وجعل منه عماد حكمه. وإن كان ناصر ورفاقه حوّلوا مصر “مجتمعاً عسكرياً” – التعبير للبحّاثة المصري الراحل أنور عبد الملك – فإن الدولة في تونس كانت دولة الحزب الحاكم الذي يتطابق مع القطاع العام ويعطيه كادراته وهو ما قال عنه مهتمّون بالشأن التونسي أنّه (Party-Government Symbiosis). أرخى كلّ ما سبق بظلاله على العلاقات المدنية – العسكرية في البلدان الثلاث، وأعطى النخبة الحاكمة في تونس هامشاً واسعاً من الاستقلالية تجاه الضبّاط، لم يكن متوفّراً لمثيلاتها في مصر أو سوريا، دع عنك الجزائر المجاورة.
العلاقات المدنية – العسكرية في تونس: ثلاثية الجيش، والحزب، ووزارة الداخلية
لم يحب بورقيبة العسكر ولم يراهن على دور مفترض لهم في تنمية البلاد وتحديثها. لجذور موقف بورقيبة من الجيش روافد عدة، منها ما سبق وصوله إلى السلطة، ومنها ما تعزّز بعدها. كان والد بورقيبة جندياً في جيش الباي التونسي (مجموعة من القوات المسلحة النظامية في العهد العثماني، يديرها ممثل السلطة العثمانية، وباي تونس).
لم ترق لبورقيبة الأب حياة الجيش، خصوصاً دور الجنود في إجبار الفلاحين على سداد الضرائب للباي، ونقل نفوره من الجندية لابنه. لاحقاً انتقل بورقيبة إلى دراسة الحقوق في باريس عام 1925، وعاشر في جامعاتها شلّة من المثقفين المعادين للعسكر وتأثّر بطروحاتهم. وما فاقم حساسية بورقيبة تجاه المؤسسات العسكرية، هو صلافة الجنود والضباط الفرنسيين الذين اصطدم بهم بعد عوته إلى بلاده محامياً وصحافياً، ثمّ سياسياً عاملاً في سبيل الاستقلال في ثلاثينات القرن المنصرم. باختصار، لا يوجد عامل واحد في نشـأة بورقيبة، أو في التأثيرات الأولى في تفكيره السياسي، كان يمكن أن يدفعه لاحقاً إلى الرهان على الثكنات والتودّد إلى ضباطّها.
وتعزّزت نزعة بورقيبة لمعاداة العسكر بعد محاولة فاشلة تورط فيها عدد من ضبّاط الجيش التونسي للاطاحة بحكمه عام 1962. شارك حوالى أربعين ضابطاً تونسياً، في التحضير للانقلاب وكانت الخطّة تقضي بتصفية بورقيبة في غرفة نومه بالقصر الرئاسي، إذا قاوم العسكر ورفض نقله إلى السجن تحضيراً لمحاكمته. أعدم بورقيبة 11 من الانقلابيين، بينهم 5 ضبّاط. ومع علمه بأن قسماً من الضبّاط المتآمرين تخرّج من كليّات حربية فرنسية، ثابر بورقيبة على إرسال تلاميذ المدرسة الحربية التونسية للتدريب في سان سير، في فرنسا، أو في ويست بوينت، في الولايات المتحدة، لا في الكليّات الحربية المصرية، أو العراقية، أو السورية، على أمل بأن يتطبّع الضباط التونسيون بالعقيدة الغربية للعلاقات المدنية – العسكرية، أي أن ينشأوا على فكرة خضوع الجيش للسلطات المدنية الشرعية، بعيداً من الطروحات الراديكالية، أو التدخلية (Interventionist) التي كانت سائدة بين ضبّاط جيوش بلدان العالم الثالث، بمن فيهم العرب. وإذ طالب الضبّاط التونسيون مراراً بورقيبة بتعزيز الجيش، حاجج الرئيس الراحل بأن موارد تونس قليلة، وأعلم ضبّاطه من دون مواربة بأنّه ينوي إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية وبناء المدارس والجامعات لا لموازنة الدفاع. بحسب بورقيبة، كانت صداقة فرنسا، واستطراداً الولايات المتحدة والمحور الغربي عموماً، الضمانة الفعلية التي يحتاجها الأمن الوطني التونسي، ولا سبب تالياً لهدر الأموال على المدافع والدبابات الجرّارة.
تنازعت الضباط التونسيون عموماً، مشاعر متضاربة تجاه بورقيبة. من جهة، كانت وطنيته فوق الشبهات، ولم تحم حوله مزاعم فساد، بخلاف كثيرين من حكام الدول العربية ودول العالم الثالث عموماً، ما عزّز الاحترام الذي حمله الضبّاط لرئيسهم.
من جهة ثانية، كان واضحاً أن دولة بورقيبة تتوجّس من الضبّاط وتتعمّد إبقاءهم في الهوامش، على أن يحتلّ كادرات الحزب الحاكم وحدهم المتون. ثمّ أن الضبّاط، كمواطنيهم المدنيين، ضاقوا ذرعاً بحكم بورقيبة الطويل، لا سيّما خلال سنواته الأخيرة عندما بات معلوماً أن صحّة الرئيس المتدهورة لم تعد تسمح له بتحمّل أعباء الحكم، وأن تونس تحكمها مراكز قوى تتناتش السلطة ولا تترك للرئيس العجوز والغارق في عزلته سوى واجهتها.
“الانقلاب الطبي” ونهاية بورقيبة
الأكيد أن “الانقلاب الطبّي” الذي نفذّه رئيس الوزراء آنذاك زين العابدين بن علي عام 1987، والذي أخرج بورقيبة من السلطة بعدما قدّم سبعة أطباء تونسيون تقريراً اعتبروا فيه أن الرئيس لم يعد قادراً صحيّاً على إدارة البلاد، حظي بتأييد واسع في الجيش، والشارع التونسي عموماً. لفترة، أمل ضبّاط الجيش بأن يشكّل صعود زين العابدين بن علي إلى الحكم فرصة تعدّل موازين القوى المختلّة بين الحزب الحاكم والقوّات المسلّحة لمصلحة الاوّل. من جهة، اتّكل بن علي على مجموعة من كبار ضباط الجيش للاستيلاء على السلطة. فرئيس أركان الجيش، الجنرال يوسف بركات، شارك في التخطيط للانقلاب. وكذلك فعل مدير المخابرات العسكرية الجنرال يوسف بن سليمان، ومدير التفتيش العسكري الجنرال سعيد الكاتب.
أمّا الجنرال حبيب عمّار فقد لعب دوراً مفصلياً بالانقلاب، إذ إن رجاله في الحرس الوطني أحاطوا بقصر الرئاسة ليلة السابع من تشرين الثاني/ نوفبمر 1987، وأحكموا طوقاً حول بورقيبة لم يخرج منه إلّا إلى الإقامة الجبرية في بلدته المنستير. من جهة ثانية، كان بن علي نفسه ضابطاً في الجيش، إذ تخرّج ضابطاً من سان سير عام 1956 – دفعة بورقيبة، وهي الأولى في الجيش التونسي – قبل أن يتولّى لاحقاً إدارة المخابرات العسكرية بين 1964 و1974. هذان العاملان، أي دعم جنرالات نافذين لبن علي، وخلفيته العسكرية، حرّكا أمل الضبّاط بأن زمن التهميش انقضى بعد سقوط بورقيبة. ضاعف تفاؤل الضبّاط تولّي بن علي شخصياً وزارة الدفاع، في أولى حكومات عهده، ما بدا للضبّاط اهتماماً خاصّاً من الرئيس بالجيش. كما أن بن علي عيّن وجوها بارزة من الصفوة العسكرية في مواقع مدنية مرموقة، منها وزارة الداخلية التي تولّاها على التوالي الجنرالان حبيب عمّار، وعبد الحميد الشيخ، ومديرية الامن الوطني التي تولّاها علي السرياطي عام 1991، ومنها انطلق ليصبح العماد الأمني / المخابراتي، لنظام بن علي. وعيّن بن علي مجموعة من كبار الضبّاط كسفراء أو محافظين، وقد سرت شائعة عام 1991 أن بن علي ينوي تعيين محافظين من خلفيات عسكرية في سائر مناطق تونس الحدودية. باختصار، بدا لسنوات قليلة بين نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي أن موعد الضباّط مع السلطة والنفوذ قد جاء.
لم يحدث هذا. المستفيد الحقيقي من صعود بن علي إلى سدّة الرئاسة كان وزارة الداخلية لا الدفاع. لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الحزب الحاكم لم يكن خصم الجيش الوحيد في لعبة السلطة التونسية إذ شاركته وزارة الداخلية الحزب نفوره من الجيش. يعود هذا لاسباب ثلاث هي التالية: 1)- إن لم يخصص بورقيبة الكثير من المال للانفاق على الجيش، فإن موازنة وزارة الداخلية طوال عهده كانت أقلّ. قاسم الجيش الداخلية الموازنة المرصودة للقطاع الأمني ونافسها بالحصول على موارد الدولة. 2)- خرج الجيش التونسي كبيرا من انتفاضة الخبز عام 1984 عندما تعامل بالحسنى مع المتظاهرين، في حين أفرطت الشرطة باستعمال العنف ضدّهم.
فاقمت حساسية الجيش في الشارع مقابل الكره العام للشرطة من حساسيتها ضدّه. 3) – اعترضت الداخلية على تعيين عدد من كبار ضبّاط الجيش (منهم السرياطي، كما ذكرت سابقاً) في مواقع حسّاسة تابعة لوزارة الداخلية، وتخوفّت من اتجاه مفترض لدى بن علي لـ”عسكرة الشرطة”. هكذا بدا مشهد نظام بن علي من الداخل في سنواته الأولى: جنرلات يتهيأون لقطف ثمار التعاون مع الرئيس، وابارتشيك الحزب الحاكم – بقيادة أمين الحزب، عبد الرحيم الزواري، وأوّل رئيس وزراء لبن علي، هادي بكّوش – يتقاطعون مع الاسبلشمنت الأمني في وزارة الداخلية على وقف اندفاعة العسكر صوب مواقع النفوذ في النظام.
الجيش من برّاكة الساحل الى سقوط بن علي: الصفعة، والصفعة المضادّة
في أيّار/ مايو 1991، وجّه تحالف الحزب – الشرطة ضربة إلى المؤسسة العسكرية في تونس كرّست نهائياً هامشيتها في لعبة الصراع على السلطة تحت بن علي. ليس بالإمكان في هذه العجالة التوسّع في شرح قضيّة “برّاكة الساحل”، ولكن خلاصتها أن وزير الداخلية السابق عبد اللّه القلال، بالتعاون مع مدير عام الأمن محمد علي قنزوعي، نجح في تلفيق ملفّ لعدد من ضباّط الجيش التونسي اتهموا بالتحضير لاتقلاب عسكري غايته المفترضة إيصال الإسلاميين إلى السلطة في تونس. نعلم اليوم أن الضبّاط المتهمين كانوا أبرياء – وقد حوكم القلال وقنزوعي، وأودعا السجن لسنوات، بعد سقوط بن علي، على خلفية دورهما في برّاكة الساحل. واعتذر الرئيس التونسي المنصف المرزوقي رسمياً من الضبّاط والجنود الذين تورّطوا في القضيّة. ولكن ما هو واضح اليوم لم يكن كذلك آنذاك. والحال أن توقيت المؤامرة ضدّ الجيش كان ذكياً. ففي انتخابات 1989 النيابية، فاز حزب النهضة الاسلامي بـ17 في المئة من الأصوات، وكان شائعاً أن حصّة النهضة من الأصوات كانت لتكون أكبر لولا تلاعب السلطة بالنتائج. ومع أن السلطة نفت أمين عام النهضة راشد الغنوشي إلى لندن ذلك العام – بعد شهر عسل قصير بينه وبين بن علي – إلّا أنّ شوكة النهضة قويت في تونس على خلفية انتصار الاسلاميين الجزائريين، في الانتخابات البلدية في الجزائر عام 1990، والتعبئة الواسعة المعادية للغرب التي شهدتها تونس على خلفيّة حرب الخليج الثانية، أي الحرب على العراق بذريعة تحرير الكويت.
وأعلن النظام حال الطوارئ ذلك العام وسط تزايد تحرّك الطلاب الإسلاميين في الجامعات والصدامات المتكرّرة بينهم وبين القوى الأمنية. في تلك المرحلة بالتحديد كان خوف النظام من الإسلاميين مرتفعاً.
المؤامرة… بين بن علي والداخلية
كانت مؤامرة الداخلية “ضربة معلّم” للسببين التاليين: 1)- تورّط الجيش بانقلاب سيئ بذاته من وجهة نظر النظام. أمّا أن يكون الجيش مخترقاً من الإاسلاميين لحظة صعودهم، وهم أعداء النظام بامتياز، ففي هذا ما يكفي ليفقد بن علي ثقته بالجيش نهائياً. وليس هذا بجديد، بمطلق الحال، إذ من الشائع بين القادة السلطويين الذي يقبضون على السلطة بانقلاب، أن يخشوا فقدانها بالطريقة عينها – أي أن يخرج من صفوف الجيش ضبّاط يسقونهم من الكأس ذاتها التي سقوا بها من سبقهم. 2) – تورّط الإسلاميين المفترض بمحاولة الانقلاب برّر المزيد من القمع ضدّهم، واستطراداً، عزّز الحاجة لأداته، أي الداخلية. من غير الواضح تماماً حتى الآن، إذا كان بن علي أراد تحجيم الجيش قبل الحادثة، واستخدم الداخلية لذلك، أم أن الداخلية استفادت من خوف بن علي من الانقلابات (والإسلاميين) للتلاعب به. باختصار، لا نعلم من استخدم الآخر وورّطه، بن علي أم الداخلية. ما هو أكيد أن المؤسسة العسكرية أخطأت، لا سيّما أن التحقيق مع ضبّاطها المتهمين لم يجرَ في وزارة الدفاع، كما تقتضي الأصول، بل في وزارة الداخلية، حيث تعّرضوا للإهانة والتعذيب الشديدين، من دون أن تتمكّن قيادتهم من حمايتهم. ترك الأمر آثاراً سلبية جدّاً على علاقة الضبّاط بالنظام، ونظرتهم إلى قيادتهم أيضاً. في ما يلي الضبّاط والعسكريون الذين اتّهموا زوراً في برّاكة الساحل – وقد حصلت عليه من العقيد المتقاعد في الجيش التونسي المنصف زغلامي:
الجدول الاوّل: ضحايا قضيّة برّاكة الساحل
باختصار، خرج الجيش محطّماً من برّاكة الساحل. وتماماً كما كرهت الشرطة الجيش بعد 1984، كره الجيش الشرطة بعد 1991. لقد اعترض عدد من ضبّاط الجيش على الطريقة التي حوكم زملاؤهم بها، ولكنهم لم يرفعوا الصوت كثيراً، خوفاً من أن يلحقوا بهم إلى السجون.
في المقابل، استفادت وزارة الداخلية التي توسّعت صلاحياتها الأمنية كثيراً، وتعززت ثقة ضبّاطها بـأنفسهم أيضاً. ولم يعد بإمكان ضبّاط الجيش تحريك قطعة عسكرية من مكان إلى آخر، من دون إعلام وزارة الداخلية أوّلاً التي كانت تعمد إلى إرسال مخبرين يتابعون سير الوحدات العسكرية للتأكد أنّها تسير إلى حيث ينبغي.
وصل عدد العاملين في الداخلية التونسية تدريجياً إلى أكثر من 80 ألفاً، في مختلف الأجهزة، ففيما تراوح الجيش بين 30 و35 ألف جندي. وبعدما فاقت موازنة الدفاع موازنة الداخلية، في عهد بورقيبة، انقلب الوضع رأساً على عقب مع بن علي. من جهة أخرى، استفاد أباراتشيك الحزب الحاكم من سقوط الجيش، باعتبار أن حركة تعيين الضبّاط في مناصب مدنية التي بدت آيلة إلى التسارع في سنوات بن علي الأولى توقفت – وظلّ الحزب الحاكم قابضاً على المواقع المدنية الحسّاسة تماماً. في ما يلي نبذة عن خلفيّة المحافظين الذين عيّتهم بن علي منذ وصوله إلى السلطة حتّى سقوطه:
الجدول الثاني: النخبة الإدارية في ظلّ بن علي – المحافظون نموذجاً
هكذا انتهى العقدان الأخيران من ولاية بن علي والتململ في صفوف الجيش يعتمل تجاه النظام، وكذلك الحقد تجاه الحزب الحاكم، والداخلية. عام 2006، احتفل ضبّاط الجيش بذكرى مرور 50 عاماً على تخرّج أوّل دفعة، وكان بن علي ضمنها. ووعد زملاءه السابقين الذين حرصوا على توجيه دعوة له، بحضور المناسبة، لكنّه لم يفعل. كانت الغربة المتبادلة بينه وبين الضبّاط أصبحت تامّة. وسألت ضبّاط الجيش عن سبب غياب الانقلابات العسكرية ضدّ بن علي، فحاججوا بأن الرقابة اللصيقة للداخلية جعلت الانقلاب متعذراً، عدا عن أن الجيش أراد تجنّب الصدام العسكري مع وحدات الحرس الرئاسي الموالية للنظام. أشار الضبّاط أيضاً إلى قناعة باتت مترسخّة في صفوفهم مفادها أن الانقلاب مناف للشرف العسكري، وأن سلاحهم يستعمل حصراً للدفاع الوطني لا للصراع على السلطة.
هذه الاسباب، وهي مزيج من الحسابات العملية والقناعات المبدئية، تفسّر لمَ قنع الجيش التونسي بوضعه طوال عهد رفع آماله عالياً في بداياته ثمّ حطّمها. ما هو أكيد، عموماً، أن تصرّف الجيش التونسي أثناء ثورة 2010 -2011 التي فتحت طريق التحوّل الديموقراطي في تونس، لم يكن مفاجئاً. ويصبح تصرّف الجيش مفهوماً تماماً، إذا فهم على خلفية الديناميكيات الداخلية للنظام التي شرحتها هذه العجالة. النظام التونسي في ظلّ بن علي كان أوّلاً نظام الأوليغارشيا الحاكمة أي عائلات بن علي، والطرابلسي (زوجة الرئيس، ليلى ضمناً)، والماطري (لا سيما صهر الرئيس، صخر)، إضافة إلى رجال الأعمال الملتحقين بهم، وثانياً نظام الأجهزة الأمنية، وثالثاً الحزب الحاكم. هذه الدوائر الثلاث التي أحاطت بالنظام تبادلت الكره مع الجيش. وإذ لم ينجح متن النظام بالحفاظ عليه، ما كان ممكناً لهامشه أن يتبرّع بإنقاذه.
الجيوش ورهاب الثورات(١):الانقلابات العسكرية والمسألة الطائفية في الجيش السوري
الجيوش ورهاب الثورات(2):الفرعون والجنرال وفن الحفاظ على السلطة