fbpx

الفتيات الخمس… خادمات أبيهنّ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
رنا زكار

إن كان الدين ساهم بتكريس الكثير من القوالب للأنثى على مدى قرون طويلة، فقد آن الأوان لنضع قوالب جديدة، عبر إعادة قراءة الدين نفسه، وفق رؤى معاصرة، تبتعد ممّا قرّره لنا فقهاء ماتوا منذ مئات السنين

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يعمل “أبو عماد” ناطوراً لمبنى في أحد أحياء دمشق، ويسكن في قبو مع عائلته المؤلفة من “أم عماد” والأبناء، وهم ذكران وخمس فتيات.

يتولى أبو عماد شؤون السكان، فيما يتولى ابنه الأصغر جمع أكياس القمامة يومياً من أمام أبواب الشقق، في حين تنطلق أم عماد وبناتها إلى البيوت، هي طباخة، وهن “خادمات” أو ما يسمى بالعامية “لفايات”، فتيات صغيرات حُرمن من التعليم من أجل العمل، يحلمن بزواج ينقذهن من هذا البؤس.

وريثما يأتي “النصيب”، تمضي سمر، بعض الوقت قبل العمل، في الحديقة مع شاب، تستمع إلى كلماته الجميلة يتغزل بها، فلا يذهب ما دفعته ثمناً لـ”مكياجها” سدى. هذا المكياج استهلك ما تبقى من راتبها، غير آبهة لاحتمال أن يراها أحد الجيران فيخبر أباها، ولسان حالها: “أتلة وما كانت”، فالأب ليس أكثر من “صاحب عمل” يتقاضى الراتب من عاملاته- بناته- ويترك لهن الزهيد ليتكفلن بأمورهن الخاصة من دواء ومعجون أسنان وفوط صحية وغير ذلك. والأنكى أنه كان يقترض من ربات البيوت سلفاً مقابل عمل البنات، اللاتي بلغ بهن الغيظ أوجه حينما دفع أبوهن مدّخراته من تعبهن لزواج ابنه البكر المدلل، فيما لم يعالج سحر من ألم مضن انتابها في الظهر، وتركها تتلقى ضربات شيخ يحاول إخراج الجن منها حتى ماتت “قضاءً وقدراً”. لكن الغيظ لا يجدي نفعاً، وستبقى الفتيات مضطهدات لا يستطعن الخروج عن طاعة أبيهن، ثم أخيهن، فالرجال قوامون على النساء والنساء لا كلمة لهن.

وما كان عرفاً يصبح ديناً ويلتبس الاثنان معاً، لتجد الأنثى نفسها حانقة على إله متخفٍّ لا تعرف منه سوى الاضطهاد، فتكره الساعة التي ولدت فيها لتحمل كل هذا الشقاء. وليس وضع الأم أفضل، فلا حول لها ولا قوة سوى أن تعمل وتعمل، ثم تتلقى تهديدات من زوجها بأنه سيتزوج أخرى إن لم تنجب له المزيد من الأطفال- الضحايا. فالولد يأتي ورزقه معه، بدليل أن هؤلاء الفتيات يشكلن مصدر دخل، أما الفتيان فهم عز لأبيهم. وهذا كله لا ينفي أن أبا عماد ذاته قد يبكي تأثراً في مشاهد أخرى، كما بكى معي حين ماتت أمي مثلاً!

لطالما اعتقدت أن عمل المرأة هو المهم، وهو ما يمكن أن يؤمن لها نوعاً من التحكم بحياتها، لكن يبدو أنه في أحيان كثيرة يصبح رافداً لظلمها، وما عائلة أبي عماد، سوى عينة من شريحة واسعة في مجتمعاتنا، حيث تعمل المرأة وتساهم في جزء كبير من دخل الأسرة، لكنها لا تملك حرية القرار، وللأسف فإن هذه الشريحة هي ذاتها التي دفعت الثمن الأكبر في الحرب، فزاد الطين بلة، حين أصبحت نساء كثيرات مسؤولات عن أمور الأسرة، بغياب الرجل، لكن الأمر كله أسى بأسى.

وعلى مقلب آخر، نعمت ريما بوضع مادي ممتاز في سنوات زواجها الخمس عشرة الهانئة، ولم يسبق لها أن عملت بشهادتها الجامعية، لكنها وجدت نفسها مضطرة إلى القبول بزواج زوجها من أخرى، وأن تتحمّل الضرب والإهانات، فلا مكان تذهب إليه، وليس باستطاعتها تأمين معيشتها هي وأولادها. وما تقرّه المحاكم في هكذا حالات لا يغني ولا يسمن من جوع. والأنكى أن زوجها، وهو طبيب يدعي التحضر، يرى مبرراً في ضربها، بأن “كل نسوان البلد بينضربوا”، وكان يفضل لو أنها غادرت البيت من غير رجعة، لكنه تفضل عليها وحافظ لها على هذا المظهر الاجتماعي. وما وضع ريما إلا عينة من شريحة واسعة أخرى قد يكون وضع أسرها المادي، أفضل بكثير من أسرة أبي عماد، لكن المرأة لا تعمل وتبقى أسيرة أهواء “السيد” الذي يمكن أن يرمي بها إلى الشارع، أو إلى بيت ذويها في حال توفره، ساعة يشاء.

ما كان عرفاً يصبح ديناً ويلتبس الاثنان معاً، لتجد الأنثى نفسها حانقة على إله متخفٍّ لا تعرف منه سوى الاضطهاد، فتكره الساعة التي ولدت فيها لتحمل كل هذا الشقاء

رب سائلٍ: “ماذا تريدون؟”. تبدو أولويات النساء متفاوتة ما بين السماح لهن بقيادة السيارة وبين حرية امتلاك القرار، بدءاً من أبسط الأمور حتى أشدها تعقيداً. من قرر أن سحر كانت تريد ترك المدرسة والعمل في البيوت خادمة لأطفال في مثل سنها ينعمون بكل ما تفتقد إليه؟ من قرر أن يأخذ أبوها كل ما تجنيه ولا يترك لها إلا القليل؟ ما الفرق بينها وبين العبد؟ ولا تختلف العبودية هنا عن وضع امرأة بلا عمل وضعت نفسها أو وضعتها ظروفها في مهب أهواء الزوج، لتنتظر ما تجود به نفسه ووضعه الاجتماعي وأولوياته.

والموضوع متشعب، تتداخل فيه القوانين الظالمة مع الموروث الديني، إضافة إلى الجهل والفقر، فنحن نربي أبناءنا بتفضيل الذكر على الأنثى، وما يحق له لا يحق لها، ونكرس عن قصد أو عن غير قصد فكرة أن المرأة “ضلع قاصر” و”ناقصة عقل ودين”. وفي أفضل الأحوال هي “حلوى يجب حفظها من الذباب”، وغالباً يكون للمرأة نفسها دور في الدفاع عن هذه الأفكار، وتجد الرجل لا يتذكر الله إلا حين يريد السطو على إرث أخته، وتتعاون قوانين الأحوال الشخصية لتضيق الخناق على المرأة وغالباً باسم الدين، علماً أن تلك القوانين مستمدة من الأعراف وليس من لب الإسلام. وبالنتيجة تصبح مجتمعاتنا مستنقعات لبؤس النساء، وهذا لا يعني بالضرورة أن الرجال سعداء هانئون لكن الحلقة الأضعف في دوامة القهر، هي المرأة.

فعن أي عيد امرأة نتكلم؟ يبدو أن طريقنا ما زال طويلاً، ولن نتقدم إن لم ننفض العقل الجمعي للرجال والنساء معاً. وإن كان الدين ساهم بتكريس الكثير من القوالب للأنثى على مدى قرون طويلة، فقد آن الأوان لنضع قوالب جديدة، عبر إعادة قراءة الدين نفسه، وفق رؤى معاصرة، تبتعد مما قرره لنا فقهاء ماتوا منذ مئات السنين، قوالب تعمل على صوغ العقل بطريقة أكثر تحضراً، وتنتشر تدريجياً لتحل محل ما هو موجود، بالتوازي مع المطالبة بقوانين تفرض نفسها على المجتمع شاء من شاء وأبى من أبى.

“زوجة موقتة…” معضلة لاجئات سوريات في مصر