fbpx

الكراكيب على أشكالها تقعُ…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تطلق تسمية “كراكيب” على الأشياء القديمة التالفة أو المُستهلكة التي نطرحها جانباً في زوايا البيت أو نُخفيها عن الأعين تحت الأسِرَّة. أمّا فِعْل الكركبة، فهو ما يشبه فوضى الأشياء والأحاسيس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تطلق تسمية “كراكيب” على الأشياء القديمة التالفة أو المُستهلكة التي نطرحها جانباً في زوايا البيت أو نُخفيها عن الأعين تحت الأسِرَّة، أو ربما في أفضل الأحوال نُخَزِّنها في عُلِّية البيت أو في قبْوه، ليتراكم عليها الغبار وتصبح متْرعاً خصباً لبراغيت العث.

أمّا فِعْل الكركبة، فهو ما يشبه فوضى الأشياء والأحاسيس. وبناء عليه، فالشخص المُكركب هو شخص موشوَّش مريض، أما المكان المُكركب فتسوده الفوضى ويتآكله العفن.

تَشَكُّل الكراكيب

عادةً ما نتخلى عن مقتنياتنا بعد استهلاكها، فنحيلها على التقاعد لتُصبح في عِداد الكراكيب. ننفيها بعيداً من أنظارنا، ولكن من دون أن نقطع الصلة بها، خوفاً من فقدانها إلى الأبد. فنطمح باستعادة الصلة بها يوماً ما، كلياً أو جزئياً، مُؤكدين لأنفسنا أنّ يوماً قد يأتي وتكون لتلك الأشياء فائدة تِبعاً للمثل القائل “من لا قديم له، لا جديد له”.

أحسب أن علاقتنا بكراكيبنا، تتصارع فيها قوتان متعاكستان: قوة جاذبة من جهة ترتكز على فكرة الخلود والعيش إلى الأبد وتُنتج تعلُّقاً مُقدساً بالاشياء وحنيناً دائماً لها. وقوة طاردة نافية من جهة أخرى ترتكز على فكرة حتمية الموت، وانتهاء صلاحية الحياة بحد ذاتها، وينتج عنها قطيعة تامة مع كراكيبنا بوصفها أشياء زائلة وفانية. ومُوَلِّدة أيضاً نزعة متسارعة لامتلاك أشياء أكثر تطوراً وحداثة.

فلسفة التدوير

إن الوفرة في الإشياء التي أنتجها النظام الرأسمالي الصناعي مُنذ منتصف القرن العشرين طاولت مناحي الحياة كلها. ولكن عصر التكنولوجيا الرقمية الذي نعيشه في هذا القرن الجديد قد غيَّر الكثير في أساليب صناعة السلع ونوعيتها ومدة صلاحيتها. فالدول الصناعية لم تكتفِ بعَوْلمة رأس المال وفرض اتفاقيات التجارة الحّرة بين الدول، بل عمدت إلى نقل مصانعها إلى الدول الفقيرة ذات الدخل الفردي المُتدَنّي وخفّضت من مستوى نوعية سلعها ومدة الصلاحية، فأنْتَجَت الوِفْرة منها، ما أدى إلى ارتفاع هائل في مستويات الاستهلاك وسرعته، وبالتالي دخول هذه المنتجات إلى جنة الكراكيب، وتحولها إلى نفايات لا قيمة لها.

فَمشكلة التلوث البيئي الآتية من نفايات الاستهلاك بنتائجها الكارثية على الإنسان والطبيعة حفَّزت الدول المُنتِجة على ضرورة تحديد معايير للسلامة البيئية وخلق دورات مُستدامة للسلع المتراكمة والمنتهية الصلاحية، عبر عملية التدوير، وهي عبارة عن عملية إعادة تحويل السلع القديمة إلى سلع ومنتوجات جديدة، إنَّما مُختلفة عن وظائفها القديمة وتُنتج نسباً أقل من النفايات.

على رغم أن فلسفة التدوير تطورت لتشمل قطاعات الإنتاج كلها تقربياً، وأدَّت إلى الحد من التلوث في البلدان الغنِيّة (المُنتِجة) من دون الفقيرة (المُستَهْلِكة)، بَيْدَ أنّ تراكم الكراكيب وهي نفايات مُقَنَّعة، استمر بوتيرة متصاعدة في كل بقاع العالم وخصوصاً في الفقيرة منها.

أزعم أن الكراكيب لا تقتصر على أشكال وانواع مختلفة من مقتنياتنا المادية كالثياب والمفروشات وغيرها، بل وقد تكون أيضاً على شكل تراكمات في الوعي الفردي والجَماعي من أفكار ومُعتقدات ومشاعر وعلاقات إنسانية. وبناءً على هذا الزعم، ربما يكون ثمة كراكيب لها طابع سياسي، ثقافي، اجتماعي وحتى عاطفي.

بِلادُنا العَصِيَّة على التدوير

إنّ كُلّ التراكمات والإنجازات في ميادين الثقافة والعلم والاجتماع خضعت لقفَزات من التطور والترقّي عبر التاريخ، كانت الثورات والحروب علاماتها الفارقة وندوبها العميقة.

وهي ذاتها (أي الحروب) شكلّت أكبر عملية تدوير لكل شيء يتعلق بهذه الميادين.

فالنظام السياسي الذي يرتكز على سيادة القانون والديموقراطية، أي الانتخابات وتداول السُلطة واحتكار السلاح من قبل الدولة، فهو بطريقة ما، يُخضع السُلطة نفسها لعملية تدوير عبر تجديد النُخَب والشرعية فيها. والمجتمع الذي تسود فيه شرعة حقوق الإنسان، وتكون فيه حرية الفرد مُصانة على أساس حرية المُعتقد، هو أيضاً يُدخِل نفسه في عملية تدوير طويلة وبطيئة لأشكال الوعي الاجتماعي والثقافي فيه.

أمّا الكيان اللبناني، وعلى رغم تعَرُّضه لحروبٍ أهلية دامية في تاريخيهِ القديم والحديث، فهو ما انفكَّ يعيد إنتاج ذاته، كنسخة طبق الأصل، وهذا ما ينافي مبدأ التدوير في إعادة إنتاج الاختلاف والتحوير للأصل. فالحرب في النسخة اللبنانية تُنتج حروب، والحقد ينتج حقداً أكبر، والطائفية السياسية لا تُنتج إلا طائفية سياسية أسوأ وأدهى، النُخب العائلية الحاكمة لا تُنتج إلا ذاتها عبر توريث الأباء لأبنائهم او لأصهرتهم.

بلادنا المُكَرْكَبة ثابتة لا تتحرك كالأبد المُقدَّس، لذا فهي عَصِيّـة على التدوير وتعوم في بحر هائل من الكراكيب والنفايات.

قد لا نشعر ونحن في ريعان شبابنا بتداعيات هذه الدورة إلا إذا حدث خلل مُفاجئ. ولكن المؤكد أنه ومع تقدمنا في العمر وعلى رغم تطور العلوم الطبية، سوف نشعر ونراقب عن كثب كيفية تحَوُّل أجسادنا كراكيبَ. سنلاحظ كيف تتدلّى أجسادنا نزولاً وتذوي أطرافها في أشكال مستطيلة مُنحَدِرة في رسمها البياني إلى الحضيض بفعل جاذبية الأرض.

كراكيبنا ثقافية

على رغم أنّ نسيج الحياة الثقافية في لبنان يملك هوامش عريضة تضيق أو تتسع تبعاً للظروف، إلا أنّ متن هذه الحياة يكاد يمتلئ بأنواع شتى من الكراكيب.

وكراكيبنا الثقافية تأتي على شكل ثنائيات “تاريخية” متضادة أو شعارات “حزبية” ديماغوجية أو مقولات “فلسفية” أُسقِطت من حضن التاريخ. كما قد تأتي هذه الكراكيب على شكل تماثيل وأنصاب وأشعار وأهازيج وأغنيات للنصر والشهادة فِداءً للزعيم وحباً بحذاء القائد المُفدّى.

فالهوية الوطنية اللبنانية كمَعْلَم أساسي للثقافة، لم تتشكل في ظل ثنائية لبنان فينيقي أم عربي، ولا في دموية حروب أهله الطائفية، ولا عبر مسرحيات الأخوين الرحباني وسفيرتهما إلى النجوم وما قدموه من أغنيات، ولن تتشكّل بالتأكيد عبر القَسَم المشهور لأحد صحافييه المُغتالين غدراً. كما ايضاً لم تنمو هذه الهوية الوطنية في كنف أحزاب “يسارية وعلمانية” مارست فاشية وتسلطاً داخل أحزابها، وآمنت بالعنف سبيلاً للثورة والتغيير ورهنت نفسها للخارج دافعة خيرة ناسها للموت في سبيل قضايا على إنسانيتها فهي ليست بالضرورة قضاياها، وتحت شعارات وبيارق واعلام والوان ورموز واهازيج…

كَمَثل :لا صوت يعلو فوق صوت المعركة… وحدة حرية اشتراكية أمة عربية واحدة… العروبة والقضية المركزية… النضال الأممي… العنف الطبقي والحتمية التاريخية… الهلال الخصيب وسوريا الكبرى… فليسقط وعد بلفور… المثقف الطليعي… سمة العصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية… لبنان لا يُحلِّق إلا بجناحيه المُسلِم والمسيحي… الأحزاب الوطنية والتقدمية اللبنانية… قسَم جبران التويني الشهير… يا شعب لبنان العظيم… المقاومة… محاربة الغرباء على أرضنا… مكاتب المقاطعة والتخوين… الزعيم خط أحمر… الجهاد الاكبر… جبال الصوان في مشهد غِربة وفاتك المتسلط…بحبك يا لبنان… راجع راجع يتعمّر لبنان… منرفض نحنا نموت… عم بحلمك يا حلم يا لبنان… الصراع العربي – الإسرائيلي…لا صلح لا تفاوض لا استسلام… أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني… نشيد الأممية… خذني ازرعني بأرض لبنان… تحت ارزك يا لبنان انا حابب والله عيش وموت… أغاني الحب والثورة… منتصب القامة امشي… لبنان الكرامة والشعب العنيد… يا رياح الشعب يا روح السلام… لبنان يا قطعة سما على الارض… أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً… مقولات الاصالة والحداثة… النقد الفني الصحافي… كل القفشات والنكات السياسية في المسرح والتلفزيون… الأغنية الملتزمة… الجاز الشرقي… الإصلاح ومحاربة الفساد… كتابا التربية الوطنية والتاريخ… كُتُب نوستراداموس والجفر والماسونية والابراج… المؤامرة على شعوبنا العربية… الانتخابات النيابية… الخرافات المؤَسِّسة للعبقرية اللبنانية… أول لبناني في الشرق قاد الاوركسترا من دون النوتة الموسيقية… توزيعات اوكسترالية لأغاني سيد درويش وزكي ناصيف…أول امرأة في الشرق تُغني مع المرحوم پافاروتي…و…

وهذا غيضٌ من فيضٍ. فلن تتسع مقالتي لتُحْصي وتَجْرُد وتُبَوِّب كل هذا الحطام من الكراكيب التي نحاول العيش في رحابها مُجبرين لا أبطالاً. ولكن حسبي أن كل هذا الخليط المُكَرْكَب يترابط وينسجم في كَوْنِه عصيّاً على التدوير وإعادة التدوير والسبب ليس إلّا لأنّه مُقدس، وكل مُقدس مُطلق لا يقبل الجدل أو النقاش ولا التحلل أو التفكك.

كراكيب الجسد

يبدو لي أنّ الجسد كما كل الكائنات الحية، وأينما وُجِدَ وفي كل الأزمنة، يبقى الثابت الوحيد في دورته من الولادة حتى الموت، لتُعيد الطبيعة تدويره فيها.

قد لا نشعر ونحن في ريعان شبابنا بتداعيات هذه الدورة إلا إذا حدث خلل مُفاجئ. ولكن المؤكد أنه ومع تقدمنا في العمر وعلى رغم تطور العلوم الطبية، سوف نشعر ونراقب عن كثب كيفية تحَوُّل أجسادنا كراكيبَ. سنلاحظ كيف تتدلّى أجسادنا نزولاً وتذوي أطرافها في أشكال مستطيلة مُنحَدِرة في رسمها البياني إلى الحضيض بفعل جاذبية الأرض.

تبدأ أولى العلامات من إبيضاض الشعر وخسارة كثافته. وإذْ بك تفاجَأ بنموه  من أطراف أذُنيك وانفك. تبرز عقدة الحاجبين على الجبين المُجَعَّد، ويستطل الأنف نزولاً، وترتخي عضلات الرقبة ابتداءً من الفكَّين السُفليين لتنكمش على بعضها بعضاً، ما يؤدي إلى ترهل عضلات الصدر والثديين. يبرز الكرشُ الى الأمام مُطَفْطِفاً بتلابيبِه ومُنْحَنياته على الجزء السُفليّ من البطن. العظام تقصر وتترقق والظهر ينحني. السمع والبصر يضعفان. السوائل تنشف والرغبة تَخِف.

أما الدماغ وهو مركز التفكير وخزان الذكريات والخبرات، فمن المُسْتحْسن العمل على تجنيبه أي اضمحلال مُبْكِر أو ارتخاء مُحتَمَل عبر تنظيفه وتنْقِيَته دورياً من كل أنواع كراكيب المجتمع اللبناني وصنوفها المتراكمة من حوله وفي داخله.

مع تقدمنا في العمر وعندما يبدأ الجسد رحلة تحوله إلى كراكيب، من المُستَحَب، ليس فقط أن نتَقَبَّل فكرة اضمحلال أجسادنا في طريق ذهابها إلى التدوير والعدم، بل أيضاً علينا الاحتفاء يومياً بهذا الاضمحلال والتماهي معه.

من اغتال جدّي؟

غِواية اللَّعب موسيقياً…