fbpx

حول فيلم “عن الآباء والأبناء”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نظراً إلى موقفي المعلن من الحركات الإسلامية الأصولية عموماً، وتلك التي اخترقت الثورة السورية وانتهكت أهدافها خصوصاً، كان من المتوقع أن أحب فيلم “عن الآباء والأبناء” للمخرج الكردي السوري طلال ديركي، لكنني لم أفعل..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نظراً إلى موقفي المعلن من الحركات الإسلامية الأصولية عموماً، وتلك التي اخترقت الثورة السورية وانتهكت أهدافها خصوصاً، كان من المتوقع أن أحب فيلم “عن الآباء والأبناء” للمخرج الكردي السوري طلال ديركي، لكنني لم أفعل، لا بل شعرت بالانزعاج وأنا أشاهده.
قرأت معظم ما أتيح لي من مقالات في صحف ومواقع إلكترونية، فوجدت باستثناء مقالة الكاتب حازم الأمين الذي تناول الفيلم بالتحليل وتحدث عنه بانبهار واضح، أن معظم ما كتب كان باختصار هجوماً على الكتابات التي انتقدت سلباً الفيلم. ولم تحلل تلك المقالات الفيلمَ، بعيداً من كليشيهات رائجة لدى كثر من النقاد السينمائيين العرب، التي صارت سيفاً مسلطاً يرهب من ينتقد الأبعاد السياسية في السينما في سياق أولويات مفهومها وجمالياتها، بعيداً من السياسة، التي ما إن تذكرها حتى يصير ما تقوله خطابية دهمائية.

ترددت في الكتابة عن هذا الفيلم، بسبب فوضى ما أحبّ أن أسميه “فزعة” العقلية القبلية المنحازة، لأسباب أحياناً تتعلق بالمعرفة الشخصية بالمخرج (الشاب)، وأحياناً نتيجة العقد الأقلوية وما يصاحبها من بارانويا خاصة بالأقليات العرقية أو الدينية، وأحياناً أيديولوجية تفهم السينما من منطلقات ضيقة ورؤى ميكانيكية في تناول الفيلم، إن كان من أشد المدافعين عنه أو من أعنف المناهضين له. ثم لأنني أعمل في صناعة الأفلام، فشعرت بأن نقدي الفيلم وكراهية خطابه، قد يحسبان في سياق “التنافس” في المهنة نفسها، وهذا أمرٌ قد يشهر سيوف النقاد وخصوصاً المدافعين عن الفيلم ومخرجه.
وقبل أن أبدأ ملاحظاتي النقدية على الفيلم لا بد من الإشارة إلى قيمة الأخلاق (Ethics)، التي كثيراً ما لا يقيم لها نقادنا العرب شأناً ويعتبرون أن لا قيمة لها مقابل السعي إلى جمالية الفيلم، التي تبرر عدم الاكتراث وإقصاء القيمة الأخلاقية من الحساب.

الأخلاق والأمانة والوفاء والتعاطف مقابل الخديعة والكذب، تجاه شخصيات الفيلم وتجاه المتفرج وتجاه قيمة الفيلم الوثائقي نفسه ومعناه وهدفه ونياته.
إن المخاوف بشأن الأخلاقيات في الفيلم الوثائقي والجدل حولها ليست جديدة في العالم، لكنها تكثفت في السنوات الأخيرة، استجابةً للتغيرات والتطورات في الصناعة. وشهدت الدوائر الأكاديمية والثقافية في الغرب مثلاً، نقاشات معمقة ومتواصلة منذ التسعينات. أصبح صانعو الأفلام الوثائقية يلقون احتراماً في ما يقدمونه، خصوصاً مع كثافة البرامج التلفزيونية الوثائقية وصعود القنوات الفضائية المتاحة للناس في كل مكان والتلاعب السياسي من قبل السلطات ومالكي تلك القنوات بما يقدَّم للمشاهدين. ومع ذلك، فإن صانعي الأفلام الوثائقية وجدوا أنفسهم أمام أسئلة شائكة تتعلق بأخلاقياتهم، حتى فيما يعملون باستقلالية عن المؤسسات الرسمية.

في فيلم “عن الآباء والأبناء”، الذي تدور أحداثه في سوريا المدمرة عمراناً وبشراً على مرأى من العالم وفي منطقة سورية، لا تزال إلى اليوم عرضة لعمليات القتل والقصف والتدمير.

يبدأ الفيلم بلقطة لأطفال يلعبون الكرة ثم يعلو صوت المخرج – الرواي ببيان حول نفسه وهروبه، كغيره من السوريين الى شمال الأرض، وكيف زرعت الحرب بذور الكراهية بين الجار وجاره والأخ وأخيه والسلفية التي حصدت خلف الجميع… يقول المخرج: “قدمت نفسي مصوراً حربياً وادّعيت حبي للجهاد والجهاديين حتى لا أكون عرضة للخطف والتصفية.” وعلا الصوت… جهاد خلافة دعوة… دعوة ودعوة الخلافة.

أبو أسامة الشخصية الرئيسية في الفيلم

“الخديعة” التي أصبحت فيلماً

وفيما يقدم لنا المخرج “ادّعاءه” الصريح بحبه للجهاد والجهاديين، ننتقل إلى مشهد سيارت تحمل عسكريين إسلاميين يحملون رايات القاعدة ثم نمرّ على العائلة الأب والأبناء، الذين سيعيش معهم المخرج ويقدمهم لنا نموذجاً للعائلة السورية التي تنتمي الى تنظيم النصرة أو القاعدة. في تلك اللحظة، حين استقبل الأطفال ورب العائلة أبو أسامة، المخرج أحسست بانزعاج شديد.

في المشهد بدا استقبال المخرج بفرح وود وكرم وثقة بائنة وسعادة، فيما هو يعترف لنا نحن المشاهدين، بأنه خدعهم وادّعى انحيازه إلى أفكارهم، ففتحوا له بيتهم شهوراً طويلة يأكل من زادهم الفقير، في منزلهم المتواضع، كأي منزل قروي في سوريا، البرغل ولحم رأس الخروف، الذي سنشاهده في مشهد مكثف لاحقاً يُذبح على الطريقة الإسلامية في مشهد تنميطي يدغدغ المشاهد الغربي، الذي يرى فيه “وحشية” المسلمين وقسوتهم في تعاملهم مع الحيوانات.

لجأ المخرج في ما بعد إلى ذلك الصندوق الجاهز بالأنماط القديمة في الميديا الغربية الاستشراقية في نظرتها إلى المجتمعات العربية والإسلامية، وفي طريقة تبسيطية لا تخفى عن المشاهد النبيه، راح المخرج يتناول من ذلك الصندوق أدواته الجاهزة. ومن هذه المشاهد، تلك المتعلقة بالعصفور الذي أمسك به أحد الأطفال وأراد أن يذبحه والحوار بين الأطفال، لنرى العصفور في ما بعد ميتاً ومنتوف الريش.

يا للقسوة ! وإن كان ذبح الخروف تقليداً إسلامياً ويهودياً معروفاً في العالم، وقتل عصفور على أيدي أطفال أمراً شائعاً في مجتمعاتنا ومجتمعات غير إسلامية وعربية، إلاّ أن مونتاج الفيلم بحسب البنية التي أرادها المخرج ليصل في النهاية إلى تكثيف صورة القسوة لدى العائلة، هو ما يشعرك بأن هذا العمل لا يريد شيئاً غير تكريس صورة محددة لجماعة معينة من الناس، هي التي كما قال تعيش عصرها الذهبي في سوريا، أي الجماعات الأصولية.
ولكن من هي هذه العائلة التي قدمها المخرج نموذجاً للشعب السوري الذي بدأ منذ 8 سنوات ثورة من أجل حريته من نظام قاتل ومستبد؟ عائلة سورية تعمل في الفلاحة في قرية صغيرة في محافظة إدلب، كان أكثر من 90 في المئة من سكانها كما جاء في الفيلم صوفيين، وأعتقد أننا نعرف ما هي الصوفية وما هي ثقافة المنتمين إليها، كفرقة من فرق الإسلام البعيدة من المشاغل السياسية. ولكن هؤلاء الصوفيين التحقوا بالجماعات الإسلامية المقاتلة أو الجهادية ولم نعرف لماذا، ولم يفسر لنا المخرج الشاب أسباب التحول الجذري في حياة هؤلاء الناس. قد يقول ناقد إن هذا الأمر ليس موضوع الفيلم، ولكن هذا التحول حدث في قلب الجحيم في سوريا وليس في فنلندا مثلاً. وقد وجد المخرج الوقت والفسحة في مونتاجه ليقدم لنا تفسيرات شتى عن سلوكيات هؤلاء الناس، بما يخدم رؤيته لتكريس صورة السوري القروي البسيط، المتحول إلى إسلامي إرهابي، بسبب تأثره الأيديولوجي وإعجابه بأسامة بن لادن وأيمن الظواهري.

مشاهد من الفيلم

في فيلم كهذا عادة يقوم المخرج بتصوير عشرات الساعات، فيما صور هذا الفيلم على مدى أكثر من عامين، ومكث الرجل في ضيافة هذه العائلة البسيطة يأكل ويشرب وربما يصلي ويصوم وينام ويستيقظ بينهم وهو يعيش “خديعته”، في أنه ينتمي إليهم ليصنع فيلماً يقدمهم “أشراراً”، كما يحب أن يراهم المشاهد الغربي ومعه النظام السوري، الذي صنع القيادات الكبار للجماعات الإرهابية، بعدما أطلق سراحهم من سجونه في بداية الثورة السورية ليبدأوا العصر الذهبي للسلفية الجهادية. إلا أنهم لم يحصدوا شيئاً يذكر مقابل ما حصده النظام السوري الذي غاب نهائياً، بدوره الأساسي وجرائمه، عن الفيلم  في تلك الحرب، التي كره فيها الجار جاره والأخ أخاه.

الكاميرا المسترخية أمام القنابل!

من المشاهد القاسية في تأثيرها وفي رسالتها الملتبسة، مشهد الأطفال يصنعون قنبلة في زجاجة بلاستيك من مواد منزلية، والحوار بين أب وابنه. هذا مشهد طويل في الفيلم، يستمر من بداية تركيب القنبلة، لينتهي بمحاولة الأطفال الصغار تفجير القنبلة وتكرار المحاولات إلى أن تنفجر الزجاجة، ولحسن الحظ لم يصب الأطفال بأذى محتمل من الحصى أو النار التي أحدثها انفجار القنبلة. كانت كاميرا المخرج مسترخية تترقب الحصول على “سكوب” إزاء ما تصوره من “عنف” الصغار الذين سيقدمون للمشاهد الغربي مثالاً ساطعاً على تأثير صناعة ثقافة العنف في مجتمع الجهاديين، والمخرج وكاميرته هناك، بحياد بارد لا يتدخلون لردع الأطفال عن هذه اللعبة الخطرة. التصوير كان يحصل في سبيل الحصول على النهاية التي كان ممكناً أن تكون دموية بحق الأطفال. كان يمكن أن يمر هذا المشهد باستفزاز أقل لو لم يلجأ المخرج الى ترجمة الحوار إلى الإنكليزية بين الطفل صانع القنبلة وأبيه، لتظهر نيات المخرج، فعندما سأل الأب عن مكونات القنبلة قال له الطفل: ملح الليمون، ثم سأل: وماذا بعد؟، قال الطفل “تراب أحمر”، فسأل الأب “ليش؟”.

فأجاب الطفل “حتى تتفاعل المواد”. أما الترجمة “السيئة” فجاءت كما يلي:So  a chemical reaction happens with the materials.
الطفل لم يذكر كلمة كيماوية البتة والمشاهد الغربي الذي لا يعرف العربية سوف يعتقد أن حتى الأطفال السوريين في مجتمعات المعارضة الإسلامية أو الشيطانية خبراء، وعلى دراية بصناعة القنابل الكيماوية، ما يؤكد مزاعم النظام الذي لجأ إلى السلاح الكيماوي لقتل السوريين، وحاول إقناع العالم كله بأن المعارضة هي التي استخدمت القنابل الكيماوية وليس جيشه.

لا يستطيع المشاهد أن يرى في سعي المخرج في هذا الفيلم غير النيات السيئة وخدمة مزاعم النظام في المشاهد المتتابعة في الفيلم، حتى وهو يصور الشجار بين الأطفال في مشاهد طويلة. وهي مشاجرات تعتبر عادية في مجتمعاتنا بين الأخوة والرفاق، إلا أن هدف المخرج كان تأكيد عنف الثقافة لدى هذه الجماعة.

البكاء على جنود بشّار

ثم يقدم لنا المخرج مشهداً مثيراً للسخرية ليستدر الشفقة على جنود النظام السوري الأسرى لدى الجماعة، فلا أسباب لدى هؤلاء الجنود للقتال ضد شعبهم غير المرتب الشهري من الجيش، كما جاء على لسان أحد الجنود. وهم موظفون عند رب عمل لا نعرفه وليس عند نظام قتل وشرد ودمر البشر والعمران. ولنرجع الى الكاميرا الحميمة في لقطات مقربة لوجوه الجنود الشباب وتلك الدمعة التي ثبتت فيها الكاميرا على وجه الجندي، إلى أن خرجت من محجريه وسقطت على خده. قد نتعاطف مع هؤلاء الجنود كضحايا مثل غيرهم من الضحايا القتلى من مختلف فئات المجتمع السوري، ولكن أطفال أبي أسامة وأبا أسامة هذا القروي الفقير هم ضحايا أيضاً، ولكن بنية الفيلم ذهبت إلى تثبيت صورة شرير واحد أنزله القدر في أرض سوريا، وهو الجماعة التي استضافت المخرج وقدمت له المأوى والطعام والأمان وحمته بكذبته من الخطف والتصفية.

ليس مطلوباً أن يقدم المخرج سيناريو الفيلم لشخصياته، ولا أن يفصح عن نياته عندما يعمل في ظل نظام أمني واستبدادي أو في عرين منظمات إرهابية وبين قياداتها، إنما عليه أن يكون إنساناً، وأن تمتلك كاميرته روحاً، وتعطف وتتعاطف، ما يؤكد أهدافه الإنسانية في رفض الواقع الدموي. ولكنه منذ إفصاحه عن أنه زعم إيمانه بالجهاد والجهاديين، صارت الكاميرا بلا روح حتى في تلك المشاهد الإنسانية التي تظهر محبة الأب لأطفاله والحب الشديد الذي أظهره الأطفال نحو أبيهم. فلأننا كنا نعرف الخديعة منذ المشهد الافتتاحي، فكل ما هو إنساني في ما بعد كان ملوثاً.

المخرج إذ يهجر قصّته

يعتبر المونتاج الإخراج الثاني للفيلم وفق المخرج الفرنسي جان لوك غودار. ومونتاج فيلم ديركي منذ الصورة الأولى التي بدأت بأطفال يلعبون، اتضح إلى أين سوف يصل في شيطنة تلك العائلة القروية البسيطة تحت شعار الجهاد والجهاديين وانتهاء بصورة المخرج يغادر سوريا إلى غير رجعة بصوته الذي لم ينجح في  جعلنا نتعاطف معه إنسانياً، في مقابل ألم القرويين المخدوعين الذين دفعهم نظام قاتل غائب عن الصورة، من الصوفية الناعمة الى استخدام العنف الدموي.

ترك المخرج في نهاية الفيلم شخصياته أو ضحاياه لمصيرهم المحتوم وعاد إلى شمال الأرض حيث ينعم بالأمان والراحة والفوز تماماً كما فعل كافين كارتر، المصور الحربي الجنوب أفريقي صاحب الصورة الشهيرة للطفلة في جنوب السودان في التسعينات، التي كانت تزحف تالفة القوى بسبب المجاعة، إلى مركز الإغاثة الغذائية التابع للأمم المتحدة يتبعها نسر جارج  ويقترب رويداً رويداً منها لينقض عليها ويلتهمها. ظل المصور كارتر نحو 20 دقيقة ليجد الزاوية المثلى لالتقاط الصورة وتركيب العدسة المناسبة، وكان النسر يقترب لينقض على فريسته.

عندما نشرت تلك الصورة في جريدة “نيويورك تايمز”، ملأت العالم ضجيجاً وأعيد نشرها في مئات الجرائد والمجلات في العالم، ما طرح سؤال المعايير الأخلاقية في الصورة الوثائقية في أميركا والعالم، وأصبح كافين كارتر مصوراً مشهوراً وفاز بجوائز كثيرة، بسبب الصورة. ولكن في الوقت نفسه عبرّ ملايين الناس عن سخطهم من فقدان الأخلاق لدى المصور، وانتهى به الأمر إلى دخول حالة اكتئاب وتأنيب ضمير، لأنه لم يعرف بعدما أخذ الصورة وهشّ النسر، ماذا حدث للطفلة التي كانت تحاول الوصول إلى الطعام وما إذا كان النسر عاد وأذاها أم نجت. انتهت حالة الاكتئاب بكافين

كارتر الى الانتحار، لأن تلك الصورة وغيرها كما قال في رسالة الإنتحار سكنته ولم تتوقف عن زيارته في يقظته ونومه؟
في نهاية فيلم “عن الآباء والأبناء”، يخبرنا المخرج إن أسامة الذي التحق بالقوات المقاتلة في جبهة النصرة خسر براءته وتحول من طفل  إلى مقاتل جهادي إرهابي، فيما المخرج عاد إلى منفاه، ولم يعد يفكر لا بأسامة ولا بتلك البلاد التي لم تعد بلاده.

 

هايني سرور : مخرجة لبنانية يهودية يسارية لكن لا يذكرها أحد