fbpx

القصرين التونسية: الوجع يمشي على قدمين و”الحصبة” تفتك بضحاياها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا شيء في هذا المكان يدلُّ على الحياة سوى مرور حيوانات أليفة من حين إلى آخر.هذه الحالة المزرية، ربما تعطي فكرة أوضح عن سبب الأنباء الواردة عن تسجيل 680 حالة إصابة بالحصبة، ووفاة 11 شخصاً من هؤلاء وفق الإحصاءات الرسمية التونسية..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا شيء في هذا المكان يدلُّ على الحياة سوى مرور حيوانات أليفة من حين إلى آخر… يصعبُ عليك للوهلة الأولى تصديق أنّ ما أنت فيه، هو مكان آدمي أو يصلحُ للعيش والتكاثر. ثم تذهلك عشرات العائلات التي تعيش هناك، في ظروف بائسة.

رائحة كريهة تفتك بالمكان، تنذرك بأنك وصلت لتوك إلى دوّار الجرابعية وهي قرية صغيرة في منطقة الهراهرة من مدينة سبيطلة، الواقعة في ولاية القصرين (الوسط الغربي لتونس). ربما نعتُ “المنسيّة” لا يفي هذه المنطقة الجغرافية حقّها في الوصف. هذه الحالة المزرية، ربما تعطي فكرة أوضح عن سبب الأنباء الواردة عن تسجيل 680 حالة إصابة بالحصبة، ووفاة 11 شخصاً من هؤلاء وفق الإحصاءات الرسمية، إلا أن الشهادات التي وثقها هذا التحقيق تؤكد أن العدد الحقيقي قد يفوق 25 حالة وفاة.

الحصبة “قاتلة”

إنه مشهد صادم بكل ما للكلمة من معنى. قد تعجزُ العين والأذن معاً عن استيعاب أن هذه البيئة الموبوءة بالحصبة والمحاطة بالقمامة من كل جانب، تؤوي أطفالاً ونساءً، وفيها رجال تقريباً بلا حيلة.

استقبلنا الحاج التليلي في بيته، أو إن صحّ في “الخرابة” التي يسكن فيها، ففي الغرفة التي لا تتجاوزُ مساحتها 20 متراً مربعاً، يعيش 12 فرداً من عائلته، حيث لا سرير ولا حمام ولا حتى كرسي صالح للجلوس.

دفن الحاج التليلي ابنه الشاب واسمه “الإمام” قبل أسابيع قليلة. كانت الخسارة كبيرة اذ كان ابنه سنده الوحيد في هذه الدنيا كما يقول، “ابني خُطف منّا خلال أربعة أيّام فقط… ثم أخبرونا فجأة أنّه توفي نتيجة الحصبة.هو من كان يعملُ لأجلي… أنا عاجز عن العمل بسبب وضعي الصحي”.

ويتمثّل مرض الحصبة بظهور طفوح جلدية تؤدي إلى مضاعفات، مثل: التهاب الحنجرة، التهاب العينين، نزلة، سعال، التهاب الرئة والتهاب الدماغ.

وتعتبر حالات الوفاة بسبب هذا المرض أكثر شيوعاً بين الرضع وكبار السن، إذ يموت طفل واحد من بين كل ألف مريض بالحصبة، ويكون سبب الوفاة التهاب الرئة. أما لدى البالغين فيكون سبب الوفاة التهاب الدماغ.

تؤكد لنا مصادر مطلعة من الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري التابع لوزارة الصحة العمومية أن الوضع البيئي في مدينة سبيطلة تحديداً في منطقة الهراهرة بات كارثيّاً، بسبب التلوث وانتشار القمامة في كل مكان ومخلفات الروائح الكريهة. وتشير إلى أن المجلس البلدي في القصرين لا يقوم بمهماته كما يجب، للحفاظ على نظافة المدينة والسهر على سلامة المواطنين. وتشير المصادر إلى عدم توفر المياه الصالحة للشرب في تلك المنطقة تحديداً، وهي عوامل إضافية تؤدي إلى إضعاف مناعة السكان أمام فتك الحصبة بهم.

السيدة توزر التي فقدت ابنها الشاب “الإمام”

زوجة الحاج التليلي السيدة توزر والدة “الإمام” تتحدث هي الأخرى بحرقة عن معيلها الوحيد البالغ من العمر 25 سنة. ومن المفارقات أنه قبل وفاته كان عامل بناء في المستشفى الجهوي الجديد في مدينته سبيطلة.

تقولُ توزر وآثار الحزن والحسرة بادية عليها:”لا أعلمُ كيف نعيش. منّا من ينامُ في هذه الغرفة. ويضطر البعض الآخر إلى النوم خارجاً.

أولادي لم أدري كيف أعالجهم… أحدثّك الآن وكبدي يحترق”.

تحبسُ الدموع في مقلتيها وتتغيرُّ نبرةُ صوتها فجأة.

“يومها كنتُ أصرخُ في المستشفى، ابني سيموت ابني سيموت. ولا حياة لمن تنادي.لقد أيقظ صراخي المرضى النائمين لكن الممرضة لم تأتِ. أغلقوا في وجهي الباب ببرودة. كان الممرضون يمضغون العلكة.

إنه ابني الذي لم يكمل الخامسة والعشرين، رحل أمام عيني من دون أن أفعل له شيئاً، تاركاً لي زوجة قاصراً وطفلاً لم يتجاوز الخمسة اشهر”.

وكأنّ فقدان من رحل لا يكفي، إذ تتفاقم المأساة مع عجز العائلة عن توفير العلاج لسالمة، ابنتهم (26 سنة)، فهي الأخرى مريضة، تعاني من إعاقة بصرية وفي حاجة ملّحة إلى متابعة وعلاج، لكنّهم للأسف لا يستطيعون توفير ذلك. فمنذ فترة وهم يسعون للحصول على بطاقة علاج مجانية لها لكن محاولاتهم باءت كلها بالفشل.

يؤكد تليلي أن أكثر من 10 أشخاص من أقربائه يستحقونّ هم أيضاً شهادة العلاج المجاني، لكنّ السلطات تأبى ذلك، على رغم حالتهم الصحيّة المزرية، وفق تعبيره.

على رغم من أن اللقاحات إجبارية في تونس، إلا أن انتشار الأمراض لايزال الى ارتفاع بسبب انتشار الجهل وضعف المتابعة الرسمية.

في المدارس التونسية، يمنع تسجيل التلميذ بالمدرسة في سن السادسة إلا إذا كان استوفى كل اللقاحات التي يجب أن يجريها بعد 15 يوماً من ولادته، ويكون لدى والديه سجل مثبت بذلك، بما فيها لقاح الحصبة الذي يأخذه الطفل أول مرة في شهره التاسع.

إلا أننا هنا نتحدث عن منطقة الهراهرة من ولاية القصرين، حيث تنتشرُ بكثافة نسبة الأمية، وتتضاءل نسبة التحاق الأطفال بالمدارس، وتتفشى ظاهرة الانقطاع الفجائي عن الدراسة لأطفال كثر، نتيجة عدم وعي أهمية التعليم من جهة، وحاجة العائلات إلى تشغيل أطفالها لتوفير قوتها، من جهة أخرى. وتعاني المنطقة أيضاً من الفقر والتهميش وتنتشر فيها البطالة لغياب أبسط المرافق الضرورية للحياة الكريمة، وإهمال الحكومات المتعاقبة وعدم إدراج هذه الحاجات في مخططات التنمية.

توضح إحدى السيدات اللواتي التقينا بهن أنها اضطرت لإخراج أطفالها الثلاثة من المدرسة ليساعدوها في جمع الحطب وتأمين قوتها اليومي بسبب عجز زوجها عن إطعام 9 أشخاص!

تؤكد السيدة لـ”درج” في هذا السياق هاجر الصالحي الناشطة بالمجتمع المدني في جهة القصرين، أن النساء يلدن عادة في المنازل ولا يملكن روزنامات التلاقيح لأطفالهن.

توفيق يروي ظروفه الصعوبة

ليس بعيداً من دوّار الجرابعية في منطقة الهراهرة، قابلنا توفيق بن محمد في بيته المتواضع. رجل أربعيني هو الآخر فقد ابنه ذات الـ22 ربيعاً، يوضح أنه باع مصدر رزقه الوحيد هو وعائلته، وهي قطعة أرض صغيرة ورثها عن أبيه وجدّه، اضطرّ إلى بيعها مكرهاً حتى يوفر العلاج لابنه أيمن.

“اضطررت لإيواء أيمن في مصحّة الزياتين الخاصة في ولاية/ محافظة سوسة (تبعدُ 190 كلم من ولاية القصرين) لأنّ المستشفى الجهوي في القصرين كان وقتها يعج بالمرضى وعاجزاً على استيعاب المزيد.”

“لم يبقَ لنا سوى ابننا الصغير. أملنا الوحيد في هذه الدنيا.

لقد باتت زوجتي مرعوبة طوال اليوم. أصبحت تحاصره أينما ذهب خوفاً عليه من أن يلقى مصير أخيه الأكبر”.

يؤكد توفيق أن المبلغ الذي حصل عليه من بيع الأرض لم يغطِّ تكاليف المصحة الخاصة، حيث مكث ابنه 20 يوماً.

“أنا اليوم مطالب بدفع مبلغ يزيد عن 40 ألف دينار تونسي، إذ وقّعت على إيصالات أمانة حتى أسدّد فاتورة المستشفى، ما منعني من استلام جثة ابني ودفنه قبل دفع آخر فلس”.

تؤكد الأم المفجوعة أنّه في اليوم السابع عشر من إقامة ابنها في المصحة، أكدّ الطبيب المتابع، أن الشاب بصحة جيدة جدّاً، وقال دلالةً على ذلك أنه سيخصم لهم يومين من أجرة المستشفى، لأن أيمن بخير ولا يحتاجُ البقاء أكثر.

قال الطبيب للشاب “الآن بإمكانك الخروج والزواج حتى. أنت بخير. قلبك ينبض بالحياة”.

قالت أم أيمن هذه الكلمات والدموع تنهمر من عينيها…

 

“يومها كنتُ أصرخُ في المستشفى، ابني سيموت ابني سيموت. ولا حياة لمن تنادي.لقد أيقظ صراخي المرضى النائمين لكن الممرضة لم تأتِ. أغلقوا في وجهي الباب ببرودة. كان الممرضون يمضغون العلكة.

إنه ابني الذي لم يكمل الخامسة والعشرين، رحل أمام عيني من دون أن أفعل له شيئاً، تاركاً لي زوجة قاصراً وطفلاً لم يتجاوز الخمسة اشهر”.

 

مع انتشار الفيروس مثل النار في الهشيم بدءاً من ولاية القصرين منذ شباط/ فبراير الماضي وبعد فتكه بأكثر من 25 شخصاً، تؤكد وزارة الصحة على لسان مديرها الجهوي عبد الغني الشعباني، أنّها تعمل جاهدة على الوصول لجميع المواطنين في إطار حملات التلقيح المتواصلة للحد من انتشار الحصبة، وأنّ 4 آلاف شخص تلقوا التلقيح من أصل 6 آلاف شخص موجودين في المنطقة.

تؤكد الصالحي الناشطة في “الجمعية التونسية للصحة الإنجابية في القصرين” و”منتدى الشباب لثقافة المواطنة”، أن وباء الحصبة انتشر عبر عدوى أتت من الجزائر، “حملها طفل رضيع وتسبب في نقلها إلى الرضع الذين تبلغ أعمارهم أقل من ستة أشهر لضعف مناعتهم داخل المستشفى الجهوي في القصرين”.

لكن الوضع في هذه المنطقة بات كارثياً، في حين تأخرت وزارة الصحة في إعلانها منطقة موبوءة، على رغم المؤشرات والقرائن.

تشدد الصالحي على أن “المستشفى الجهوي في القصرين هو المستشفى الحكومي الوحيد هناك، يجابه الوباء منفرداً، إذ يشكو هذا المرفق العام من نقص حاد في الطاقم الطبي والأجهزة الضرورية، وهناك أقسام ضرورية لم يُستكمل بناؤها، وهو لم يعد قادراً على استيعاب المزيد من المرضى”.

وتؤكد أن غياب الكثير من الأقسام الضرورية في المستشفى، كقسم الإنعاش، وضعف التجهيزات في قسم الطوارئ وعدم وجود أطباء ذوي اختصاص كما هو مفترض، هي من أسباب تردي الوضع الصحي في جهة القصرين عموماً، والهراهرة خصوصاً، ما زاد تفاقم الوضع الكارثي بعد انتشار الحصبة، التي عجزت الدولة عن مجابهتها.

كما أن الأهالي يشكون نقصاً في توفر اللقاح، وانعدام النظافة في المستشفى المكتظ بالمرضى، وتلكؤ بعض أفراد الطاقم الطبي عن أداء مهماتهم. وهذا ما يعيد إلى الذاكرة ملف الرضع الذين توفوا، جرّاء التعفن أو تناول ادوية غير صالحة في مستشفى الرابطة في العاصمة التونسية، ويطرح أسئلة ملحة حول الوضع الصحي في تونس، ونجاعة الحوار التشاركي الذي أجراه رئيس الحكومة يوسف الشاهد في هذه الأيام عن إصلاح قطاع الصحة.

وعلاوةً على ما جاء على لسان توفيق، تؤكد شهادات أخرى أن هناك أكثر من 25 حالة وفاة في صفوف الأهالي في دوار الجرابعية ومدينة سبيطلة تحديداً بسبب الحصبة، بين أطفال وشباب، تتراوح أعمارهم بين عامين و25 عاماً.

إلا أن هذه الإحصاءات لا يؤكدّها والي/ محافظ القصرين سمير بوقديدة أو حتى ينفيها، ففي تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء (وكالة الأنباء التونسية الرسمية)، أوضح أنّ “حالات الإصابة بمرض الحصبة التي سجلها المستشفى الجهوي في القصرين منذ كانون الثاني/ يناير الماضي بلغت 680 حالة، توفي منها 11 أغلبهم أطفال، وأن عدد 25 حالة الوفاة “هو رقم غير رسمي، إنما قد يكون واقعيّاً” وفق تعبيره.

في سبيطلة منسيّون لا تراهم الدولة

على رغم أن منطقة الهراهرة في مدينة سبيطلة من ولاية القصرين يمكن الوصول إليها بسهولة تامة، فهي محاذية للطريق الرئيسية التي تربط تونس والجزائر، لكنّ الدولة لم تلتفت منذ عقود إلى من هناك من مساكين وفقراء.

انتخابات وراء أخرى، وينتخبُ نواب ويأتي غيرهم، ويُعيَّن محافظ على المنطقة ويذهب آخر، لكن لا شيء يتغير في حياة هؤلاء المنسيين.

يعيشون في العراء ويحاربون الفقر بصبر قد ينفد ذات يوم.

من كرسيها المتحرك، تسرد سيدة معاناتها وأسباب الوجع الذي يرافقها تماماً كالكرسي الذي يجرها من طريق إلى آخر. لا أحد يعيلها، وابنها الوحيد الذي كان يعمل في البناء، أصبح مريضاً وعاجزاً عن العمل. توصينا بإيصال صوتها إلى المسؤولين، لا تريد مالاً، تريد مسكناً لها ولابنها المريض، فهي اليوم في العراء، ولا سقف فوق رأسها سوى السماء.

تونس تدفن 11 رضيعاً بسبب “التعفّن”