fbpx

الجامعة الأميركيّة في بيروت: أبعد من السياسة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حين يقام في الجامعة الأميركيّة ببيروت معرض عن الشيوعيّة، وعن “الفنّ والثورة في الشرق الأوسط”، فهذا خبر يتناول الجامعة أكثر ممّا يتناول الشيوعيّة.

حين يقام في الجامعة الأميركيّة ببيروت معرض عن الشيوعيّة، وعن “الفنّ والثورة في الشرق الأوسط”، فهذا خبر يتناول الجامعة أكثر ممّا يتناول الشيوعيّة.
قد يقول قائل إنّ تلك الجامعة ما كانت لتسمح بهذا النشاط لو كانت الشيوعيّة لا تزال حيّة تُرزق وتهدّد النفوذ والمصلحة الأميركيّين. ربّما. مع هذا، ليس مألوفاً أن يحتفل الخصم بخصمه حتّى لو مات. ونحن نعلم، بالتجربة الخبيثة، أنّ معظم الذين يقولون: “لا تجوز على الميّت إلاّ الرحمة” يقصدون أنّ الرحمة لا تجوز عليه.
مع حماقة دونالد ترامب الأخيرة في شأن القدس، كان موقف رئيس الجامعة فضلو خوري ثمّ بيان “الهيئة التدريسيّة” فيها، فكأنّنا لسنا حيال جامعة “أميركيّة” بالمعنى الذي غالباً ما توصف به وتُنتقد عليه.
إذاً، في الأمر ما يتعدّى السياسة الضيّقة وما يتجاوز ربط تلك الجامعة بـ “الإمبرياليّة الأميركيّة” الشريرة. معيار السياسة الضيّقة يصحّ في جامعة تابعة لمصر أو لروسيا، لكنْ ليس في جامعة “تابعة” لأميركا أو بريطانيا.
أبعد من هذا، يمكن المغامرة بافتراض أنّ الجامعة الأميركيّة غالباً ما دفعت ثمن طغيان التأريخ السياسيّ في منطقتنا على تأريخ الاجتماع والاقتصاد والثقافة والمؤسّسات والمهن وسواها. فالسياسة عندنا، وكما هو معروف جيّداً، تبتلع دائماً ما عداها.
والتلخيص لا يقف عند هذا الحدّ. فحتّى في التأريخ السياسيّ نفسه، طغت نظرة تُغلّب الانقلابات العسكريّة والنزاعات الأهليّة على البرلمانات والإدارات العامّة والأحزاب والنقابات والصحافة. إذاً، وفي السياسة ذاتها، ساد ما هو قَطْعٌ على حساب ما هو استمرار، وما هو عنف على حساب ما هو سلميّة وتدرّج.
اليد العليا في هذا التأريخ كانت للناصريّة. للثورة الجزائريّة. للمقاومة الفلسطينيّة. للحروب الأهليّة. وطبعاً لـ “النكبة” و”النكسة”. جميلة بو حيرد لم تكن جَندارك العربيّة فحسب، كانت مدام كوري العربيّة أيضاً. بعد ذاك جعلنا معيارنا هذا معياراً لقياس ظاهرات كالجامعة الأميركيّة لا يصحّ في قياسها هذا المعيار.
لكنْ في نظرة رحبة إلى هذا التاريخ، نظرةٍ تحيط بتحوّلاته التي تتجاوز السياسة، يبرز تأسيس الجامعة الأميركيّة في بيروت (أو “الكليّة السوريّة الإنجيليّة” يومذاك) كواحد من حدثين اثنين ربطا العالم العربيّ والشرق الأوسط بالعالم. أمّا الحدث الثاني فهو شقّ قناة السويس التي وصلت البحر الأبيض المتوسّط بالبحر الأحمر. وليس بلا دلالة أنّ هذين التطوّرين، وهما الأهمّ في تاريخ منطقتنا بعد حملة نابوليون في 1798 – 1799، إنّما ولدا في حقبة واحدة: قناة السويس بدأ العمل بها في 1859 وانتهى في 1869، فيما نشأت الجامعة في 1866، قبل 24 سنة على أوّل جامعة وطنيّة حديثة في العالم الإسلاميّ، هي التي أنشئت في اسطنبول.
تواكب هذان الحدثان، القناة والجامعة، مع ما كان يجري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مؤدّياً إلى إطلاق حركة تطمح إلى توحيد العالم: فحينذاك، وللمرّة الأولى في التاريخ، بدأ توسّع أوروبا بسبب اقتصادها الصناعيّ المندفع إلى خارج حدوده بحثاً عن الأسواق. واندفاعٌ كهذا لم يكن عسكريّاً وسياسيّاً فحسب، بل كان أيضاً ثقافيّاً ومؤسّسيّاً يرشّح معمورتنا لأن تكون، وعلى نحو غير مسبوق، كوناً واحداً، متّصلاً ومترابطاً. ومع التطوّر المذكور بدأت عزلة المناطق النائية وانغلاقها يتعرّضان لتحدٍّ غير محسوب.
هذا الوافد الجديد جاء بالسلاح الذي يضمن بطبيعة الحال غلبة الغالب، لكنّه جاء أيضاً بالمدرسة وبسكّة الحديد وبالمستشفى. وللمرّة الأولى كان الغازي يعلّم المغزوّ كيف يقاومه وكيف يستقلّ عنه: ذاك أنّ شعوب المستعمَرات تعرّفت، من خلال مستعمِرها، على الحزب والصحافة والنقابة التي ما لبثت أن استخدمتها سلاحاً ضدّ… الاستعمار.
صحيح أنّ العقود اللاحقة برهنت أنّ ذاك التفاؤل بوحدة العالم كان متسرّعاً ومبالَغاً فيه. فالهويّات الدينيّة والقوميّة ما لبثت أن استجمعت قواها وردّت بقوّة، وكان للعنف الكولونياليّ، الوحشيّ أحياناً والعنصريّ أحياناً، دوره المؤكّد في استثارة ذاك الردّ. كما أنّ التفاوت الذي أبدته جماعاتنا المحلّيّة في استقبال الوافد الغربيّ، وفي الحماسة له، عزّز، وطوّر، انقسامات اتّصف بها البناء اللاحق للدول والأنظمة. وبعد كلّ حساب، لم يطل بنا العهد حتّى رأينا حركة كـ “جماعة الإخوان المسلمين” تنشأ في 1928.
مع هذا رُسمت وجهة تقدّميّة وأمميّة للمستقبل، وكانت الجامعة الأميركيّة بين أبرز راسميها. يكفي القول، بهدف المقارنة، إنّ ستينات القرن التاسع عشر هي أيضاً عقد النزاع الأهليّ والطائفيّ في جبل لبنان، فأيّ الوجهتين التأسيسيّتين نختار من حيث المبدأ: تلك التي تجهد لربط منطقتنا بالعالم الأوسع، أم تلك التي لا تتحمّل عيش طائفة صغرى في جوار طائفة صغرى أخرى؟
بالطبع هناك دائماً محامو دفاع عن تاريخنا السابق للاستعمار بعجره وبجره، ممّن سيقولون إنّ الطوائف، بالشكل الذي نعرفه، ما هي إلاّ نتاج من نتاجات الاستعمار والرأسماليّة. وهذا قد يكون صحيحاً شرط أنّ نضيف أنّ الطوائف المذكورة إعادة إنتاج لبُنى عصبيّة سابقة عليها، لعالمٍ من الملل والنحل، لا تصله صلة بالاستعمار وبالرأسماليّة.
وفي مطلق الحالات كانت الوجهة الجديدة قد وجدت صياغتها الأولى، الأكمل والأنبل، على لسان دانيال بلس، رئيس الجامعة الأميركيّة، لدى تدشينه “كوليدج هول” في 1871: “هذه الكلّيّة هي لكلّ شروط البشر وطبقاتهم، بمعزل عن أيّ اعتبار للّون والقوميّة والعِرق أو الدين. المرء، أكان أبيض أو أسود أو أصفر، مسيحيّاً أو يهوديّاً أو محمّديّاً أو غير مؤمن بدين توحيديّ، يستطيع أن يدخل إلى هذه المؤسّسة ويستفيد من كلّ مزاياها، [يستطيع ذلك] لثلاث سنوات أو أربع أو ثمانٍ، ثمّ يمضي في طريقه مؤمناً بإله واحد، أو بعدّة آلهة، أو بلا إله”.
أمّا مفاعيل الوجهة الجديدة هذه، كما مثّلتها الجامعة الأميركيّة، فظهرت على غير صعيد. فضدّاً على التكوين التقليديّ للحيّ السكنيّ الشرقيّ، بوصفه امتداداً للعلاقات القرابيّة وروابط الدم، أدّت الجامعة الأميركيّة إلى خلق حيّ من نوع آخر: إنّه “رأس بيروت” حيث لا يقيم بالضرورة الأخوان أو ابنا العمّ في شقّتين متلاصقتين، ولا يتحوّل صاحب الدكّان في القرية إلى صاحب السوبرماركت في المدينة، يتزوّد بسلعه أبناء قريته الذين هبطوا معه إلى بيروت. هنا، في رأس بيروت، صار السودانيّ جاراً للأميركيّ في البناية نفسها، كما بات النازل من جبله في الكورة أو ضهور الشوير جاراً للعراقيّ أو البريطانيّ القادم من وراء البحار. مفهوم الجوار، إذاً، بات يكتسب معنى حديثاً، حيث غدت الحرّيّة والخيار الفرديّ يلعبان الدور الذي كانت تلعبه القرابة الموروثة والمفروضة بقوّة الدم.
ومثلما تعارف البشر، وتزاوج “الغرباء” أو تصادقوا في ما بينهم، تداخلت اللغات والأزياء والمطابخ والعادات لتشكّل بيئة متعدّدة ومُلوّنة تقف في مقابل قيم العصبيّة الضيّقة وعلاقاتها.
وبالتأكيد كان من الإنجازات الكبرى أنّ الجامعة الأميركيّة نشأت جامعةً للشرق الأوسط، لا للبنان فحسب. منها تخرّج شبّان وشابّات من العالم العربيّ نقلوا إلى مجتمعاتهم وإلى نُخَبها بعض ما يجدّدها ويغنيها. حصل هذا فيما كانت الدول العربيّة المستقلّة حديثاً، أو التي كانت تستقلّ، في أمسّ الحاجة لأن تستغني عن كوادر أنظمة الانتداب والاستعمار، وأن تتمتّع بكوادرها الوطنيّة التي تسيّر إداراتها وتعليمها.
وفي الجامعة الأميركيّة، ومن خلال الحضور الفلسطينيّ المميّز، تطعّمت النخبة اللبنانيّة، وهي الفرانكوفونيّة تقليديّاً، بأنغلوفونيّين كان يحتاجهم الاقتصاد اللبنانيّ بإلحاح في حقبة ما بعد الاستقلال. لقد تواكب هذا التحوّل الكبير مع مستجدّات ما بعد الحرب العالميّة الثانية وانحسار النفوذ الفرنسيّ، السياسيّ كما الاقتصاديّ، لصالح النفوذ الأميركيّ، وجزئيّاً البريطانيّ.
لكنْ ربّما كان أهمّ ما انتقل إلينا بقيام الجامعة الأميركيّة تعرُّفنا إلى قيمة النقد وإفادته لجسم المنقود. فلا نبالغ إطلاقاً حين نقول إنّ هذه المؤسّسة تعرّضت، على مدى تاريخها، لكمٍّ من هذا النقد الصادر عن أساتذة وطلاّب فيها، بل لكمٍّ من التشهير السياسيّ، لم تعرفه مؤسّسة أخرى في الشرق الأوسط. بيد أنّ ذلك كلّه لم يُضعفها، بل حصل العكس: فهي احتفلت في 2016 بالذكرى الـ 150 لتأسيسها، وهو عمر لا تطمح إلى رُبعه مؤسّساتنا المحلّيّة التي كثيراً ما تذوي بعد سنوات قليلة على نشأتها، إمّا تحت وطأة النزاعات الأهليّة والانقلابات العسكريّة وإمّا بسبب التركيبة العائليّة التي تحكمها وتتحوّل قيداً على استمرارها.
وبالفعل تعرّضت الجامعة خلال تلك السنوات الـ 150 لما تعرّض له سواها من المؤسّسات في لبنان. فهي أيضاً تلقّت آثار النزاع الأهليّ في 1958 ثمّ حرب السنتين في 1975 – 1976، وبعدها المعارك والمجابهات التي عرفتها الثمانينات، وبعضها حصل في بيروت نفسها وفي أحياء لا تبعد كثيراً عن رأس بيروت. وممّا لا يُنسى أنّ ظاهرة خطف الأجانب التي ازدهرت في الثمانينات، استهدفتها كونها… أميركيّة. ولم يكن مالكولم كير الذي اغتيل في مطالع 1984 الضحيّة الوحيد لتلك الهمجيّة التي طغت يومذاك باسم إله متجهّم وعديم الرحمة.
لقد انتسبت الجامعة الأميركيّة فعلاً إلى مشاكل المنطقة، وإن اعتمدت التقوقع والانكفاء عن لحظات عصفها الأكثر جنوناً، إلاّ أنّها اختلفت بتقديمها حلولاً لا تزال المنطقة بعيدة جدّاً عن أن تأخذ بها.
[video_player link=””][/video_player]

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 29.11.2023

هل تقاضت إيران 10 مليار دولار أميركي ثمن عدم توسيع حرب غزة؟

هل هناك اتفاق غير معلن بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران يفسّر الموقف الإيراني الحذر نسبيّاً في مقاربة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في مقابل التساهل الأميركي في تحرير الأموال الإيرانية المجمّدة في ظلّ الحرب وهجوم عدد من الجماعات التابعة لإيران على قوات ومراكز للولايات المتحدة الأميركية في العراق وغيرها؟