fbpx

سيرة “الحجّاج” الذي كان يُعَذِّب ضحاياه بالشمس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بطل هذه السيرة، الجلّاد “الحجّاج”، وكان يتميز بالصفات التالية: قامة طويلة، أكتاف عريضة، حنطي اللون، وجه عريض، شوارب سوداء، قسوة في الملامح، لا تترك يده السوط ولا يعرف قلبه الرحمة…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هي سيرة وصورة، على رغم إمكان تصنيفهما ضمن القصص الخيالية التي تتناقل روايتها الأجيال. ليستا متخيلتين؛ وما ميّزهما عن غيرهما من السِيَر والصور، أنهما تحيلان واقعة الألم إلى سرد مبني على  الذاكرة، كما في تاريخ التعذيب في الإسلام، الذي وثقت رواياته الكتب والمراجع وفق ما تناقلته الأجيال. هناك روايات كثيرة عن صاحب هذه السيرة/ الصورة، إنما المُثير فيهما هو غيابه المرئي، وكأنه غير موجود بالمطلق، أو اختلقته مُخَيلة الضحايا في خِضم الألَم. كانت الصور التي يرسمها سَرد نساء كُرديات عن ظُلم “الجلّاد الغائب” مؤثرة ومُشبَعة بالدموع؛ لكنها بقيت ناقصة إلى تلك اللحظة التي ظهرت له فيها صورتان يتيمتان، يلتهم “الجلاد” في واحدة منهما أفعى، فيما يسلخ جلد أرنب في الأخرى (الصورتان أدناه).

صورتان لـ”النخبة”

إنهما صورتان لجندي عراقي من قوات المغاوير، أي النخبة المُدرّبة الخاصة في عراق عهد الديكتاتور صدام حسين (1968-2003)، حوّله عدم التردد في سلخ جلد الحيوانات الحية أثناء الخدمة العسكرية والتهامها، إلى جلّاد كان ينتقم من ضحاياه، كلما فاضت حرارة الصحراء منه في صيف الجنوب العراقي في ثمانينات القرن العشرين. صورتان، غيرتا تاريخاً لا يستطيع الباحثون والمؤرخون تحديد ملامحه من دون اللجوء إلى حكايات التعذيب في التاريخ العربي والإسلامي، وتاريخ الأنفال ضد الشعب الكُردي عام 1988 بطبيعة الحال. صورتان، أعادتا الصدقية التاريخية لوصف الضحايا، صدقية يفتقد إليها القوميون والبعثيون والإسلاميون بطبيعة الحال.

بعد مرور ثلاثة عقود على الأنفال وأثناء بحثه عن خيط يوصله الى شخصية هذا الجلّاد، حصل الصحافي الكُردي ومخرج الأفلام الوثائقية فرمان عبد الرحمن على الصورتين المذكورتين لديكتاتور الصحراء الصغير؛ الحجّاج. أنتج عبد الرحمن فيلماً وثائقياً لقناة (روداو) الناطقة باللغة الكُردية عن جلّاد غائب، إنما كُلّي الحضور في ذاكرة الناجين من سجن نقرة سلمان جنوب العراق. وحصل على الصورتين في البصرة من خلال شخص، كان حصل عليهما هو بدوره من خلال أحد أقربائه الذي أمضى سنوات في الخدمة العسكرية مع الحجّاج.

تجول فرمان بين ناحية السلمان جنوب غربي مدينة السماوة والبصرة وكُردستان للتأكد من وجود الحجّاج في الصورتين اليتيمتين ومقارنتهما مع أوصاف من ذاق المذلة تحت سيطرته وقسوته. لم تستغرق ذاكرة الضحايا الأكراد الوقت لاسترجاع صورة جلّادهم والتعرّف إليه، كما لم يحتج عذاب الشمري، وهو ابن المنطقة وقتاً للتفكير حين رأى الصورة، إذ قال فوراً: إنه الحجّاج.

القصة، وما فيها؛ رئيس حرس أقدم على سجن عراقي، تفتقد الروايات المنقولة عنه إلى سيرته الشخصية؛ منها اسمه واسم عائلته ومكان ولادته، والبيئات الاجتماعية التي ولَّدته وانشأته. يقتصر السرد عنه على الألم من دون شيء يقنع المتلقي بوجوده أصلاً، على رغم أنه كان كلّي الحضور بسوطه وشاربيه الكثّين بين المعتقلات والمعتقلين. كان يسمى “الحجّاج”، أو عجّاج تكريتي أو الملازم حجاز.

من هنا تبدأ إشكالية تحديد هوية جلاّد لا يعرف أحد حتى اسمه الأصلي. نعتمد في هذه الرواية التي بقيت ناقصة الى حين ظهور التقامه أفعى وسلخه أرنباً، اسم “الحجّاج”، كما يناديه جميع الناجين من بطشه. لا أحد يعرف لماذا كان يكنى بهذه الكنية، وكيف وصل إلى رتبة عسكرية تسمح له بالتعذيب عبر التشميس في سجن نقرة السلمان الذي يرجع تاريخ تأسيسه إلى عهد الإدارة الكولونيالية البريطانية (1923) في محافظة المثنى بالقرب من الحدود السعودية. أهو كنية عائلته، أم اختارها بنفسه حُبّاً بأحد أكبر المستبدين في التاريخ الإسلامي، الحجّاج بن يوسف الثقفي (661-713م)، أو اختارها له مقرّب عارف بتاريخ التعذيب واستيلاده المتواصل للمُعَذِّب؟ لا أسوق هذه الأسئلة إلّا في سياق توثيق ذاكرة جماعية في إطلاق التسميات والأوصاف، ذاك أن لقب “الحجاج” لم يأت من الأكراد المُؤَنفلين المعتقلين في مُعتقل نقرة السلمان، إن إن السكان المحليين في ناحية السلمان ومدينة السماوة كانوا يسمونه الحجّاج.

وما يهم في هذه السيرة بحسب أوصاف من ذاقوا طعم المذلة الجسدية والنفسية بين أوراقها، هو أن بطلها، الحجّاج، كان يتميز بالصفات التالية: قامة طويلة، أكتاف عريضة، حنطي اللون، وجه عريض، شوارب سوداء، قسوة في الملامح، لا تترك يده السوط ولا يعرف قلبه الرحمة. كان الواحد الأوحد في ذلك السجن الذي زُجّ فيه الشيوخ والنساء والأطفال الأكراد أثناء عمليات التطهير العرقي، المسمى الأنفال عام 1988. وكان حارساً ورئيساً وقاضياً في آن واحد، يُعَطِّش ويُعَذِّب من يشاء. وحين يسرد عنه ضحاياه حكايات المذلّة، نجد أنفسنا أمام بورتريه مرسوم في أعالي الخوف.

ربط  ست نساء تحت أشعة الشمس لمدة ساعات ومنع الجميع من الاقتراب منهن

تتذكر آمنة محمد، التقيت بها عام 2004، وهي إحدى ضحاياه وقضت أكثر من ثلاثة أشهر في سجن نقرة السلمان الكثير عنه وتقول: “كانت الحياة جحيماً، وصل طعم الذّل إلى عظامنا. كان الحجّاج مدير سجننا، وهو الذي منعني من دفن ابني وابنتي، قتلهما المرض والحرّ والجوع والعطش  في ذلك السجن صيف عام 1988. لقد أخذ مني جثتيهما مع الحراس الآخرين قائلاً: نحن ندفنهما. بقيت في العنبر وبكيت وانهارت أعصابي”. تتابع هذه الأم الكُردية التي ذاقت المرارة الكاملة على يد الجلاّد الغائب: “كان يعاقبنا كيفما يشاء، بعد منتصف الليل، ظهراً أو صباحاً إذا أراد. لقد ضربني مرة بالسوط لأنني تجرّأت وذهبت مع نساء أخريات إلى قاووش المعتقلين المسنّين وتكلمنا معهم حول ما إذا كانوا يعرفون شيئاً عن مصيرنا والى متى نبقى في هذه الصحراء. وربط في ذلك اليوم ست نساء تحت أشعة الشمس لمدة ساعات للسبب ذاته ومنع الجميع من الاقتراب منهن. كانت نشميل محمد علي واحدة من اللواتي تم تعذيبهن بأشعة الشمس، انما لا تريد التذكّر والحديث عن تلك الظهيرة”.

كان “تشميس الضحايا”؛ طرحهم في الشمس أو تكبيلهم وتركهم تحت أشعة الشمس الحارقة لساعات، أسلوباً من أساليب الحجّاج، وكان يعتمد معه التعطيش. عذاب الشمري، من سكان ناحية السلمان، كان عمره عشر سنوات آنذاك، 1988، ويعمل بائعاً متجولاً وكان بإمكانه الوصول الى أطراف السجن وبيع السكاكر وأشياء أخرى خفيفة للحرّاس. ويقول عذاب “كنت أرى المعتقلين يتجمعون حول قاطرة المياه ويبدأ الحرّاس ضربهم، كان الحجّاج يضربهم بسوطه البلاستيكي. أتذكر لون سيارته الحمراء، سوبر موديل 1985، وكان يركب سارة لاند-كروزر بيضاء أحياناً”.

تخشب جسدها وفقدت وعيها حين رأت الكلاب حول جثة ابنها: “رأيت رجلي ابني ويديه  بين أنياب الكلاب، كانت الكلاب تأكل ولدي”

قمع الموتى!

لم يكن الحجّاج يسمح بحفر القبور للموتى أكثر من عمق نصف متر خارج السجن، وكان يسمح بذلك للكلاب الجائعة المتجمعة حول المكان بالتهام جثث الموتى. نشر الصحافي الأميركي جيفري غولدبرغ قصة امرأة كُردية تسمى سلمى بابان في مجلة “نيو يوركر” بتاريخ 25 آذار/ مارس 2002. تقول سلمى بابان في روايتها عن القسوة التي عاشتها في ذلك الجحيم الصحراوي: “لم يكن بإمكاننا إبقاء جثث الموتى في القاعة، وفي أول أيام نقرة سلمان مات 30 شخصاً وربما أكثر”. مرض ابنها الصغير ريبوار البالغ من العمر 6 سنوات وأصيب بالإسهال. كانت تعرف أنه سيموت، لم يكن هناك طبيب أو أدوية، بكى كثيراً ومات في حضنها. “كنا نصرخ ونبكي أنا وبناتي وأعطيناهم الجثة فأخذها الحراس ونقلوها إلى الخارج”. بعد موت ابنها توجهت سلمى نحو النافذة لترى ما إذا كان الحراس دفنوا جثة ولدها، إنما تخشب جسدها وفقدت وعيها حين رأت الكلاب حول جثة ابنها: “رأيت رجلي ابني ويديه  بين أنياب الكلاب، كانت الكلاب تأكل ولدي”.

لم يكن الحجّاج مسؤولاً عسكرياً كبيراً، إنما القسوة التي امتلكها أثناء الخدمة العسكرية ودخوله وحدات “المغاوير” الخاصة، حولته إلى جلّاد التشميس. وكانت القسوة كفيلة بالحصول على الامتيازات، منها امتيازات الظلم، في الأجهزة العسكرية والأمنية العراقية. بعد عام 2003 صار بإمكان الصحافيين زيارة سجن نقرة سلمان ونقل صور عنه، وعما كُتِب على جدرانه بطبيعة الحال، ولكن بقي الحجّاج لغزاً، إنما لحظتا التقام الأفعى وسلخ الأرنب، في صورتي الحجّاج، وثقتا ما يمكن وصفه بسيرة مُمكنة لجلّاد كان يُعَذِّب ضحاياه بالشمس.

العراق… فتيات يواجهن انعدام خدمات المياه بالصمت

 

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 27.03.2024

“بنك عودة” في قبضة الرقابة السويسرية… فما هو مصدر الـ 20 مليون دولار التي وفّرها في سويسرا؟

في الوقت الذي لم ينكشف فيه اسم السياسي الذي قام بتحويل مالي مشبوه إلى حساب مسؤول لبناني رفيع المستوى، والذي امتنع بنك عودة سويسرا عن ابلاغ "مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال" عنه، وهو ما ذكره بيان هيئة الرقابة على سوق المال في سويسرا "فينما" (FINMA)، تساءل خبراء عن مصدر أكثر من 20 مليون دولار التي…