ليس خافياً على أحد أن حجم التغييرات في ميزان القوى الإقليمي والدولي بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر وهزيمة محور الممانعة المدوّية في المنطقة، كان من الممكن أن يُترجم، وقد كانت هناك أحلام ونيات لترجمة مفاعيله في الداخل اللبناني، انقلاباً كاملاً من فريق على فريق آخر، على شاكلة وصول سمير جعجع الى الرئاسة وأشرف ريفي أو فؤاد مخزومي الى رئاسة الحكومة على سبيل المثال… وبالتالي محاولة كسر وعزل لمكوّن سياسي وطائفي بالبلد، أي الشيعة، كما حدث مع المسيحيين بعد اتفاق الطائف.
لكن، لحسن حظ لبنان أن اللبنانيين نسجوا منذ خمس سنوات، وبعد نضال تراكمي طويل، مساحة سياسية اسمها 17 تشرين، مساحة جامعة وعازلة بين طرفي صراع عمره 20 سنة عكس صراع المحاور في الإقليم بصراع سياسي وانقسام مجتمعي بين محوري 8 و14 آذار، استُخدمت فيه كل أنواع الإقصاء والشحن والتحريض والتصادم الطائفي، وصولاً الى الاقتتال.
فاللبنانيون محظوظون اليوم في هذا الظرف الدقيق، بوجود 17 تشرين كمساحة متنوعة عابرة للطوائف، وحاضنة لكل اللبنانيين، جمعت ساحات البلد من صور والنبطية، الى طرابلس وبعلبك مروراً ببيروت وصيدا والشوف وعاليه وجل الديب والذوق.
سقوط النظام في لبنان كأحد تداعيات سقوط النظام في سوريا وتغييرات المنطقة، وما يشكل من فرصة للخروج من المستنقع اللبناني الطائفي، يحتاج الى هذه المساحة السياسية الشعبية الحاضنة التي تجنب البلد تصادماً مباشراً، فترجمة الغلبة الإقليمية إلى غلبة محلّية، كانت لتجرّ البلاد نحو اقتتال أهلي لم تسقط احتمالاته بعد، وكانت لتشكّل تكراراً لغلبة شبيهة بالطائف، وما يعنيه ذلك من تزعزع بالأرضية التي ستبنى عليها المرحلة المقبلة.
لذلك، فإن فعل تبني 17 تشرين (بمن فيها من نواب وقوى وناشطين/ات وإعلاميين/ات وغيره) لوصول جوزيف عون الى الرئاسة، وصناعة خيار نواف سلام، ليس فعل قطف أو تسلّق، بل هو خدمة للبنان ومصلحة لكل اللبنانيين، ومصدر طمأنينة للعيش المشترك بمنع غلبة فريق لبناني على آخر، وضمان عبور آمن للبلد باتجاه عقد اجتماعي جديد يؤسس للجمهورية الثالثة، ويضمن الانتقال من دولة المحاصصة الطائفية نحو دولة المواطنة بمشاركة متوازنة من أبنائه كافة.
في المفصل السابق من تاريخ لبنان في 1990، غابت المساحة السياسية الجامعة عن الطائف، ما أدى الى حصر أطر التمثيل السياسي الوحيدة للناس، والتي تحوّلت الى شرعية النظام، بالطوائف.
فيما وجود هذه المساحة الحاضنة في 2025، يعزز “الفرصة” التي علت أسهمها أيضاً بوجود شخص الرئيس المكلف نواف سلام في قيادة سفينة الانتقال، هو الذي درس الدستور اللبناني بعمق وفهم معضلة البلد وألّف كتباً عن هذه العملية الجراحية الحساسة لانتقال النظام السياسي في لبنان نحو الدولة الفعلية من خلال الدستور والطائف.
ذلك كله، يحمّل القوى السياسية المنبثقة من 17 تشرين، مسؤولية تشكيل قطب سياسي يدعم مسار النهوض ويستثمر في إرادة الناس، لحشد حالة من التعاون والضغط، مع الثنائي عون-سلام، على الأحزاب والكتل كافة للخروج من الحلقة المفرغة: “حكومة من خارج أحزاب النظام مقابل الثقة في البرلمان”.
إقرأوا أيضاً: