fbpx

زيارتي الأولى إلى العراق… نعش وسواد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كنتُ في بغداد وكربلاء والنجف مشيّعاً صديقاً ورفيقاً شاعراً وفناناً قتله الحب واليأس والهزيمة التي ترعرعت وكبرت إلى أن هرمت في بلادنا المنكوبة بالهزائم، ونحن على عتبة نصف قرن من الانتحار في بيروت

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في صباح 24 نيسان/ أبريل من عام 1972، أطلق الفنان التشكيلي والشاعر والصحافي الشيوعي العراقي إبراهيم زاير (أبو خولة، 1944-1972) رصاصة على رأسه في شقة في حي أبو سهل في منطقة الفاكهاني، التي كانت تُسمّى “جمهورية الفاكهاني” في ذلك الوقت.

عمل أبو خولة مديراً لتحرير مجلة “الهدف”، المجلة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان يرأس تحريرها غسان كنفاني آنذاك. قبل أسابيع قليلة من انتحاره، خرج إبراهيم زاير من الجبهة الشعبية منشقاً، مع ما سميّ وقتها التيار اليساري في الجبهة، الذي شكّل في ما بعد جبهة جديدة أطلق عليها المنشقون اسم “الجبهة الثورية لتحرير فلسطين”، التي كانت خيبة كبرى لجميع من عقدوا عليها الآمال، لخلق حالة متميزة عن الجبهة الأم وبقية فصائل اليسار الفلسطيني. فالمشهد السياسي الفلسطيني عاش هزيمة المقاومة الفلسطينية في الأردن وخروجها منه، بعد صدام دموي مع النظام الأردني في أيلول/ سبتمبر عام  1970.

لم يكن فشل التجربة السياسية الجديدة والإحباط الذي أصاب المنشقين ومنهم إبراهيم زاير، السبب الوحيد الذي أدخل إبراهيم في حالة اكتئاب مريرة دفعته الى الانتحار يأساً بعد فشل تجربة نضالية سابقة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي الذي أعلن بين عامي 1966 و1967 الكفاح المسلح ضد النظام العراقي، قبل انقلاب البعث بشهور على نظام عبد الرحمن عارف.

كان إبراهيم زاير من نشطاء تلك التجربة التي محقها النظام القومي العربي آنذاك، واستكمل عمليات المحق النظام البعثي الذي استولى على السلطة عام 1968، واستخدم وقتها الدبابات البرمائية روسية الصنع، للقضاء على المجموعات الشيوعية المسلحة، بالتعاون مع فلاحي منطقة الأهوار جنوب العراق، الذين سلحهم النظام، وأبادوا كثيرين من الشيوعيين وقتها، ودفعوا الباقين الى الهروب والتشتت.

وصل إبراهيم زاير في شتاته إلى بيروت وعمل في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث استقبله غسان كنفاني وأعطاه فرصة للعمل معه في إدارة مجلة “الهدف”، كونه كاتباً وفناناً معروفاً في العراق، وقد نشرت له مجلة “مواقف”، التي أدارها الشاعر أدونيس، قصائده بحفاوة بالغة. كل هذه التجارب كانت من بين أسباب كثيرة، لكن السبب الأساس الذي دفعه إلى الانتحار كان عشقه الجارف للفنانة التشكيلية اللبنانية الأرمنية الشيوعية مثله، سيتا مانوكيان التي هام بها إبراهيم حباً ولم تبادله القدر نفسه من الحب، فأحبطت توقعاته، ما دفعه إلى الخلاص من حياته برصاصة في الرأس في الفاكهاني.

كنت قريباً من إبراهيم زاير في تلك الفترة التي سبقت انتحاره في شقة يسكنها رفيقه الكاتب العراقي زهير الجزائري (أبو وميض)، حيث جاءه إبراهيم زاير في تلك الساعة المبكرة من صباح 24 نيسان، وطلب منه أن يعد له فنجان قهوة، وما أن ذهب رفيقه الى المطبخ حتى أطلق ابراهيم زاير رصاصة على رأسه، وهو يقف أمام شباك غرفة النوم، فسقط على السرير وعلقت شعرات رأسه على الثقب الذي أحدثته الرصاصة في زجاج الشباك.

بعد أن علمنا بالأمر ولم يكن مكان سكننا بعيداً، هرعنا الى الشقة ونقلناه إلى مستشفى المقاصد في بيروت الغربية، حيث أعلن الطبيب المناوب وفاته الفورية.

لم أكن قد أتممت الواحدة والعشرين من عمري في تلك السنة، وكان إبراهيم زاير يكبرني بسبع سنوات، لكنني كنت قريباً منه. كنت أكتب الشعر وتطوع إبراهيم قبل شهور من انتحاره، وقدم دفتري الشعري المكتوب بخط اليد إلى الشاعر الكردي العراقي الكبير بلند الحيدري الذي كتب لي بخط يده على دفتري كلمات تشجيع ونصائح.

اختارتني قيادة الجبهة الثورية لأرافق جثمان إبراهيم زاير إلى بغداد مع رفيق آخر اسمه قدري وسائق سيارة فورد ستيشن، تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني، بعدما بُلّغت عائلة زاير بالنبأ الحزين. كانت المسافة التي علينا أن نقطعها بالسيارة تزيد عن ألف كيلومتراً، من بيروت مروراً بسوريا وصولاً إلى بغداد.

قبل الوصول إلى بغداد بحوالي 300 كيلومتر، أصاب السائق إرهاق شديد ولم ينفع معه التوقف لأخذ قسط من الراحة، وطلب منا أن ينام لساعتين أو ثلاث، قبل مواصلة الرحلة الحزينة. عثرنا في ذلك الليل في بلدة لا أذكر اسمها الآن على فندق صغير، وقررنا المبيت فيه لبعض الوقت لكن تساءلنا جميعاً: وماذا سنفعل بالتابوت الذي يضم جثمان إبراهيم زاير؟

اقترح علينا صاحب الفندق أن نبقي التابوت في السيارة بعد غلقها بإحكام. وهكذا فعلنا.

لم أعرف النوم في تلك الليلة فقد كان عواء الذئاب ونباح الكلاب يصلني من شبابيك الغرفة، وكنت أخشى من أن تقتحم الذئاب السيارة وجثمان إبراهيم مسجّى في تابوته فيها.

استيقظ السائق وقدري بعد ساعتين ولم تكن الشمس أشرقت بعد، لبسنا على عجل وشربنا الشاي وواصلنا رحلتنا نحو بغداد.

كان أصدقاء ابراهيم زاير من فنانين ومصوّرين وشعراء في استقبالنا وانتقلنا بعد ذلك إلى منزل عائلة زاير، في أحد أحياء بغداد، الذي يسمى حيّ الحرية أو الثورة. كانت أمه وزوجته الحامل وقتها والتي وضعت حملها بعد أسابيع من رحيل زوجها، وأخوته يندبون الراحل الذي صدم الجميع باختياره مغادرة العالم. وعلى عادة شيعة العراق، انتقلنا بالجنازة بعد التشييع في شوارع بغداد إلى مدينة كربلاء، حيث طوف النعش في المراقد المقدسة لدى الشيعة، لننتقل بعد الطواف إلى مدينة النجف، حيث يدفن أبناء الشيعة العراقيون موتاهم في مقبرة “وادي السلام”، وهي مقبرة شاسعة لا يمكن للمرء أن يرى نهاية لها.

أودعنا إبراهيم زاير في قبره ليرقد بسلام وعدت والسائق وحدنا الى بيروت في اليوم نفسه، ذلك أن رفيقنا قدري قرر البقاء في بغداد. وهكذا كانت زيارتي الأولى إلى بغداد التي لم أر منها غير الشوارع التي سار فيها موكب الجنازة والنساء الباكيات المتشحات بالأسود، والمراقد المقدسة التي طوف فيها جثمان الفنان الشيوعي المرهف. كنت في بغداد وكربلاء والنجف مشيعاً صديقاً ورفيقاً شاعراً وفناناً قتله الحب واليأس والهزيمة التي ترعرعت وكبرت إلى أن هرمت في بلادنا المنكوبة بالهزائم، ونحن على عتبة نصف قرن من الانتحار في بيروت.

 

سهام ناصر صديقتي الحبيبة

 

هايني سرور : مخرجة لبنانية يهودية يسارية لكن لا يذكرها أحد