fbpx

شهدتُ وحشية البشير… والآن بإمكان السودان اكتشاف هويته المفقودة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم الانشقاقات في الجيش، أتى الإعلان عن إقالة عمر البشير من خلال الجيش الذي يعتزم الاستيلاء على السلطة. هذه أخبار سيئة للسودان، إذ لا أحد من جنرالاته بريء تماماً من فظاعات البشير

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ أكثر من 20 عاماً، اختبأتُ في أحد مراحيض جامعة الخرطوم مع ثلاثة طلاب آخرين. وضعنا أوشحتنا على أنوفنا كي نحجب الرائحة الكريهة، وكذلك الغاز المسيل للدموع الذي تسرّب عبر الأبواب. لم تجر انتخابات اتحاد الطلبة على نحو يعجب الحكومة، وسرعان ما اجتاحت الحرم الجامعي قوات الأمن مسلحة بالهراوات وقنابل الغاز. وعند نقطةٍ معينة، صارت السيارات التابعة للأمن تطوف الجامعة، وتلقي القبض على الطلبة عشوائياً وتضربهم.

في النهاية أخلي الحرم الجامعي، وغامرنا بالخروج ونحن نتقيأ. أتذكر أنني رأيتُ أثناء محاولتنا العودة إلى منازلنا على ضفة النيل شمال الحرم، عدداً كبيراً من الطلبة يختنقون ويبكون ويسعلون. وقف ضباط الأمن في الشارع يضربون الطلبة بشكل عشوائي بالعصي والهراوات، متفوهين بسباب مهين. عندما تجاوزتهم، رأيتُ أحدهم يضرب طالباً على ظهره، ترنح الأخير، فقال الضابط ساخراً “أين الأبطال؟”، وهو يضربه مجدداً. “ظننتُ أنكم الأبطال”، تحمل الطالب الضربات مبتعداً من المكان ولم ينظر خلفه أبداً.

لم نكن نعلم في ذلك الوقت أن هذا سيحدث، لكننا لم نعد إلى الجامعة لأكثر من عام. أغلقها نظام البشير هكذا ببساطة، إذ لم يرغب في المخاطرة باندلاع احتجاجات شعبية بتأثير من الحركة الطلابية. عندما رجعنا، كان طلبة كثر انسحبوا من الدراسة أو اختفوا وحسب.

أُطيح بالبشير؛ آخر مستبدي العرب الذين حكموا أمداً طويلاً. لم تمر سنة واحدة بسلام طوال سنوات حكمه الثلاثين. استولى ضابط الجيش على السلطة عام 1989، وقمع  أي معارضة له بالقوة الغاشمة وسياسة الأرض المحروقة. في المدن الكبرى، قام النظام بحل المجتمع المدني وأقام دولةً عسكرية. وفي دارفور ومقاطعات أخرى، أوقدت قواته صراعات عرقية في حروب حصدت أرواحاً لا تُحصى، وجعلته جديراً بأن يُتهم في المحكمة الجنائية الدولية وفرض عقوبات على السودان. كما أسس لنظام قانوني تعسفي يقوم على الشريعة، استخدمه في اضطهاد أعدائه وفرض نظام قاتم وعقيم.

أفضت انتهاكات البشير لحقوق الإنسان إلى شيء آخر، هو تخريب الإحساس بالهوية الوطنية المنفصلة عن رؤية الحكومة الدينية العسكرية.

نجحت سياسته. فما بين استعمال القوة الغاشمة وإدماج الخصوم، تمكن النظام العسكري من النجاة. في شهر حزيران/ يونيو من هذه السنة، تحل الذكرى الـ30 “لثورة الإنقاذ”. لكن الانتفاضة الشعبية، التي ظلت تكتسب زخماً منذ ما يقرب من أربعة أشهر الآن، حرمت البشير من الاحتفال بذكراه السنوية الثلاثين. يأتي على أي ديكتاتور وقت يتوقف فيه مزيجه السحري من الرشوة والوحشية والقتل والتعذيب والاعتقال، عن العمل. وما إن يحدث ذلك، يتجاوز الأمر كل تحليل ممكن. نظم الآلاف اعتصاماً في مقر قيادة الجيش لمدة أسبوع تقريباً مطالبين بإنهاء النظام. لكن اللحظة الحاسمة جاءت منذ فترة، عندما فشلت الحكومة في توفير الاحتياجات الأساسية، بينما البلاد تنزلق في أزمة اقتصادية وتعاني من تضخم هائل ونقص في السيولة وعجز في البنوك. في الماضي عندما انتفض الفقراء، لم تكن الطبقات الوسطى، الطبقات الأقل معاناة على مر التاريخ (إذا أحسنت التصرف)، تنضم لهم. لكن الآثار المدمّرة للفقر بدأت تظهر في الأسر الأكثر ثراءً ولم تعد الصفقة مع البشير مجدية. يمكن أن تكون الحكومة إما قمعية أو مفقرة، لكن ليس كليهما.

وهكذا، أثارت الأزمة الاقتصادية شعوراً عاماً بالسلب، تحول إلى تمرّد سياسي. واتخذ الغضب كذلك شكلاً مختلفاً، شكلاً يطالب بتعويض عن عقود من الاضطهاد، لكنه يسعى أيضاً إلى التوصل إلى نوع من المصالحة الوطنية. أظهرت مشاهد اعتصام الخرطوم الرغبة في الشعور بروح الدولة المفقودة منذ فترة طويلة.

أفضت انتهاكات البشير لحقوق الإنسان إلى شيء آخر، هو تخريب الإحساس بالهوية الوطنية المنفصلة عن رؤية الحكومة الدينية العسكرية. كانت ثورة الإنقاذ مشروعاً ثقافياً، مشروعاً أفرط في التفرقة العرقية بين الشعب السوداني، ووطّد النظام مكانته عبر تجاهل الجماهير وتأسيس وخدمة شبكات مصالح كبيرة. وقد شهدنا انشقاق بعض الجنود، لدعم المتظاهرين وحمايتهم، ضد قوات الأمن، بعضهم بكى وهو يتخذ هذه الخطوة. واختلطت الأغاني القديمة الكلاسيكية والهتافات التي سبقت حكومة البشير مع الدعابات الجديدة البذيئة. خرجت النساء، اللائي تحملن عبء التجربة الشرعية، بملابس تقليدية، عائدات إلى العادات القديمة. وأحضر المتطوعون الطعام والماء، وتم توثيق كل شيء مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي. كانت انتفاضة فيها حنين إلى الماضي، وحديثة في الآن ذاته. ليس لديها سوى الماضي لتتمسك به، لكنها تعرف كذلك أن الحاضر لم يعد مقبولاً.

لكن على رغم الانشقاقات في الجيش، أتى الإعلان عن إقالة البشير من خلال الجيش الذي يعتزم الاستيلاء على السلطة. هذه أخبار سيئة للسودان، إذ لا أحد من جنرالاته بريء تماماً من فظاعات البشير. في السودان أيضاً إرث من التوتر العرقي والقبلي لم يخترعه البشير، الذي لم يكن ليظل في الحكم كل هذا الوقت لولا تواطؤ طبقة الأثرياء. وعلى رغم أيقونات النساء على الخطوط الأمامية في الانتفاضة، إلا أن إيذاء الحكومة للنساء وجعلهن ضحايا، دعمهما مجتمع غارق في كراهية النساء.

لكن بلداً يمر بمثل هذه اللحظات يحتاج إلى رؤية، نسخة مثالية عن نفسه، وشيء يطمح إليه. وهكذا راقب العالم الشعب السوداني وهو يردد الهتافات ويتلافى الطلقات حتى نجح في تحقيق ما فشلت فيه منظمات حقوق الإنسان الدولية بأسرها: الإطاحة بحكومة عمر البشير. لا يزال المستقبل قيد التشكل، لكن في هذه الأثناء، أجاب هؤلاء الذين شاركوا في الانتفاضة على السؤال الذي طرحه ضابط الأمن عندما كان يضربنا ونحن نغادر الحرم الجامعي المُحاصر منذ كل تلك السنوات. ها هم الأبطال.

بقلم نسرين مالك

هذا المقال مترجم عن موقع The Guardian ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

 

ماذا تعلمنا من ثورة السودان؟