fbpx

السوشيال ميديا ساحة صراع من الثورة الإيرانية إلى الثورات العربية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قبل عقود مضت، كانت العوائق التي تقف أمام البث المباشر والنشر شديدة الضخامة، ولذا كانت المؤسسات الضخمة فقط هي القادرة على بث الأخبار باستمرار. ولكن خلال العقدين الماضيين، أصبح في إمكان الأشخاص العاديين أن يسجلوا، وينشروا، ويبثوا المواد الإعلامية مباشرةً إلى ملايين المشاهدين حول العالم، وبحد أدنى من التكلفة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل عقود مضت، كانت العوائق التي تقف أمام البث المباشر والنشر شديدة الضخامة، ولذا كانت المؤسسات الضخمة فقط هي القادرة على بث الأخبار باستمرار. ولكن خلال العقدين الماضيين، أصبح في إمكان الأشخاص العاديين أن يسجلوا، وينشروا، ويبثوا المواد الإعلامية مباشرةً إلى ملايين المشاهدين حول العالم، وبحد أدنى من التكلفة.
تسبب ذلك في فقدان المؤسسات الإعلامية القديمة هيمنتها وتحكمها في الإجراءات الإعلامية التقليدية المتبعة، إلى إتاحة الفرص أمام الفئات التي طالما قُمع صوتها، في إيصال صوتها للعالم، فقد أصبح بإمكان الفلسطينيين، والناشطين الأمريكيين من أصل أفريقي، والعاملين في مجال حقوق المرأة، وحماة البيئة، والجماعات المعارضة التي تعيش في مجتمعات استبدادية، إيجاد السبل، مع وجود بعض العراقيل أحياناً، لإسماع صوتهم والتعبير عن آرائهم.
على الرغم من ذلك، أسهم هذا المشهد الإعلامي الجديد في خلق عالم أكثر عرضةً لمستويات غير مسبوقة من الدعاية والمؤامرات والتضليل. إذ نشأت هذه الفوضى المعرفية نتيجةً لهذا الانفجار العالمي في “الأخبار”، وتسببت بعض هذه المعلومات والأخبار المشكوك في صحتها بالفعل، في ظهور اضطرابات خطيرة على الصعيد السياسي، فضلاً عن الحياة اليومية للأفراد والشعوب. إلا أن ثمة جانب آخر من الحياة قد يتأثر أكثر من غيره بذلك المشهد المتغير في بيئة المعلومات، ألا وهو الصراع المسلح.
كانت الدعاية وحرب المعلومات فيما مضى من اختصاص الدول القومية، والجيوش، وأجهزة الاستخبارات. أما اليوم، فقد أصبح بإمكان الأشخاص العاديين أن يكونوا لاعبين أساسيين في مثل هذه الحملات. إذ أصبحت المعارك حول المعلومات والأخبار جزءاً لا يتجزأ من الصراعات العسكرية والسياسية المعاصرة، فقد أثبت الدور الذي لعبه المدونين والنشطاء وما يُعرف “بصحافة المواطن” في صياغة الأحداث أهمية لا يُستهان بها.
ازدادت الأمثلة على ذلك بشكل كبير خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فقد ساهمت صحافة المواطن والناشطين المعارضين في تغيير مسار التاريخ خلال الثورات التي شهدتها بلدان مثل مصر والبحرين وتونس وليبيا. فضلاً عن العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزّة عام ٢٠١٤.

 

كانت الدعاية وحرب المعلومات فيما مضى من اختصاص الدول القومية، والجيوش، وأجهزة الاستخبارات. أما اليوم، فقد أصبح بإمكان الأشخاص العاديين أن يكونوا لاعبين أساسيين في مثل هذه الحملات.

 

وسرعان ما تبدلت الأدوار، وأصبحت الشعوب التي كانت تُعد من قبل ضحية حروب وسياسات القوى العظمى، تملك الأدوات التي تمكنها من لعب دور سياسي حيوي. فأثناء القصف الإسرائيلي، على قطاع غزّة عام ٢٠١٤، والغارات الجوية التي شنتها روسيا على مدينة حلب السورية، التي كانت قد سيطرت عليها قوات المعارضة آنذاك، لفت بعض الأطفال والفتيات الانتباه الدولي عبر بثهم لتطورات الأحداث في مناطق اشتعال الحرب، ما ساعد في دعم تشكيل الرأي العام العالمي ضد هذه الممارسات.
تتميز الرواية الصحافية، التي ينقلها الأشخاص العاديون والناشطون عن المعلومات التقليدية التي تنشرها الدول بحس عميق بالأصالة والثقة والاتصال العاطفي. وهو ما كان يصعب على المؤسسات الإعلامية الكبرى الحصول عليه على الدوام، إلا أنه برز بشكل طبيعي دون اختلاق فيما يبثه هؤلاء الأفراد والناشطين. واستطاعت وسائل التواصل الاجتماعي تجاوز العوائق التقليدية التي تُرسيها وسائل الإعلام العادية، من قيود سياسية ومؤسسية على حرية النشر، وهو ما أزال أكبر العقبات التي كانت تكبت التعبير عن الرأي، وأتاحت الفرصة للمهمشين في كل مكان أن يصرحوا بما في نفوسهم.
ولكن على الجانب الآخر، أدى الانتشار الكبير لصحافة المواطن على الإنترنت إلى اشتداد الضبابية التي تحيط بصحة الأخبار، وأصبح من الصعب التفريق بين العناصر المشاركة وغير المشاركة في الصراع، بالإضافة إلى الناشطين والصحافيين.
أصبح التمييز بين الحقيقة والزيف مهمة غاية في الصعوبة. لذا، بدأت مجموعة من الكتاب في دراسة أساليب تشكيل وسائل التواصل الاجتماعي، لطريقة فهمنا ورؤيتنا للصراعات والسياسات المعاصرة.
ولعل حرب عام ٢٠١٤، بين إسرائيل وفصائل فلسطينية في قطاع غزّة، كانت الحرب الأولى التي وُظفت فيها وسائل التواصل الاجتماعي بنجاح، كقوة تسوية جذرية من قبل الطرف الأضعف. ففي الحروب السابقة بين إسرائيل والفلسطينيين، مكنت القدرة التي تمتلكها السلطات الإسرائيلية في السيطرة على الوصول إلى أرض المعركة من نسج صورة معينة للحرب، وتصويرها بالطريقة التي تصب في مصلحتها، باعتبارها حرب ضد الإرهاب. ولكن مع الانتشار الكثيف للهواتف الذكية، وارتفاع عدد حسابات وسائل التواصل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في قطاع غزّة خلال السنوات السابقة، اختلفت نظرة قطاع كبير ومتنوع من المراقبين بشكل ملحوظ تجاه هذا الصراع.
فبمجرد أن بدأت إسرائيل بإلقاء القنابل على أحياء قطاع غزة، وما ترتب على هذا القصف من قتل وإصابة العديد من المدنيين، هرع الفلسطينيون إلى وسائل التواصل الاجتماعي لنشر روايتهم عن الحرب. شارك  الفتيان والفتيات الذين يعيشون في قطاع غزة الصور التي تُظهر الأعمال الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل في حق المدنيين، بالإضافة إلى نشر آخر المستجدات المؤثرة عاطفيًا حول تجاربهم الشخصية أثناء محاولاتهم للنجاة بحياتهم.

خلال الصراعات السابقة، لم يكن بوسع معظم هذه الأصوات أن تُسمع على الإطلاق. وفي ظل البث المباشر على الصعيد الدولي من خلال منصتي تويتر وفيسبوك، أصبح من المستحيل تجاهل معاناة الفلسطينيين ومقاومتهم ضد الانتهاكات الإسرائيلية.
من الناحية العسكرية، لم يكن هناك تكافؤ حقيقي في القوة بين الجانبين. فبعد أن وضعت الحرب أوزارها، كانت حصيلة خسائر الفلسطينيين في الأرواح أكثر من ٢١٠٠ قتيلا، بينما سقط من الإسرائيليين ٦٦ قتيلا. وقد تعرضت البنية التحتية لقطاع غزة المحاصر لخسائر مادية هائلة، إذ تسببت الهجمات الإسرائيلية في انقطاع مياه الشرب عن السكان، وتدمير محطات توليد الطاقة التي تُمد سكان قطاع غزة بالكهرباء. وعلى الرغم من تفوقها الواضح في القوة، وانخفاض عدد قتلاها، وتدمير أراضي جانب واحد، لم يكن من الواضح إن كانت إسرائيل هي من انتصرت في هذه الحرب. ففيما يتعلق بالمعركة الإعلامية، والتي تُعد ذات أهمية كبرى، فقد استطاع الفلسطينيون كسب زخم كبير لصالح قضيتهم.
خلال فترة الحرب، لم يكن هناك من هو أكثر تعبيراً عن التغير الديناميكي في موازين القوى من فرح بكر، تلك الفتاة الفلسطينية ذات الستة عشر ربيعاً، والتي جذبت انتباه العالم من خلال ما تنشره من أخبار عن الحياة في قطاع غزة، عبر حسابها على منصات التواصل الاجتماعي. لم تكن بكر تنتمي إلى أي مجموعة سياسية،  وكانت وجهة آرائها حول الحرب نابعةً من وجهة نظر شخصية بحتة. ومع ذلك، أدى حضورها على منصات التواصل الاجتماعي، إلى قفزها إلى بؤرة الاهتمام العالمي، من خلال روايتها للواقع الفلسطيني للعالم بأسلوب إنساني مؤثر. مكنها ذلك أيضاً من لعب دور سياسي مؤثر، وهو ما لم تكن تتوقعه بكر أبداً، وما لم يحدث في أي حرب سابقة على الإطلاق.
وفقاً لما جرت عليه العادة، كان المكان الطبيعي لفتاة في سن المراهقة تحت القصف الجوي هو بين صفوف المتفرجين في أحسن الأحوال، أو بين أعداد الضحايا في أسوأ الأحوال. ولكن بفضل التغطية المستمرة التي كانت تنشرها عبر حسابها على موقع تويتر، والذي كانت تبث من خلاله مخاوفها، فضلاً عن محاولاتها للحفاظ على نمط حياتها الطبيعي خلال فترة الحرب، أصبحت فرح جزءً هاماً من العمل الفلسطيني للتأثير على الرأي العالمي فيما يتعلق بهذه الحرب.
في غزة، مثل ما حدث في سوريا وأوكرانيا، كان هناك بعض الأمثلة على نشر المعاناة المزيفة لأهداف دعائية. ولكن وسائل التواصل الاجتماعي، غيرت الطريقة التي يُنظر بها إلى هذه الصراعات المتفجرة في هذه الأماكن. فمن خلال قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على توفير معلومات موثقة من مصادر متعددة على الأرض، وتبادل الأدلة على هذه المعلومات، أصبح لدى المراقبين الخارجيين إمكانية تقييم مصداقية التقارير الإعلامية الميدانية بشكل أفضل.
في ظل الحماس المشتعل الذي صاحب بداية اندلاع ثورات الربيع العربي عام ٢٠١١، لاحظ المراقبون مدى نجاح الناشطين الشباب في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي كأداة تنظيمية. وعلى الرغم من إرجاع الفضل في قيام الثورات العربية إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حسب ما تبناه بعض المحللين آنذاك، يُعد أمراً مبالغاً فيه بشدة، إلا أنه لا يمكن إنكار تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية، والهواتف النقالة، ومحطات التلفزة الفضائية الجديدة في تعبئة الحشود، ونقل الأخبار في هذه المجتمعات.
إلا أن السنوات القاتمة التي تلت الثورات العربية مباشرةً، بدّدت هذه الفكرة إلى حد كبير. فبينما كان الناشطون الليبراليون أكثر قدرةً على التنظيم عبر الإنترنت، كانت الجماعات الإسلامية السياسية والجهادية، تسير على نفس النهج. كانت هذه الجماعات أفضل تمويلاً، وأكثر تنظيماً، وأكثر خبرةً في العمل السري بطبيعة الحال، واستخدموا أحدث الوسائل التكنولوجية في الدعاية والتجنيد والتواصل. ومع مرور الوقت، كانت  الجماعات الإسلامية، كجماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الجهادية الأخرى، هي من انتقلت إلى طليعة الثورات، غير آبهة بالناشطين الليبراليين الذين التقطوا في البداية الجزء الأكبر من الصورة التي رآها العالم.
لعل الجانب الأسوأ في استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة تمثل في الطريقة التي اُستخدمت بها في تسريع عملية التغيير السياسي. فقد قاد الشباب في كل من مصر وتونس ثورات بدأت وانتهت في غضون أسابيع قليلة، مطيحين بحكومات ظلت متشبثة بالسلطة لعقود طويلة. وعلى الرغم من معاناة البلدين من مشاكل هيكلية استمرت فترات طويلة من الزمن، إلا أن شرارة الثورة اشتعلت في كلا البلدين إثر انتهاكات فردية في حق المواطنين.
وتسببت السرعة الكبيرة  التي تميزت بها هذه التحركات، في صعوبة الاستناد إليها لبناء نظام  راسخ مستقر بعد الإطاحة بالأنظمة القديمة. وبينما لعب حشد المتظاهرين عبر الإنترنت بالفعل دوراً رئيسياً في الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، والديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي،إلا أنه لم يتح الفرصة والوقت الكافي لظهور قيادة حقيقية على الساحة السياسية، يلتف حولها الناس. كانت الأحزاب الوحيدة التي أُنشئت واستفادت بما فيه الكفاية من الوضع الراهن آنذاك، هي تلك الأحزاب المتوافقة مع جماعة الإخوان المسلمين.

منذ فترة ليست بالطويلة، أرست الثورة الإيرانية أسسها عام ١٩٧٩ باستخدام تكنولوجيا حديثة نسبياً، فقد سُجلت الخطب الشعبية لقائد الثورة الإيرانية، آية الله روح الله الخميني، ومن ثم نُسخت على شرائط كاسيت، ما أدى إلى انتشارها بشكل سريع. وعلى عكس حركات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تنتقل بالغضب إلى مرحلة الاحتجاج خلال أيام معدودة، فقد استغرق الخميني سنوات من العمل الإعلامي الشاق من أجل تكوين أرضية جماهيرية كبيرة، تدعم حركة المعارضة في إيران. وبحلول الوقت الذي تدفق فيه الإيرانيون إلى الشوارع ضد حكم الشاه، مدفوعين من العديد من التيارات الفكرية المختلفة ، كان الخميني قد ذاع صيته كقائد روحي شعبي في أوساط المعارضة. وعندما انهار النظام الملكي، كان الخميني قد بلغ من القوة ما يسمح له بتهميش منافسيه الايديولوجيين، والاستحواذ على السلطة الدينية وفرضها على البلاد.
إن الفرق بين الثورة الايرانية وثورات اليوم التي تفتقر إلى القيادة، فرق شاسع ويشير إلى أحد نقاط الضعف الرئيسية لأنشطة المعارضة عبر الإنترنت. فقد يكون التنظيم والدعاية من خلال الإنترنت مفيداً إلى حد كبير في زعزعة أركان النظم، لا سيما تلك النظم المستبدة الوحشية، والتي تلجأ في كثير من الأحيان إلى فرض رقابة صارمة على تداول المعلومات. ولكن بفعل السرعة المتهورة التي يتم بها التغيير، يصبح الأمر أقل فائدةً في بناء شبكات العمل والمنظمات الضرورية لسد الفجوة الناتجة عن انهيار الحكومات القديمة.
في السنوات القليلة الماضية، استطاعت الجماعات المسلحة العابرة للحدود، وناشطي المجتمع المدني، وقراصنة الإنترنت إلحاق العديد من الهزائم بالدول المناوئة لهم، مستفيدين بشكل نسبي من سرعة الاتصال وتبادل المعلومات الذي يوفره الإنترنت.
لقد شهد القرن الحادي والعشرين تصاعد في “صراعات المنطقة الرمادية”، إذ امتزجت الجيوش والسياسات والإعلام معاً، مثل ما حدث في حرب عام ٢٠١٤بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة. نادراً ما تكون صراعات المنطقة الرمادية حروباً بين الدول، وعادة ما تكون عبارة عن ثورات مدنية، أو مواجهات بين الدول والجماعات المسلحة، أو حركات التمرد المحلية.
في ظل هذه البيئة الملتبسة، تلعب حرب المعلومات التي يشنها الأفراد والجماعات الفاعلة على الإنترنت دوراً فعالاً، وخطيراً في بعض الأحيان. ومع فقدان الدول القومية لقدرتها على التحكم في تدفق المعلومات، فإن قدرتها على التحكم في مسارات الصراعات من خلال إدارة الرأي العام العالمي، وحفاظها على سلطتها المحلية، آخذة في التآكل.
أدى التهديد الناتج عن هذا التغير، إلى جانب الآثار السياسية الناتجة عن انتشار المعلومات المضللة، إلى ظهور بعض المنادين بضرورة تنظيم واشتراك شركات التكنولوجيا بشكل أكبر في وضع قيود على ما يُنشر على الإنترنت. وعلى الرغم من ضرورة تنمية الثقافة الإعلامية العامة لدى الجمهور، إلا أن الحنين إلى الزمن التليد التي كانت تسيطر فيه قله من المؤسسات الإعلامية الكبرى على نشر المعلومات، خطأ فادح.
لا نعلم هل هذا الوضع أفضل أم أسوأ إلا أنه بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، ظهرت نسخة من “الحرب العالمية للعصابات”، حرب قائمة على المعلومات تنخرط فيها الدول والجيوش والنشطاء والأشخاص العاديين على السواء. وقد تؤدي عواقب هذه الحرب إلى تحولات في السياسات، والصراعات، وأسلوب الحياة اليومية للأجيال القادمة.