fbpx

النظام الجزائري يجدد نفسه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تتوقف احتجاجات الجزائر بل أصبح المتظاهرون يطالبون برحيل قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح، الذي يمثل السلطة الفعلية الحالية والذي أصبح في نظر الشارع جزءاً من المشكلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الجميع يضغط على المؤسسة العسكرية تملقاً أو تنديداً بنائب وزير الدفاع وقائد أركان الجيش. البعض يطالب هذا الأخير بتطهير دواليب الدولة من بقايا ما سمي “عصابة بوتفليقة”، والبعض الآخر يطالب  برحيله كونه فرداً من العصابة ذاتها. وإن كان الجميع متفقاً على ضرورة مرافقة المؤسسة العسكرية للانتقال السياسي، فهي مصدر السلطة في الجزائر، فلا أحد يثق في الانتخابات التي اقترحتها لحل للأزمة.

المظاهرات مستمرة في الجزائر

تطور خطاب حراك الشعب الجزائري في مواكبته التطورات السياسية الحاصلة منذ تنحية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مطلع شهر نيسان/ أبريل المنصرم. فمن الدعوة إلى تنحية عبد القادر بن صالح الذي خلف بوتفليقة طبقاً لأحكام الدستور القاضية بتولي رئيس الغرفة العليا للبرلمان، رئاسة الدولة، حتى تنظيم انتخابات رئاسية من المزمع عقدها يوم 4 تموز/ يوليو المقبل، ثم الطيب بلعيز رئيس المجلس الدستوري الذي قدم استقالته بفعل ضغط الشارع وحكومة نور الدين بدوي، باعتبارهما محسوبين على الرئيس بوتفليقة، أصبح المتظاهرون يطالبون برحيل قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح، الذي يمثل السلطة الفعلية الحالية والذي أصبح في نظر الشارع جزءاً من المشكلة.

فبعدما كسب أحمد قايد صالح بعضاً من ثقة المتظاهرين بدفعه الرئيس بوتفليقة إلى التنحي من الحكم، أدى تجاهله المطالب الأخرى إلى اعتباره حامياً لـ”العصابة” ورئيسها الحالي. وإذ لم تتحدد آفاق واضحة للانتقال السياسي في الجزائر بعد قرابة 3 أشهر من الحراك، الذي لم يقدم مقترحاً لخارطة طريق من شأنها أن تكون بديلاً لمشروع النظام، يحاول هذا الأخير تجديد نفسه بتخلصه من بعض الوجوه التي ينبذها الشارع. وتدور هذه الأيام حرب ضروس بين عصب النظام، بالموازاة مع الحراك المطالب بتغيير جذري ومحاسبة رموز الحكم الفاسد.

الكل داخل النظام متفق على ضرورة المحافظة عليه، وتدّعي مكوناته وقوفها إلى جانب الشعب في حراكه المطالب بإسقاط هذا النظام، وبناء دولة القانون والديموقراطية إلى درجة تمييع الحراك، تماماً كما وقع غداة الاستقلال عام 1962 واستيلاء الانتهازيين على الثورة التحريرية وتأسيسهم هذا النظام الفاسد، الذي يندد به اليوم الجزائريون الطامحون لبناء دولة. وهو ما لمسناه لدى بعض الشخصيات التاريخية التي ما زالت تواصل نشاطها مع أحفادها. فها نحن نرى واحدة من رموز الثورة التحريرية جميلة بوحيرد تتظاهر كل جمعة وتجالس الطلبة في الشارع كل يوم ثلاثاء في مسيراتهم، وتضع نفسها بينهم وبين قوات الشرطة ولا تتردد في تعنيف عناصرها: “ألا تستحون من ضرب الطلبة”. ويخرج القيادي في الولاية الرابعة التاريخية، المجاهد لخضر بورقعة، والذي سألناه عن سبب خروجه فقال: “لم يتحرك أبناء جيلي ولا الجيل الذي أتى بعدنا. تحرك شباب اليوم فخرجت معهم”.  

في هذا السياق، تحاول الزمرة الملتفة حول قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح والمتحكمة اليوم في زمام السلطة، تمرير أجندة خلال هذه الفترة الانتقالية المفتوحة منذ تنحية الرئيس بوتفليقة من الحكم، فيما تعمل أخرى على التموضع للمحافظة على مصالحها وحصصها من الريع، الذي هو أساس وجودها. على عكس الحراك الشعبي الذي يمكن تلخيص أهدافه في إسقاط حكم الواجهات السياسية المفبركة، إنهاء تسلط شبكات الولاء التي تتصرف خارج الأطر القانونية وتغتصب الحقوق وتمارس الرشوة، إقامة حكم مبني على وسائل قانونية تبسط مناخ الحرية والشرعية واحترام القانون. وهي مطالب يدير الجيش الذي هو العمود الفقري للنظام وصاحب السلطة الفعلية في البلد، ظهره لها منذ الاستقلال. فهي لا تتوافق ومصالح العصب المتناحرة والتي ركبت موجة الحراك وتستعمل عتلات القوة لتجديد النظام القائم.

الطاحونة الحاقدة

اتهم قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح غريمه الجنرال محمد مدين المدعو توفيق، المدير السابق للمخابرات، بالتآمر على الدولة والجيش مع شقيق الرئيس وضباط مخابرات فرنسيين. ونفى توفيق ذلك قبل أن ينذره قايد صالح مرة أخرى، ويهدد بمتابعته أمام القضاء العسكري ثم يزج به في السجن، في انتظار محاكمته بمعية خليفته، على رأس جهاز المخابرات الجنرال عثمان طرطاق وشقيق الرئيس سعيد بوتفليقة. كما استدعي رئيس المجلس الدستوري المستقيل الطيب بلعيز للشهادة وكذلك الأمينة العامة لحزب العمال التروتسكي، التي عرفت بقربها من الجنرال توفيق، للشهادة أمام المحكمة العسكرية، قبل أن توضع بدورها رهن الحبس الاحتياطي، لأسباب لم يعلن عنها ومن المنتظر استدعاء شخصيات أخرى في القضية.   

الجنرال احمد قايد صالح

تحركت العدالة بأمر من قايد صالح ولم تثبط من إرادته الأصوات المنادية باستقلالية القضاء والمنددة بالطريقة الاستعراضية التي تمت بها الاعتقالات وتقديم المتهمين أمام الجهات القضائية، وتم تصويرهم في وضعيات مهينة، بعدما تقلدوا أعلى المراتب وأظهروا غطرسة ما بعدها غطرسة. قيل عن شقيق بوتفليقة إنه الرئيس الفعلي للبلد ونسب أحد إطارات الدولة لرئيس المخابرات السابق، توفيق، عبارة “أنا رب الجزائر” وآمن كثر بقوته، كما جعل رجل الأعمال يسعد ربراب وسائل الإعلام التي تقتات على إشهاره، تقدمه كصناعي صنع نفسه بنفسه وهو صنيعة الجنرال توفيق وثلة من جنوده. كلها أساطير تحطمت بفعل حراك الشعب الجزائري، مؤكدة طبيعة النظام الذي لا يتوانى عن التنكر لرموزه بمجرد الإحساس بخطر يهدد كيانه، وهو ما يتجلى في صراع العصب المكونة له، والذي يحول أجهزة الدولة إلى طاحونة حاقدة لا ترحم.

فعلاً، فبعد إطلاق حملة الأيادي النظيفة التي باشرتها العدالة ضد رموز الفساد، التي طالب المتظاهرون بمحاسبتها وطاولت كثراً من رجال الأعمال والمسؤولين في الدولة، أعيد من خلالها فتح بعض الملفات التي كانت حبيسة أدراج الشرطة القضائية والمحاكم بسبب تنفذ المتهمين فيها من وزراء و ضباط سامين، سارع القضاء العسكري إلى وضع توفيق وبشير وسعيد رهن الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق بتهمتي “التآمر على سلطة الدولة” و”المساس بسلطة الجيش”.  

وإن بدت اعتقالات المتلاعبين بالمال العام متسقة نسبياً مع المعايير القانونية التي على أي عدالة أن تحترمها، أثار حبس القيادية المعروفة لويزة حنون مخاوف لما قد تؤول إليه حالة الحريات السياسية في البلد، ولا تزال مقيدة حتى الآن. نذكر من بين هؤلاء المتابعين من طرف القضاء بتهم فساد، رجل الأعمال علي حداد والاخوة كونيناف المقربين من شقيق الرئيس بوتفليقة، ويسعد ربراب المقرب من الجنرال توفيق، إضافة إلى الجنرالين سعيد باي ولحبيب شنتوف ومدير إقامات الدولة حميد ملزي. ومثل أمام القضاء الوزير الأول السابق أحمد أويحيى ووزير المالية الحالي عضو حكومة تصريف الأعمال المنصبة قبل تنحية بوتفليقة بأيام، والذي كان يشغل منصب محافظ البنك المركزي، وأدار مصرفين عموميين، محمد لوكال، والي الجزائر العاصمة المقال عبد القادر زوخ، الوزير السابق عمارة بن يونس، إضافة إلى آخرين كثر.

مقايضة تغيير المنظومة بمحاكمة الفاسدين

يحاول النظام من خلال هذه الحركات رأب الصدع مقايضاً الحراك الشعبي المطالب بتغيير منظومة الحكم ككل، بتغيير واجهته. وفي حين لم يتمكن الحراك الشعبي من تنظيم نفسه وتقديم ممثلين للتفاوض مع السلطة، تتحدث بعض الشخصيات السياسية والأحزاب المؤسسة العسكرية عن مقترحات تتوافق كلها في نقطة مفادها ضرورة مرافقة هذه المؤسسة للانتقال السياسي، كل بأسلوبه. فهناك من يشيد بها متملقاً وهناك من يندد بدورها السابق في فبركة الرؤساء والحكومات وصناعة الفشل، ويؤكد ضرورة تحييدها عن السياسة، بعد أن تشرف على الفترة الانتقالية. مقترحات تعطي دوراً أساسياً للجيش وتعطي انطباعاً بأنها مناورات لامتطاء الدبابة للوصول إلى الحكم.

اعتبر رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش أن “تدخل الجيش في التجاذبات السياسية قد يطمس علاقته مع المجتمع ويهدد مفاصله وتنظيمه، لأنه يجبر عناصره بخاصة الضباط على  التمسك بإيديولوجيات ويصبح بذلك جزءاً من الصراعات الداخلية”. وأضاف علي بن فليس متزلفاً وهو أيضاً رئيس حكومة سابق، أن “المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الوحيدة التي لم تتزعزع ثقة الشعب فيها”، مؤكداً بلغة الخشب المعهودة في خطاباته أن: “المنتظر منها ليس متابعة البحث عن مخرج وحسب، بل المساهمة في تسهيل الوصول إليه”.

ودعا عبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم (إخوان الجزائر)، المؤسسة إلى “مرافقة مرحلة انتقالية لا تتجاوز ستة أشهر تقودها، على حد قوله، شخصية يقبلها الشارع”، مشيراً إلى أن “على الجيش العدول عن التمسك بتنظيم الانتخابات الرئاسية في 4 تموز”. في المقابل، شكك الحقوقي والنائب عن جبهة القوى الاشتراكية سابقاً، مصطفى بوشاشي، في نية قيادة الجيش، سائلاً عن دعوته إلى الحوار: “مع من؟ كيف؟ ولماذا؟” وصرح قائلاً: “مطالب الشعب واضحة وهي رحيل النظام برموزه والحوار مع أحد هذه الأطراف مرفوض شعبياً، فصدقية أزلام النظام مفقودة ولا يمكن الاطمئنان لهم لمباشرة بمرحلة انتقالية”.

وإذ يفهم من كلام بوشاشي أن لا حوار حتى مع قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح الذي هو أحد رموز نظام بوتفليقة وبالتالي لا يمكن الحوار مع المؤسسة العسكرية وهو على رأسها، قال سعيد سعدي الرئيس الأسبق لحزب “التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية” إن “دعوة قايد صالح للحوار تفتقد للوضوح، إذ يجند كل أسبوع وحداته لمحاصرة العاصمة لمنع مواطني المدن الداخلية من ملاقاة قاطني العاصمة”. وحذر من مغبة تنظيم الانتخابات في موعدها المزمع في ظل الأحكام الدستورية فهذا يعني بحسبه “إعادة تمرير النظام الذي قادنا نحو المأزق”. وعلق على حملة الأيادي النظيفة التي يشنها النظام بقيادة أحمد قايد صالح قائلاً: “إن كوميديا مكافحة الفساد ما هي إلا ملهاة عن مطلب التغيير وتبرير للاستحواذ على الحكم. وهذا ما يجعل من الهوة تتعمق بين قيادة الأركان والحراك إذا لم يسارع إلى وضع حل سياسي”.

ونصح أحمد بن بيتور، رئيس الحكومة الأسبق بالإسراع في التفاوض على حل توافقي. “المؤسسة العسكرية تسير خطوة بخطوة لكن وجب على المسؤولين فيها أن يفهموا أنه كلما طال عمر المسار الانتقالي، زاد سقف المطالب وصعب حل الأزمة”.

في كل الأحوال، ما يحذر منه بن بيتور هو في نظر القيادات العسكرية ربح للوقت – أو هو يبدو كذلك – يكفيها شر الاتهام بالانقلاب على المؤسسات المدنية في انتظار نضج حل آخر تكون فيه هي الفاعل الأساسي. فإلى حين يصبح الخروج عن الدستور أمراً واقعاً، وجب التعامل معه –لأنه يستحيل إجراء الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في 4 تموز المقبل، في الظروف الراهنة نظراً إلى رفض الشارع تنظيمها من طرف الإدارة الحالية، التي تأتمر بأوامر رموز نظام بوتفليقة وعزوف المرشحين من ذوي الوزن السياسي–، يتجدد النظام في سبيل مرحلة انتقالية يريد القائمون عليها وعلى رأسهم قائد أركان الجيش أن يقودوها من موقع قوة، للمحافظة على سلطة المؤسسة العسكرية في جزائر ما بعد بوتفليقة.

فهل سيتجاوز الحراك المتواصل للأسبوع الثالث عشر على التوالي هذا المأزق ويتمكن من ترجيح ميزان القوة لمصلحة تغيير منظومة الحكم؟

الجزائر : سقوط قائد وانتهاء عهد ما بعد الاستعمار