fbpx

الخروج من الجنّة تحت جنح ظلام دمشق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتابع الكاتب السوري وائل السوّاح سرديته عن تاريخ اليسار الجديد أواخر السبعينات من خلال استرجاع ما يشبه سيرة ذاتية لهذا اليسار…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يتابع الكاتب السوري وائل السوّاح سرديته عن تاريخ اليسار الجديد أواخر السبعينات من خلال استرجاع ما يشبه سيرة ذاتية لهذا اليسار.

حياة التخفّي مختلفة في كلّ شيء تقريباً عن حياتك العادية. فأنت موجود وغير موجود. تسكن بيتاً لا يعرفه أحد سواك، أو تعرفه قلّة من رفاقك الثقات وحسب، وتغيّر قليلاً أو كثيراً من شكلك وملابسك، ولا تتردّد على الأماكن التي كنت تتردّد عليها قبل التخفّي، ويشمل ذلك بيت أهلك وبيوت أصدقائك وأقاربك جميعاً. تلتقي بحبيبتك أو زوجتك خلسة في الحدائق العامة أو في بيوت أصدقاء أو تتراسلان عبر أوراق صغيرة يهربها لك رفاق آخرون. تعيش في حال من فقدان التوازن النفسي وعدم الانتماء وحاجة دائمة إلى الألفية القديمة التي كنت تستشعرها مع أهلك وأصدقائك، في بيتك ومقهاك اليومي وخمّارتك المفضّلة.

ومع ذلك لم يكن التخفّي بالنسبة إلي بمثل القسوة التي عانى منها معظم المتخفّين من الرابطة وسواها من القوى السياسية الأخرى. فأنا لم أتقيد كثيراً بلوائح التعليمات الصارمة التي كان التنظيم يفرضها على أعضائه، وكنت دائما أفاجِئ أصدقائي المجتمعين في سهرة أو حفل عيد ميلاد وأنا أطرق الباب عليهم، وأدخل لأشاركهم ما يحتفلون به. ولم يكن الرفاق في لجنة العمل يحبّون ذلك.

أول بيت سكنته بعد التخفّي كان في بلدة دمّر القريبة من دمشق، التي كانت وقتذاك بعيدة من المدينة، ولم تكن الضاحية التي ستزدهر بعد ذلك بعقد أو عقدين قد وجدت بعد. لم أعد أدري كيف عثرنا عليه ولكنّه كان بيتاً ساحراً، بيتاً عربياً من طبقتين. سكن صاحب البيت في الطبقة العلوية، وأجّرنا الطبقة الأرضية، وهي غرفتان متلاصقتان يفصل بينهما باب ومطبخ صغير وحمام وحوش عربي. انفرد بيتنا عن العمار قليلاً. تسير خطوات قليلة فقط خارج باب الدار لتجد نفسك عند جدول ماء صغير، يجري كنهير فاتن ليسقي الأرض المحيطة. حين يكون الجو صحواً، سآخذ كتاباً وكوباً كبيراً من الشاي، وأجلس عند حافة النهر، أقرأ وأصغي إلى السكون العميق الذي كان يحيط بي بجلال وحكمة.

شاركني البيت ثلاثة رفاق ممن انضمّوا معي إلى الهيئة المركزية: علي الكردي وكامل عبّاس وأحمد رزق. كان علي الكردي أحد معلميّ وناصحيّ في مسائل التنظيم، وقد كان مسؤولي في أوّل خلية حزبية ضمتني ونصّار يحيى. يتمتّع علي بقدرة عجيبة على التواصل مع الآخرين وبصبر وأناة شديدين، وابتسامة آسرة، نادراً ما تفارق وجهه، ولكنك لا تريد فعلاً أن تستفزّه، فهو إن وصلت الأمور عنده إلى غايتها انفجر في غضب شديد بلهجته الفلسطينية المحبّبة، وإن كان ذلك نادراً جداً، ليس معي في أي حال. لن يطيل عليّ البقاء بيننا؛ سيعتقل في شهر آب/ أغسطس 1979 لبضعة أشهر، ليخرج مع بقية الرفاق في شباط/ فبراير التالي. ولكن الأمن السوري لن يتركه، سيضغط عليه لكي يتعامل معهم، وسيرفض بالطبع، فيعيدون اعتقاله في ربيع 1982 لتسع سنوات، ثمّ سيعاد توقيفه لشهر واحد في 1995 في أسوأ فروع المخابرات: الجوية. لا الاعتقال ولا التعذيب ولا الحرمان سيجعل الابتسامة الهادئة اللطيفة تختفي من عيني الفلسطيني النبيل الذي حمل سوريا في قلبه إلى أن اضطر لمغادرتها وعائلته إلى مدينة فايمار في ألمانيا، المدينة التي عاش فيها يوهان جوتة وفريدريش شيلر وفريدريش نيتشه والمعماري البلجيكي هنري فان دي فيلده مؤسس طراز الباوهاوس.

كان كامل عباس أكبرنا عمراً وأكثرنا خبرة وثقافة. تخرّج من كلية العلوم وعمل مدرسا للمادّة في مدارس اللاذقية قبل أن تضطرّه حملة الاعتقالات إلى التخفّي في آذار 1977. غير أنه لم ينسَ العلوم مطلقاً، ففي كلّ نقاشاته كان يستند إلى تحليل علمي منطقي وتسلسل للأمور، يبدأ دوماً من العام إلى الخاص، من الصورة الكبيرة إلى التفصيل الجزئي. كان لطيفاً، كريماً، إنما شديد الحساسية، ورافقته حساسيته حتى يومنا الراهن، وهو يقود اليوم تنظيم إعلان دمشق في اللاذقية، من دون أن يخفي خلافه مع المركز في دمشق. سيعتقل كامل 9 سنوات، ومثلنا جميعاً سيتعرّض لتحولات سياسية وفكرية عميقة، وحين سيخرج، سترفض السلطة إعادته إلى عمله كمدرّس كما أعادت معظم من كانوا موظفين قبل الاعتقال.

ثالث الثلاثة كان شاباً غضّاً فاتح البشرة بعينين عسليتين طيّبتين، جاء من مدينة سلمية، حيث الجميع مسيّسون ومثقّفون وشعراء. كان يدرس الطبّ في جامعة دمشق، ويحاول أن يتعلّم الحياة في رابطة العمل. كان يقرأ كثيراً، ويناقش كثيراً. وبينما كنت أنسى نصف ما أقرأه بعد ساعات، كان أحمد يخزّن المعرفة ويستخدمها دائماً عند الضرورة. لم أره يوم غاضباً، وعلى رغم أنه كان أصغرنا سنّاً، فقد كان دوماً قادراً على استيعاب خلافاتنا الصغيرة. في السجن، سيلعب الدور نفسه، وحين يفشل سينكفئ على ذاته مع كتاب أو جريدة. وبينما رأيت الجميع بدون استثناء في حالة غضب وعنف لفظي أو جسدي، كان أحمد الوحيد الذي لم أره غاضباً أو منفعلاً. كان طيّب السريرة، طيّب الحديث، وطيّب الحضور. حين خرجنا من السجن، تابع دراسته وتخرّج طبيباً، وفتح عيادة في قرية قرب مدينته، سلمية، ثمّ اختفى عن الرادار، لا “تويتر” ولا “فيسبوك” ولا “إنستغرام”، ولا حتّى “إيميل”: فشلت كلّ محاولاتي في التواصل معه، وبقيت منه ذكرى جميلة: فتى وسيم يداعب بإبهامه وسبابته شاربه الأيسر وهو يصغي إلى النقاش بصبر وأناة قبل أن يدلي في الحديث بدلوه.

حين تبتعد من الحدث 40 سنة، تبدو تلك الأحداث صغيرة كأنك تنظر إليها من أعلى برج شاهق، ويحلو لي اليوم أن أشبّه بعض تصرفاتنا بلعبة “الضيفة والضيوف”، التي كنا نلعبها في طفولتنا فنمثّل دور صاحب البيت ودور الضيف. إضافة إلى عضويتنا في الهيئة المركزية، كنت مع عليّ نشكّل اللجنة المنطقية لدمشق، فكنا ننعزل عن أحمد وكامل في الغرفة الداخلية لنقرأ رسائل الخلايا وتقاريرها ونردّ عليها. أشعر الآن بالخجل لذلك الشعور بالخيلاء الداخلي الذي كان يجتاح جسدي كالنمل ونحن نعتزل الرفيقين الآخرين، فكأننا نقول لهما إننا نعلم ما لا يعلمانه، أو حين تصلنا رسالة من فادية أو حنان حسيبة، فأكتب الردّ بخطّي الذي يعرفنه جميعاً، ثم نتصرّف، إذ نلتقي بعد ذاك، كأننا لم نتراسل في الأمس أو اليوم الذي قبله.

كان صاحب البيت من دمّر نفسها، يعمل موظّفاً صغيراً في مطار دمشق، لطيفاً، دائم الابتسام، كثير المجاملة، بينما كانت زوجته الحامل أقرب إلى الصرامة والجدّ، وقد بدا واضحاً منذ اليوم الأول أن الزوجة هي من يتخذ القرارات، فرحنا نتودّد إليها، لنكسب عطفها.

وكانت المواصلات بين دمشق ودمّر قليلة: مجموعة من “الميكروباصات” التي تزحف من جسر فيكتوريا إلى البناء الذي مكث فيه لسنوات المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث كنت أتوقف فيه أحياناً لدقائق لأسلّم على فوّاز الساجر أو أشرب الشاي مع جمال سليمان أو عبد الحكيم قطيفان. كانت الرحلة بين المدينة والقرية تستغرق نحو 20 دقيقة من الجمال قاطعة منطقة الربوة التي تفصل بين المدينة والضاحية، على امتداد نهر بردى الذي كان لا يزال الماء يجري فيه آنذاك. تركت البيت مرّة في طريقي إلى موعد حزبي، وفي جيبي رسالة إلى الخلية المعنية، مطوية كالعادة وملصقة بلاصق شفّاف، كتب تحته اسم الخلية. نزلت الطريق الملتوية من أعلى دمّر إلى السكّة الرئيسية لأستقلّ الميكرو باص، وحين وصلت إلى السكّة غاب فجأة كلّ شيء عن ناظري. أذكر أنني استفقت في سيّارة “سيدان” صغيرة، وفيها ثلاثة شباب يافعون. كأن أحدهم يقود السيارة والآخران ينظران إليّ بما يشبه القلق.

“الحمد لله على سلامتك” قال أحدهم.

“وين أنا؟ شو صار معي؟” سألت وأنا أستعيد وعيي تدريجياً من هؤلاء؟ ولم أنا معهم؟

“ضربتك سيّارة وهربت. نحن ننقلك إلى المستشفى”.

أصبت بهلع شديد. المستشفى يعني سؤال عن الهوية وتحقيق شرطة ومعرفة من أنا. رفعت رأسي بسرعة وقلت: “لا. لا ضرورة للمستشفى.” تذكّرت الرسالة، فمددت يدي ببطء وحذر أتحسّس جيب بنطال الجينز الذي كنت أرتديه. كانت الرسالة تستقر هناك، بأمان ودعة. وكأن الشباب أحسّوا براحة وفرج يأتيانهم منّي، فهم أيضا لا يريدون سؤالاً وجواباً، وتحقيقاً. وسألني أحدهم لرفع العتب فقط: “ليش؟”.

“ما في ضرورة. عن جد. أنا منيح. “قلت بسرعة، وأثبتت أنني بخير بأن جلست في مضجعي في السيارة. وكرّرت: “أنا منيح. قليل من الصداع فقط. حبة أسبرين ستكفي. أنزلوني عند أي صيدلية من فضلكم”. وشعرت بالامتنان أولاً، لأن الثلاثة ليسوا رجال أمن، ولأن الرسالة لا تزال في جيبي سليمة، ولأن الشباب (وربّما هم من ضربوني بالسيارة)، اقتنعوا بسهولة ألا يأخذوني إلى المستشفى، وأنزلوني عند أقرب صيدلية، ابتسموا في وجهي. قال قائلهم: “معافى!” وشكرته بابتسامة ضعيفة، وترجّلت. اشتريت علبة أسبرين من الصيدلية وابتعلت حبتين من دون ماء، وخرجت. بيد أن الأسبرين لم يجدِ. سأعرف حين أسافر إلى بيت أختي في حماة للاستشفاء من الطبيب صديق العائلة، أنني مصاب بارتجاج في الدماغ وأنني سأحتاج إلى أسابيع لأتعافى ربما. وفي لجنة العمل، كانوا يتساءلون: أكان ذلك حادثاً مفتعلاً؟ العميد، بعقليته الأمنية، كان يعتقد أن كلّ أمر مدبّر وأن رجال الأمن كانوا وراء الحادثة. قال لي ذلك حين عدت إلى دمشق. ابتسمت في وجهه، وقلت: “سوريا ليست تشيلي، يا رفيق!” كان علينا أن ننتظر سنوات لتصل سوريا إلى حالة من التردي تتفوّق فيها على تشيلي والأرجنتين وكلّ الدول الدكتاتورية في المعمورة.

كانت الرحلة بين المدينة والقرية تستغرق نحو 20 دقيقة من الجمال قاطعة منطقة الربوة التي تفصل بين المدينة والضاحية، على امتداد نهر بردى الذي كان لا يزال الماء يجري فيه آنذاك.

حين عدت إلى البيت، زارنا صاحب البيت للاطمئنان، باشّاً مستبشراً.

“سلامتك، شغلتنا عليك”، قال لي وهو يبتسم، كأنه يريد أن يقول شيئاً. وما أن سألته عن حال زوجته حتى سارع للقول بفرح:

“ولدت. جابت بنت. سميناها سلافة”.

في ليلة الأول من شباط 1979، أقلعت طائرة تابعة لشركة “إير فرانس” من مطار رْوَاسي في ضواحي باريس متوجّهة إلى طهران، في رحلة خاصة. على متنها كان الرجل الذي كان العالم باسره يحتفي به باعتباره مؤسس الديموقراطية الجديدة في إيران: آية الله الخميني. كان شاه إيران غادر طهران قبل أيام، واحتفل اليسار العالمي والليبراليون والديمقراطيون ودعاة حقوق الإنسان بالعجوز الذي كان يعود وفي جيبه 19 مبدأ وعد بتحقيقها، بما في ذلك الاستقلال والحرية والديموقراطية وحرية المعتقد والسيادة الشعبية وحقوق الإنسان وفصل المؤسسات الدينية عن الدولة. حفنة قليلة من اليساريين كانوا ينظرون بريبة إلى كل ما يحدث. من هذه القلّة كانت هيئة تحرير الراية الحمراء التي عقدت اجتماعاتها في بيتنا بدمّر لمناقشة راي الرابطة. ليس لديّ الكثير عموماً لأتباهى به، ولكن من بين قلائل، كان لديّ موقفي من الثورة الإيرانية والافتتاحية النارية التي كتبتها في شباط 1979، وقلت فيها بوضوح إن هيمنة رجال الدين على الثورة سوف تعيد إيران إلى القرون الوسطى، وربطتُ بين هيمنة الدين على الدولة والفاشية، وتوقّعتُ أن الخميني لن يتباطأ في التنكّر لكلّ وعوده حال تمكّنه من الحكم في طهران. لم تعد إيران إلى القرون الوسطى وهي اليوم تطوّر أسلحة نووية، ولكنها تحوّلت على ما هو أسوأ. وبغض الطرف عن تقييمنا اليوم لظاهرة رابطة العمل الشيوعي ومظاهر الطفولة اليسارية والسذاجة السياسية التي كانت تسيطر عليها، فسأظل دوماً أحترم ما يشبه الإشراقات السياسية في مواقفها الخارجية، ومنها موقفها من سرقة الملالي لثورة النساء والرجال الإيرانيين. أثار موقفنا من الخميني انتقادات كثيرة بين اليساريين السوريين، وقال لي أحمد جمّول حين التقيته في بيروت: “اسمع يا وائل: شحاطة الخميني تساوي أكبر حزب شيوعي اليوم”.

ثمّ جاء نيسان/ أبريل. انفجرت شقائق النعمان حول بيتنا بفجور فاتن. كنت أسير على حافة النهر الصغير خارج بيتنا، أتأمل الفتنة من حولي، وأفكر في أبيات إليوت في قصيدة الأرض الخراب:

نيسان أقسى الشهور، يُخرج

الليلكَ من الأرض الموات، يمزج

الذكرى بالرغبة، يحرك

خامل الجذور بغيث الربيع

“وائل!” صاح بي علي. في صوته رجفة تشي بقلق وخوف وغضب. “في اعتقالات جديدة في اللاذقية.”

وبدأت حملة جديدة من الاعتقالات ضدّ التنظيم. كان النظام بدأ يشعر بالحقد على التنظيم، لأنه الوحيد الذي لم يُقضَ عليه في الحملات السابقة، بينما انتهت كلّ التنظيمات اليسارية الصغيرة الأخرى التي ظهرت مع الرابطة في السبعينات. ومن جديد بدأت رحلة انتقال أخرى، وانتشرنا في المدينة نحاول الاتصال بالرفاق لتنبيه.. هم ولحساب الخسائر في الجسد الذي بدأ ينهك ويرهق.

إقرأ أيضاً: حكاية بلا بداية: انزياح اليسار السوري 

وفي البيت نفسه، وصلني نبأ اعتقال صديقي جبرائيل غربي، جبرا. أرسله الرفاق في رحلة غير ضرورية إلى اللاذقية، يحمل رسالة لا يعرف مضمونها. وصل جبرا إلى موعده، ولكن بدل الرفيق الذي كان من المتوقع أن يستقبله، كان ثمّة شاب آخر يحمل علامات الأمان نفسها. اقترب منه وأعطاه كلمة التعارف. بسرعة البرق، طارت إليهما سيارة الأمن، فاحتوت جبرا في جوفها وأخفته حتى شباط 1980.

كان النظام بدأ يشعر بالحقد على التنظيم، لأنه الوحيد الذي لم يُقضَ عليه في الحملات السابقة، بينما انتهت كلّ التنظيمات اليسارية الصغيرة الأخرى التي ظهرت مع الرابطة في السبعينات.

كان الخبر شديد الوطأة. لم يكن جبرا رفيقاً آخر، كان صديقي الذي أحكي له هواجسي وأشكو له ضعفي وأغني معه “بيتي أنا بيتك، ما إلي حدا، من كتر ما نديتك، وسع المدى!”.

أما نحن فكان علينا أن نتهجّر من جديد وأن نترك البيت الوادع. كان خروجي من البيت يشبه خروج آدم من الجنّة. وحتى اليوم، سكنت في بيوت لم أعد أذكر عددها، ولكن لا بيت منها يداني في الجمال والوداعة والهناء والأمان، بيتَ دمّر. بعد أشهر سيعتقل عليّ أيضاً، على رغم حسّه الأمني العالي عادة، اصطحب رفيقاً إلى مقهى اللاتيرنا وسط دمشق. سيلاحظ وجود شخص كان يتردّد على كلية الفنون الجميلة، ويُشكّ بأنه مخبر. لم يسعفه حسّه الأمني في المبادرة للمغادرة. كان النادل يضع أمامها كأسي بيرة مثلّجة، مغرية كتفاحة آدم، رفعها وغبّ أوّل جرعة منها. قبل أن يضعها كان تركي علم الدين بجانبه ومعه ثلّة من العناصر:

“أهلين أستاذ علي”

“مين علي؟” قال علي بسذاجة، وقد أخذ على حين غرّة.

“تعال معنا ولا تتذاكَ”.

إقرأ أيضاً: اليسار السوري بين العفيف الأخضر وجورج طرابيشي

قيّده العاصر ورفيقه، وساقوهما خارج المقهى. كانت المداخل والأزقّة المؤدية إلى المقهى مغلقة من كل الجهات، وقد انتشر فيها المسلحون بكثافة. وعلي المتواضع الجميل سأل نفسه: “أأنا بهذه الأهمية ولا أعرف أهمية نفسي؟”.

كيلا يعترف على بيت المركزية، اعترف على بيت دمّر. شكّل تركي علم الدين دورية وأخذ عليّاً بعد منتصف الليل. راحا يقرعون الجرس ويطرقون الباب بهمجية، وصاحت أم سلافة: “شو بدكن؟ أنا مرا لوحدي. روحوا جيبوا المختار”. راح العسكر يمطرونها بالشتائم، حتى تدخل عليّ:

“أم سلافة، أنا رياض (الاسم الذي كان يستخدمه). كنت ساكن بالبيت مع رفقاتي. لا تخافي ما في شي: بدن يسألوك كم سؤال”.

فهدأت المرأة وفتحت الباب، ودخل الأوباش. ودخلت معهم، ولم يستطع عليّ رغم قساوة الحال سوى أن يبتسم لرؤية أبو سلافة مختبئاً وراء زوجته. كانت تلك ربما آخر ابتسامة له أثناء التحقيق، فتركي علم الدين الذي أحس بالإهانة لم يغفر له أنه لم يسلّم أحداً.

في خمّارة اليسار الدمشقية مع علي الجندي وممدوح عدوان

31.05.2019
زمن القراءة: 10 minutes

يتابع الكاتب السوري وائل السوّاح سرديته عن تاريخ اليسار الجديد أواخر السبعينات من خلال استرجاع ما يشبه سيرة ذاتية لهذا اليسار…

يتابع الكاتب السوري وائل السوّاح سرديته عن تاريخ اليسار الجديد أواخر السبعينات من خلال استرجاع ما يشبه سيرة ذاتية لهذا اليسار.

حياة التخفّي مختلفة في كلّ شيء تقريباً عن حياتك العادية. فأنت موجود وغير موجود. تسكن بيتاً لا يعرفه أحد سواك، أو تعرفه قلّة من رفاقك الثقات وحسب، وتغيّر قليلاً أو كثيراً من شكلك وملابسك، ولا تتردّد على الأماكن التي كنت تتردّد عليها قبل التخفّي، ويشمل ذلك بيت أهلك وبيوت أصدقائك وأقاربك جميعاً. تلتقي بحبيبتك أو زوجتك خلسة في الحدائق العامة أو في بيوت أصدقاء أو تتراسلان عبر أوراق صغيرة يهربها لك رفاق آخرون. تعيش في حال من فقدان التوازن النفسي وعدم الانتماء وحاجة دائمة إلى الألفية القديمة التي كنت تستشعرها مع أهلك وأصدقائك، في بيتك ومقهاك اليومي وخمّارتك المفضّلة.

ومع ذلك لم يكن التخفّي بالنسبة إلي بمثل القسوة التي عانى منها معظم المتخفّين من الرابطة وسواها من القوى السياسية الأخرى. فأنا لم أتقيد كثيراً بلوائح التعليمات الصارمة التي كان التنظيم يفرضها على أعضائه، وكنت دائما أفاجِئ أصدقائي المجتمعين في سهرة أو حفل عيد ميلاد وأنا أطرق الباب عليهم، وأدخل لأشاركهم ما يحتفلون به. ولم يكن الرفاق في لجنة العمل يحبّون ذلك.

أول بيت سكنته بعد التخفّي كان في بلدة دمّر القريبة من دمشق، التي كانت وقتذاك بعيدة من المدينة، ولم تكن الضاحية التي ستزدهر بعد ذلك بعقد أو عقدين قد وجدت بعد. لم أعد أدري كيف عثرنا عليه ولكنّه كان بيتاً ساحراً، بيتاً عربياً من طبقتين. سكن صاحب البيت في الطبقة العلوية، وأجّرنا الطبقة الأرضية، وهي غرفتان متلاصقتان يفصل بينهما باب ومطبخ صغير وحمام وحوش عربي. انفرد بيتنا عن العمار قليلاً. تسير خطوات قليلة فقط خارج باب الدار لتجد نفسك عند جدول ماء صغير، يجري كنهير فاتن ليسقي الأرض المحيطة. حين يكون الجو صحواً، سآخذ كتاباً وكوباً كبيراً من الشاي، وأجلس عند حافة النهر، أقرأ وأصغي إلى السكون العميق الذي كان يحيط بي بجلال وحكمة.

شاركني البيت ثلاثة رفاق ممن انضمّوا معي إلى الهيئة المركزية: علي الكردي وكامل عبّاس وأحمد رزق. كان علي الكردي أحد معلميّ وناصحيّ في مسائل التنظيم، وقد كان مسؤولي في أوّل خلية حزبية ضمتني ونصّار يحيى. يتمتّع علي بقدرة عجيبة على التواصل مع الآخرين وبصبر وأناة شديدين، وابتسامة آسرة، نادراً ما تفارق وجهه، ولكنك لا تريد فعلاً أن تستفزّه، فهو إن وصلت الأمور عنده إلى غايتها انفجر في غضب شديد بلهجته الفلسطينية المحبّبة، وإن كان ذلك نادراً جداً، ليس معي في أي حال. لن يطيل عليّ البقاء بيننا؛ سيعتقل في شهر آب/ أغسطس 1979 لبضعة أشهر، ليخرج مع بقية الرفاق في شباط/ فبراير التالي. ولكن الأمن السوري لن يتركه، سيضغط عليه لكي يتعامل معهم، وسيرفض بالطبع، فيعيدون اعتقاله في ربيع 1982 لتسع سنوات، ثمّ سيعاد توقيفه لشهر واحد في 1995 في أسوأ فروع المخابرات: الجوية. لا الاعتقال ولا التعذيب ولا الحرمان سيجعل الابتسامة الهادئة اللطيفة تختفي من عيني الفلسطيني النبيل الذي حمل سوريا في قلبه إلى أن اضطر لمغادرتها وعائلته إلى مدينة فايمار في ألمانيا، المدينة التي عاش فيها يوهان جوتة وفريدريش شيلر وفريدريش نيتشه والمعماري البلجيكي هنري فان دي فيلده مؤسس طراز الباوهاوس.

كان كامل عباس أكبرنا عمراً وأكثرنا خبرة وثقافة. تخرّج من كلية العلوم وعمل مدرسا للمادّة في مدارس اللاذقية قبل أن تضطرّه حملة الاعتقالات إلى التخفّي في آذار 1977. غير أنه لم ينسَ العلوم مطلقاً، ففي كلّ نقاشاته كان يستند إلى تحليل علمي منطقي وتسلسل للأمور، يبدأ دوماً من العام إلى الخاص، من الصورة الكبيرة إلى التفصيل الجزئي. كان لطيفاً، كريماً، إنما شديد الحساسية، ورافقته حساسيته حتى يومنا الراهن، وهو يقود اليوم تنظيم إعلان دمشق في اللاذقية، من دون أن يخفي خلافه مع المركز في دمشق. سيعتقل كامل 9 سنوات، ومثلنا جميعاً سيتعرّض لتحولات سياسية وفكرية عميقة، وحين سيخرج، سترفض السلطة إعادته إلى عمله كمدرّس كما أعادت معظم من كانوا موظفين قبل الاعتقال.

ثالث الثلاثة كان شاباً غضّاً فاتح البشرة بعينين عسليتين طيّبتين، جاء من مدينة سلمية، حيث الجميع مسيّسون ومثقّفون وشعراء. كان يدرس الطبّ في جامعة دمشق، ويحاول أن يتعلّم الحياة في رابطة العمل. كان يقرأ كثيراً، ويناقش كثيراً. وبينما كنت أنسى نصف ما أقرأه بعد ساعات، كان أحمد يخزّن المعرفة ويستخدمها دائماً عند الضرورة. لم أره يوم غاضباً، وعلى رغم أنه كان أصغرنا سنّاً، فقد كان دوماً قادراً على استيعاب خلافاتنا الصغيرة. في السجن، سيلعب الدور نفسه، وحين يفشل سينكفئ على ذاته مع كتاب أو جريدة. وبينما رأيت الجميع بدون استثناء في حالة غضب وعنف لفظي أو جسدي، كان أحمد الوحيد الذي لم أره غاضباً أو منفعلاً. كان طيّب السريرة، طيّب الحديث، وطيّب الحضور. حين خرجنا من السجن، تابع دراسته وتخرّج طبيباً، وفتح عيادة في قرية قرب مدينته، سلمية، ثمّ اختفى عن الرادار، لا “تويتر” ولا “فيسبوك” ولا “إنستغرام”، ولا حتّى “إيميل”: فشلت كلّ محاولاتي في التواصل معه، وبقيت منه ذكرى جميلة: فتى وسيم يداعب بإبهامه وسبابته شاربه الأيسر وهو يصغي إلى النقاش بصبر وأناة قبل أن يدلي في الحديث بدلوه.

حين تبتعد من الحدث 40 سنة، تبدو تلك الأحداث صغيرة كأنك تنظر إليها من أعلى برج شاهق، ويحلو لي اليوم أن أشبّه بعض تصرفاتنا بلعبة “الضيفة والضيوف”، التي كنا نلعبها في طفولتنا فنمثّل دور صاحب البيت ودور الضيف. إضافة إلى عضويتنا في الهيئة المركزية، كنت مع عليّ نشكّل اللجنة المنطقية لدمشق، فكنا ننعزل عن أحمد وكامل في الغرفة الداخلية لنقرأ رسائل الخلايا وتقاريرها ونردّ عليها. أشعر الآن بالخجل لذلك الشعور بالخيلاء الداخلي الذي كان يجتاح جسدي كالنمل ونحن نعتزل الرفيقين الآخرين، فكأننا نقول لهما إننا نعلم ما لا يعلمانه، أو حين تصلنا رسالة من فادية أو حنان حسيبة، فأكتب الردّ بخطّي الذي يعرفنه جميعاً، ثم نتصرّف، إذ نلتقي بعد ذاك، كأننا لم نتراسل في الأمس أو اليوم الذي قبله.

كان صاحب البيت من دمّر نفسها، يعمل موظّفاً صغيراً في مطار دمشق، لطيفاً، دائم الابتسام، كثير المجاملة، بينما كانت زوجته الحامل أقرب إلى الصرامة والجدّ، وقد بدا واضحاً منذ اليوم الأول أن الزوجة هي من يتخذ القرارات، فرحنا نتودّد إليها، لنكسب عطفها.

وكانت المواصلات بين دمشق ودمّر قليلة: مجموعة من “الميكروباصات” التي تزحف من جسر فيكتوريا إلى البناء الذي مكث فيه لسنوات المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث كنت أتوقف فيه أحياناً لدقائق لأسلّم على فوّاز الساجر أو أشرب الشاي مع جمال سليمان أو عبد الحكيم قطيفان. كانت الرحلة بين المدينة والقرية تستغرق نحو 20 دقيقة من الجمال قاطعة منطقة الربوة التي تفصل بين المدينة والضاحية، على امتداد نهر بردى الذي كان لا يزال الماء يجري فيه آنذاك. تركت البيت مرّة في طريقي إلى موعد حزبي، وفي جيبي رسالة إلى الخلية المعنية، مطوية كالعادة وملصقة بلاصق شفّاف، كتب تحته اسم الخلية. نزلت الطريق الملتوية من أعلى دمّر إلى السكّة الرئيسية لأستقلّ الميكرو باص، وحين وصلت إلى السكّة غاب فجأة كلّ شيء عن ناظري. أذكر أنني استفقت في سيّارة “سيدان” صغيرة، وفيها ثلاثة شباب يافعون. كأن أحدهم يقود السيارة والآخران ينظران إليّ بما يشبه القلق.

“الحمد لله على سلامتك” قال أحدهم.

“وين أنا؟ شو صار معي؟” سألت وأنا أستعيد وعيي تدريجياً من هؤلاء؟ ولم أنا معهم؟

“ضربتك سيّارة وهربت. نحن ننقلك إلى المستشفى”.

أصبت بهلع شديد. المستشفى يعني سؤال عن الهوية وتحقيق شرطة ومعرفة من أنا. رفعت رأسي بسرعة وقلت: “لا. لا ضرورة للمستشفى.” تذكّرت الرسالة، فمددت يدي ببطء وحذر أتحسّس جيب بنطال الجينز الذي كنت أرتديه. كانت الرسالة تستقر هناك، بأمان ودعة. وكأن الشباب أحسّوا براحة وفرج يأتيانهم منّي، فهم أيضا لا يريدون سؤالاً وجواباً، وتحقيقاً. وسألني أحدهم لرفع العتب فقط: “ليش؟”.

“ما في ضرورة. عن جد. أنا منيح. “قلت بسرعة، وأثبتت أنني بخير بأن جلست في مضجعي في السيارة. وكرّرت: “أنا منيح. قليل من الصداع فقط. حبة أسبرين ستكفي. أنزلوني عند أي صيدلية من فضلكم”. وشعرت بالامتنان أولاً، لأن الثلاثة ليسوا رجال أمن، ولأن الرسالة لا تزال في جيبي سليمة، ولأن الشباب (وربّما هم من ضربوني بالسيارة)، اقتنعوا بسهولة ألا يأخذوني إلى المستشفى، وأنزلوني عند أقرب صيدلية، ابتسموا في وجهي. قال قائلهم: “معافى!” وشكرته بابتسامة ضعيفة، وترجّلت. اشتريت علبة أسبرين من الصيدلية وابتعلت حبتين من دون ماء، وخرجت. بيد أن الأسبرين لم يجدِ. سأعرف حين أسافر إلى بيت أختي في حماة للاستشفاء من الطبيب صديق العائلة، أنني مصاب بارتجاج في الدماغ وأنني سأحتاج إلى أسابيع لأتعافى ربما. وفي لجنة العمل، كانوا يتساءلون: أكان ذلك حادثاً مفتعلاً؟ العميد، بعقليته الأمنية، كان يعتقد أن كلّ أمر مدبّر وأن رجال الأمن كانوا وراء الحادثة. قال لي ذلك حين عدت إلى دمشق. ابتسمت في وجهه، وقلت: “سوريا ليست تشيلي، يا رفيق!” كان علينا أن ننتظر سنوات لتصل سوريا إلى حالة من التردي تتفوّق فيها على تشيلي والأرجنتين وكلّ الدول الدكتاتورية في المعمورة.

كانت الرحلة بين المدينة والقرية تستغرق نحو 20 دقيقة من الجمال قاطعة منطقة الربوة التي تفصل بين المدينة والضاحية، على امتداد نهر بردى الذي كان لا يزال الماء يجري فيه آنذاك.

حين عدت إلى البيت، زارنا صاحب البيت للاطمئنان، باشّاً مستبشراً.

“سلامتك، شغلتنا عليك”، قال لي وهو يبتسم، كأنه يريد أن يقول شيئاً. وما أن سألته عن حال زوجته حتى سارع للقول بفرح:

“ولدت. جابت بنت. سميناها سلافة”.

في ليلة الأول من شباط 1979، أقلعت طائرة تابعة لشركة “إير فرانس” من مطار رْوَاسي في ضواحي باريس متوجّهة إلى طهران، في رحلة خاصة. على متنها كان الرجل الذي كان العالم باسره يحتفي به باعتباره مؤسس الديموقراطية الجديدة في إيران: آية الله الخميني. كان شاه إيران غادر طهران قبل أيام، واحتفل اليسار العالمي والليبراليون والديمقراطيون ودعاة حقوق الإنسان بالعجوز الذي كان يعود وفي جيبه 19 مبدأ وعد بتحقيقها، بما في ذلك الاستقلال والحرية والديموقراطية وحرية المعتقد والسيادة الشعبية وحقوق الإنسان وفصل المؤسسات الدينية عن الدولة. حفنة قليلة من اليساريين كانوا ينظرون بريبة إلى كل ما يحدث. من هذه القلّة كانت هيئة تحرير الراية الحمراء التي عقدت اجتماعاتها في بيتنا بدمّر لمناقشة راي الرابطة. ليس لديّ الكثير عموماً لأتباهى به، ولكن من بين قلائل، كان لديّ موقفي من الثورة الإيرانية والافتتاحية النارية التي كتبتها في شباط 1979، وقلت فيها بوضوح إن هيمنة رجال الدين على الثورة سوف تعيد إيران إلى القرون الوسطى، وربطتُ بين هيمنة الدين على الدولة والفاشية، وتوقّعتُ أن الخميني لن يتباطأ في التنكّر لكلّ وعوده حال تمكّنه من الحكم في طهران. لم تعد إيران إلى القرون الوسطى وهي اليوم تطوّر أسلحة نووية، ولكنها تحوّلت على ما هو أسوأ. وبغض الطرف عن تقييمنا اليوم لظاهرة رابطة العمل الشيوعي ومظاهر الطفولة اليسارية والسذاجة السياسية التي كانت تسيطر عليها، فسأظل دوماً أحترم ما يشبه الإشراقات السياسية في مواقفها الخارجية، ومنها موقفها من سرقة الملالي لثورة النساء والرجال الإيرانيين. أثار موقفنا من الخميني انتقادات كثيرة بين اليساريين السوريين، وقال لي أحمد جمّول حين التقيته في بيروت: “اسمع يا وائل: شحاطة الخميني تساوي أكبر حزب شيوعي اليوم”.

ثمّ جاء نيسان/ أبريل. انفجرت شقائق النعمان حول بيتنا بفجور فاتن. كنت أسير على حافة النهر الصغير خارج بيتنا، أتأمل الفتنة من حولي، وأفكر في أبيات إليوت في قصيدة الأرض الخراب:

نيسان أقسى الشهور، يُخرج

الليلكَ من الأرض الموات، يمزج

الذكرى بالرغبة، يحرك

خامل الجذور بغيث الربيع

“وائل!” صاح بي علي. في صوته رجفة تشي بقلق وخوف وغضب. “في اعتقالات جديدة في اللاذقية.”

وبدأت حملة جديدة من الاعتقالات ضدّ التنظيم. كان النظام بدأ يشعر بالحقد على التنظيم، لأنه الوحيد الذي لم يُقضَ عليه في الحملات السابقة، بينما انتهت كلّ التنظيمات اليسارية الصغيرة الأخرى التي ظهرت مع الرابطة في السبعينات. ومن جديد بدأت رحلة انتقال أخرى، وانتشرنا في المدينة نحاول الاتصال بالرفاق لتنبيه.. هم ولحساب الخسائر في الجسد الذي بدأ ينهك ويرهق.

إقرأ أيضاً: حكاية بلا بداية: انزياح اليسار السوري 

وفي البيت نفسه، وصلني نبأ اعتقال صديقي جبرائيل غربي، جبرا. أرسله الرفاق في رحلة غير ضرورية إلى اللاذقية، يحمل رسالة لا يعرف مضمونها. وصل جبرا إلى موعده، ولكن بدل الرفيق الذي كان من المتوقع أن يستقبله، كان ثمّة شاب آخر يحمل علامات الأمان نفسها. اقترب منه وأعطاه كلمة التعارف. بسرعة البرق، طارت إليهما سيارة الأمن، فاحتوت جبرا في جوفها وأخفته حتى شباط 1980.

كان النظام بدأ يشعر بالحقد على التنظيم، لأنه الوحيد الذي لم يُقضَ عليه في الحملات السابقة، بينما انتهت كلّ التنظيمات اليسارية الصغيرة الأخرى التي ظهرت مع الرابطة في السبعينات.

كان الخبر شديد الوطأة. لم يكن جبرا رفيقاً آخر، كان صديقي الذي أحكي له هواجسي وأشكو له ضعفي وأغني معه “بيتي أنا بيتك، ما إلي حدا، من كتر ما نديتك، وسع المدى!”.

أما نحن فكان علينا أن نتهجّر من جديد وأن نترك البيت الوادع. كان خروجي من البيت يشبه خروج آدم من الجنّة. وحتى اليوم، سكنت في بيوت لم أعد أذكر عددها، ولكن لا بيت منها يداني في الجمال والوداعة والهناء والأمان، بيتَ دمّر. بعد أشهر سيعتقل عليّ أيضاً، على رغم حسّه الأمني العالي عادة، اصطحب رفيقاً إلى مقهى اللاتيرنا وسط دمشق. سيلاحظ وجود شخص كان يتردّد على كلية الفنون الجميلة، ويُشكّ بأنه مخبر. لم يسعفه حسّه الأمني في المبادرة للمغادرة. كان النادل يضع أمامها كأسي بيرة مثلّجة، مغرية كتفاحة آدم، رفعها وغبّ أوّل جرعة منها. قبل أن يضعها كان تركي علم الدين بجانبه ومعه ثلّة من العناصر:

“أهلين أستاذ علي”

“مين علي؟” قال علي بسذاجة، وقد أخذ على حين غرّة.

“تعال معنا ولا تتذاكَ”.

إقرأ أيضاً: اليسار السوري بين العفيف الأخضر وجورج طرابيشي

قيّده العاصر ورفيقه، وساقوهما خارج المقهى. كانت المداخل والأزقّة المؤدية إلى المقهى مغلقة من كل الجهات، وقد انتشر فيها المسلحون بكثافة. وعلي المتواضع الجميل سأل نفسه: “أأنا بهذه الأهمية ولا أعرف أهمية نفسي؟”.

كيلا يعترف على بيت المركزية، اعترف على بيت دمّر. شكّل تركي علم الدين دورية وأخذ عليّاً بعد منتصف الليل. راحا يقرعون الجرس ويطرقون الباب بهمجية، وصاحت أم سلافة: “شو بدكن؟ أنا مرا لوحدي. روحوا جيبوا المختار”. راح العسكر يمطرونها بالشتائم، حتى تدخل عليّ:

“أم سلافة، أنا رياض (الاسم الذي كان يستخدمه). كنت ساكن بالبيت مع رفقاتي. لا تخافي ما في شي: بدن يسألوك كم سؤال”.

فهدأت المرأة وفتحت الباب، ودخل الأوباش. ودخلت معهم، ولم يستطع عليّ رغم قساوة الحال سوى أن يبتسم لرؤية أبو سلافة مختبئاً وراء زوجته. كانت تلك ربما آخر ابتسامة له أثناء التحقيق، فتركي علم الدين الذي أحس بالإهانة لم يغفر له أنه لم يسلّم أحداً.

في خمّارة اليسار الدمشقية مع علي الجندي وممدوح عدوان

31.05.2019
زمن القراءة: 10 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية