fbpx

“عطب الذات” لبرهان غليون… عن الثورة ودمشق ومثقفيها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

استغرق كتاب “عَطَب الذات… وقائع ثورة لم تكتمل”، للكاتب “برهان غليون”، عامين لصدوره، وذلك كان كتابةً وبحثاً وحفراً، وتشغيلاً للذاكرة وتقليباً للأمور وتقييمها، حتى لا تكون النتيجة خاضعة لمبادئ رد الفعل، ولا للهوى وعوامل الكآبة التي أصابت الجميع تقريباً إلى هذا الحد أو ذاك…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بداية، لا بدّ من تسجيل قصب السبق لبرهان غليون على تسجيل حصيلة تجربته مع المجلس الوطني السوري والمسألة السورية عموماً، وإصدار كتابه القيم، “عَطَب الذات… وقائع ثورة لم تكتمل”، والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في أكثر من 500 صفحة.

ومن الواضح أن هذا الكتاب قد استغرق العامين الأخيرين قبل صدوره، كتابةً وبحثاً وحفراً، وتشغيلاً للذاكرة وتقليباً للأمور وتقييمها، حتى لا تكون النتيجة خاضعة لمبادئ رد الفعل، ولا للهوى وعوامل الكآبة التي أصابت الجميع تقريباً إلى هذا الحد أو ذاك… ولماذا العامان؟ لأنهما الفاصلان عن مرحلة أواخر عام 2016، الذي شلّت خلاله مسارات معركة حلب، أي فرصة راهنة للنهوض الوطني الديموقراطي، وتحققت فضيحة الإسلام السياسي السوري، الذي كان الحرص على دوره الإيجابي يدفع الجميع إلى الصمت أو التهاون مع ما قام ويقوم به.

وبالتواقت والتشابك مع ذلك آنذاك أيضاً، ثبوت استعصاء مؤسسة المعارضة الأكبر، الائتلاف الوطني، على أي فرصة للإصلاح والمراجعة، مع مؤسساتها الأخرى أيضاً. وقتها انسحبنا من الائتلاف، ويبدو أن برهان غليون انسحب حينها إلى أوراقه، ليخرج علينا بكتابه هذا.

كتاب “عطب الذات” للكاتب برهان غليون

لا يمكن طرح كل ما يدور في الذهن من خواطر حول الكتاب في مقالة، ولذلك لا بدّ من الانتقاء والتركيز على ما هو أهم في رأيي، أو ما يتقاطع عرضاً مع الأمر في تجربتي وفكري. وسأختار التعليق على موقف الكتاب وتقييمه قوى المعارضة الأساسية، مثل “إعلان دمشق” و”المثقفين”.

لا ريب في أن لسياسات زعامة إعلان دمشق أثراً بالغاً ومؤلماً على الكاتب، وهو يشرح بالتفصيل ما حدث في ربيع دمشق، وفي تأسيس إعلان دمشق 2005 ومساره، ودور الإعلان في تأسيس المجلس الوطني، والسياق المكثف لاحقاً. ذلك مع أنه يقول إنه لم يوقع على إعلان دمشق أساساً، لكنه لم يكن بعيداً أبداً منه ومن تطوراته. وحين يتحدث عن دعوة له إلى ندوة في منزل رياض سيف عام 2010- والحقيقة أن ذاكرته والسياق يخونانه هنا لأن ذلك حدث عام 2007- يعبّر عن استهداف غير مباشر له من قبل رياض الترك في ذلك اللقاء. وفي ما بعد يذكر “زعيم إعلان دمشق” في معظم المرات التي احتاج فيها إلى ذكر الاسم…

ورد أيضاً في الكتاب أن “مسألة القيادة هي محور اهتمام إعلان دمشق ومركز تفكيره” (ص99)، وذلك خطأ صغير من الكاتب ربما، لكنه مهم، لأن همَّ إعلان دمشق- كمؤسسة- آنذاك كان منصباً على المضمون السياسي، أكثر من تحديد اسم الرئيس. انعكس ذلك في الموافقة على خيار اسم برهان غليون لرئاسة المجلس من دون توقف كبير، ما عدا بعض المناقشات في الأمانة العامة أو جانبياً، كان برهان يطلع عليها من طريقي وطريق غيري، لأنه كان يتواصل معي يومياً تقريباً، لتيسير مسألة انتخابه، ومسائل أخرى بالطبع. وهنا، أجد الفرصة مناسبة لأذكر شيئاً طالما كتمته، وهو أن الدكتور برهان انقطع عن التواصل معي بشكل شبه كامل، منذ انتخب رئيساً للمجلس، وكانت لذلك دلالات أثّرت ربما في مواقفي اللاحقة!

في حين أن الكتاب يشير إلى مسألة أخرى، وهي تَحسُّب الكثيرين، وزعيم إعلان دمشق خصوصاً، من مواقف غليون التي كانوا يرون فيها احتمال “تساهل” مع النظام آنذاك، أو تيسيراً لأمور هيئة التنسيق الموصومة بالتخاذل من قبل البعض، وهي التي كانت قامت بتسميته منسقاً عاماً في المهجر لها قبل فترة قصيرة- من دون علمه كما قال- واعتذر عن ذلك. هذا “الحكم” المشار إليه هنا هو جوهر موقف الإعلان، يقول بعد صفحتين مؤكّداً- عن حق- أن “الذي حكم موقف جماعة الإعلان في المجلس، هو شك قادتها بإخلاص بقية أطراف المعارضة، وإيمانهم باستعدادهم للمساومة مع النظام”، وأن “هذا ما يفسّر الفظاظة خلال مراحل ترشيحي ورئاستي”.

لذلك كله لم تلن مواقف الأمانة العامة للإعلان، و”زعيمها” خصوصاً في ما يخص اقتراحنا داخلها بتوليه الرئاسة، إلا بعد إضافة التمسك بأن تكون الرئاسة دورية وقصيرة المدة، الأمر الذي يقول غليون إنه فاجأه يوم اختياره للرئاسة، مع إصرار ممثل الإعلان على أن تكون مدتها شهراً واحداً قابلاً للتمديد مرة واحدة، قبل تعديلها لتصبح ثلاثة أشهر.

الكاتب برهان غليون

باعتقادي الشخصي، أن هذه المسألة هي الخلفية التي تفرز كلَّ هذه المرارة على لسان برهان غليون، في بحث أسباب التدهور والضعف، إذ يعود دائماً إلى مقولة إن عدم السماح لوجود قيادة مستمرة وفعالة للمعارضة منذ البداية هو أساس العطب والخلل، أو أنه العامل الرئيس في أحيان أخرى.

وهو، حين يفسّر أيضاً خروج جورج صبرا من الداخل، يخطئ باعتباره مبعوثاً من “الزعيم” لتصفية الحساب واستكمال التآمر، لأن صبرا لم يخرج إلا من خلال قرار لأمانة الإعلان، كان وراءه في الحقيقة اقتراح جانبي من رياض سيف، الذي كان جورج من المفضلين لديه آنذاك، وحين التقت هذه الرغبة مع مصلحة جورج بالخروج لأسباب عائلية قاهرة- كما فهمت- أيضاً. وقف زعيم الإعلان بقوة ضد الاقتراح (بتأثير معرفة رياض بأن رياضاً الآخر متوافق معي على الأمر، وكان بين الرياضين ما صنع الحداد)، وتوليت شخصياً “إقناعه” بذلك، من خلال خبرتنا الطويلة وأدواتنا المشتركة، وبعد تأكده من أن جورج، ذاك الذي كان يصمه بأوصاف قاسية- تعني عدم الثقة به وبالتزامه-، سوف ينضبط، وسوف يكون حصاناً رابحاً في النتيجة. وقد أجبر لجنة الحزب المركزية – كما علمت- على تجاوز الأمر حتى من دون تصويت، مندداً بأن اختياره كان لكونه مسيحياً وحسب، وليس لأنه ممثل للحزب. (وهذا حديث آخر، لأنني بمعرفتي طريقة تفكير رياض، أكاد أجزم أن منعه التصويت كان حتى يستطيع اعتبار أن جورج لا يمثل الحزب وقد خرج من تلقاء نفسه).

ان هذه المسألة هي الخلفية التي تفرز كلَّ هذه المرارة على لسان برهان غليون، في بحث أسباب التدهور والضعف، إذ يعود دائماً إلى مقولة إن عدم السماح لوجود قيادة مستمرة وفعالة للمعارضة منذ البداية هو أساس العطب والخلل، أو أنه العامل الرئيس في أحيان أخرى.

أما في ما يخص الموقف الوارد في الكتاب حول المثقف والمثقفين، فيأتي في بابين، أولهما تفسير برهان تصديه لمهمة القيادة السياسية على رغم كونه بعيداً من سوريا ومن العمل السياسي فيها، منذ زمن طويل آنذاك، علماً أن كثيرين من القادة الناجحين والعظماء كانوا من كبار المثقفين أساساً. ولكن الأمر الأهم الوارد في مكان آخر، هو لومه الشديد لغياب المثقفين السوريين عن المساهمة والمساعدة، وهو يفترض أن هذه المساعدة كانت ستكون عوناً له في وحدته أمام كل الهجمات من أطراف المعارضة المتوافقة ضده. وهذا صحيح إلى حدٍّ كبير.

تفسيره هذا لا تمكن معالجته في عجالة. وهو محق أيضاً، لأن المثقفين السوريين الديموقراطيين كانوا مكوناً أساسياً في حراك عام 1980، بجانبه السلمي، مع التجمع الديموقراطي والنقابات المهنية، بقيادة ميشيل كيلو وممدوح عدوان وآخرين. وكانوا مع غيرهم من المعارضين أساس ربيع دمشق المتين، اعتماداً على ثلاث بؤر، أولاها في لجان إحياء المجتمع المدني مع ميشيل كيلو وصادق جلال العظم وجاد الكريم جباعي وحسين العودات وعلى العبدالله وآخرين من أهم مثقفي سوريا، والثانية في حركة المنتديات والمجموعة التي كان رياض سيف عنوانها الأبرز. والثالثة تضم سينمائيين مثل أسامة محمد وعمر أميرالاي مع آخرين- من مثلي- كانوا وراء بيان الـ99، منذ البداية ويعملون بصمت نسبي فلا يمكن الجزم بشيء حول غياب المثقفين في مسار الثورة، بل يمكن التأكيد أن دورهم أساسي في المرحلة الأولى الناصعة، مع غلبة الروح السلمية عليهم، وتململهم من تسارع الانحدار نحو العسكرة والأسلمة الذي حدث. وهم انسجاماً مع ذلك كانوا جزئياً في إطار هيئة التنسيق أو المنبر الديموقراطي أو تيار مواطنة أو متوزعين في أكثر من موقع لا ضجيج له، في حين اعتصم بعضهم بالكتابة وحدها، أو بالصمت. والأهم أنهم ربما رأوا في اندفاع برهان غليون ظاهرة مستعجلة لم تسبقهم وحسب، بل انفصلت عنهم حتى الانعزال.

هناك بعض الأخطاء في ذاكرة برهان غليون، وهذا مفهوم بالطبع. ولكن الشيء اللافت هو الاندفاع في الرواية والتحليل والرأي، مع أن القوى الرئيسة الثلاث في المجلس كانت تعمل بمعزل عنه، فلا يعلم دائماً حقائق الوضع، بدليل أنه حين قاد تحركاً قوياً باتجاه التقارب مع هيئة التنسيق ووقع اتفاقاً مع الوفد المرافق له معها في القاهرة، تلبية لتدخل الأمين العام لجامعة الدول العربية وتوطئة لمؤتمر شامل يفتح الطريق أمام احتلال المعارضة لمقعد سوريا في الجامعة العربية، هوجم مباشرة بعنف من الأطراف المكونة للمجلس جميعها وأجبر على التخلي عن توقيعه وإنجازه. واستمرّ يومها رئيساً أكثر ضعفاً وتعرضاً للتهجم، وربما ضيّع آنذاك فرصة كبيرة لأن يستقيل ويحافظ على مركزه الكبير، فيساعد، على إعادة تأسيس أكثر نجاحاً لمعارضة أدمنت الفشل واعتادت عليه بعد ذلك.

تبقى مسألة رؤيته لموقف الإخوان المسلمين وجماعة الـ74، بحاجة أيضاً إلى وقفة قريبة، إلا أن الأهم والأكثر ضرورة هنا هو تأكيد أهمية ما قام به برهان غليون من نقد، وربما ما سيقوم به لاحقاً أيضاً. فتحية له!

في صعوبة تصنيف النظام السوري