fbpx

الفنّانون والفنّانات هم أيضاً… يموتون!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كنت أظنّ أنّ فريدريك نيتشه سهّل علينا الأمر حين قال إنّ الله مات. فما دام أنّ الله يموت فكلّنا إذاً نموت. وهذا ليس رجاء ولا إبداء رغبة، فضلاً عن أنّ الفيلسوف الألمانيّ لم يقصد أصلاً الموت بالمعنى البيولوجيّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنت أظنّ أنّ فريدريك نيتشه سهّل علينا الأمر حين قال إنّ الله مات. فما دام أنّ الله يموت فكلّنا إذاً نموت. وهذا ليس رجاء ولا إبداء رغبة، فضلاً عن أنّ الفيلسوف الألمانيّ لم يقصد أصلاً الموت بالمعنى البيولوجيّ.
ما عناه نيتشه أنّ فكرة الحقّ المقدّس باشرت موتها منذ عصر التنوير: موتها كناظمٍ للعالم وكمرجعيّة للأخلاقيّة والقيم والفلسفة والعلوم وكلّ شيء آخر. لقد انتهى ذاك المقدّس بوصفه بوصلةً لوجود الأوروبيّين. فنيتشه، وهو بالطبع ملحد، لم يقصد أنّ هناك إلهاً عاش في هاتين الفانية والباقية ثمّ غادرهما وغادرنا. وهو، على رغم إلحاده، لم تُسعده النتيجة التي أعلنها، إذ رأى أنّ انحسار الدين والإيمان وغياب مرجعيّة أخلاقيّة عليا سوف يزجّان العالم في فوضى لا تُحمد عقباها، وأنّ “ثقافتنا الأوروبيّة برمّتها إنّما تنحو منحى كارثيّاً”.
ومهتدياً بالمعلّم نيتشه، وكنت يومها ناشطاً فيسبوكيّاً، جازفتُ بقول مفاده إنّ فيروز “راحلة”، أو أنّني أحسّ بأنّ وصف “راحلة” يصفها. وقد أكون مخطئاً أو مصيباً في حدود التوقّع والتقدير، لكنّ لي الحقّ في أن “أحسّ” ما أحسّه. ذاك أنّني لا أرى اليوم شابّاً يحبّ صبيّة “عالطاحونة” أو “بأيّا نبع، بأيّا عين”، هذا إن أمكن أصلاً أن نعثر على طاحونة ونبع وعين حتّى في أريافنا. أمّا “مرسال المراسيل” فلم يمت في زمن الإي ميل والواتس أب فحسب، بل مات في الذاكرات أيضاً قبل هذا الزمن. ومن غير أن أكون متفائلاً بمن قد يحلّون محلّ فيروز أو يرثونها، يجوز لي أن “أحسّ” أنّ موتاً ما يحيط بعالم أغنيتها، موتاً لم ينجح النجل زياد في بعث الحياة فيه. وحتّى لو كان أمر ذاك العالم مجرّد نوستالجيا إلى الريف، فإنّها باتت نوستالجيا باردة ومبالِغةً في انفصالها عن مصدرها الأصليّ. لقد باتت نوستالجيا بلا نوستالجيّين.
يومذاك، حين ارتكبتُ تلك العبارة الفيسبوكيّة العابرة، استهجن البعض واستنكر البعض أن تُعامَل فيروز بما عومل به الله. ومؤخّراً، وفي مقالة ثاقبة، أعلمنا الكاتب السوريّ فارس البحرة بأنّ “جبهة النصرة” تسامحت مع بثّ أغاني فيروز دون غيرها، إذ أنّ أغانيها عديمة الصلة “بعوالم اللهو والعربدة”. لكنّ البحرة ذهب خطوة أبعد، فقارن، في حقل العظمة والتعالي، بين “الستّ” فيروز و”السيّد” حسن نصر الله. وما دام أنّ إحدى البيئات اللبنانيّة عُرفت بشعارها “فدا صرماية السيّد”، فقد وُجدت صحافيّة تكتب: “فدا صرماية الستّ”*.
وأن نكون، نحن البشر الأحرار مبدئيّاً، “فدا صرمايةٍ” ما، فهذا يبقى مفهوماً في عالم السياسة المنحطّة، سياستنا الناهضة على العصبيّة والتبعيّة والتزلّم، حيث “بالروح، بالدم، نفديك يا…”. أمّا أن يُطبّق المبدأ المذكور على فنّان أو فنّانة، حتّى لو كانت “الستّ” الأصليّة أمّ كلثوم نفسها، فهذا يقول الشيء الكثير عنّا، قبل أن يكون عنها. ذاك أنّنا في استعدادنا الخصب لأن نقايض كراماتنا الشخصيّة بـ “كرامةٍ” عليا، نفدي بحياتنا “صرماية” صاحبها وصاحبتها، نكون نعلن أنّ معيارنا الوحيد للولاء هو ذاك الذي يربطنا بـ “الزعيم” – زعيم الجماعة وصاحب “القضيّة”، وأنّنا لا نملك في تكريم فنّان أو فنّانة من وسيلة إلاّ وسيلة تزعيمه أو تزعيمها علينا. فالفنّان والفنّانة، إذاً، مثل الزعيم، ليس من زمن تنتهي معه صلاحيّتهما. هما “خالدان”، وإن لم يبلغا في مراتب الخلود ما بلغه زعيم سوريّ ابتُلي به الزمن فساوى نفسه بـ “الأبد”. حتّى فنّانة في رقّة شادية، التي توفيت قبل أيّام، ظهر من يبلّ يده في بشريّتها، فيربط موتها بعيشنا “في زمن الهزائم”، علماً بأنّ سنواتها الـ 86 ترشّحها للوفاة حتّى لو كنّا نحصد أوسترليتز بعد أخرى.
وفي ثقافة من الأيْقَنَة كهذه، ليس الموت فيها موتاً عاديّاً ولا الحياة حياة عاديّة، كثيراً ما تساعدنا (أو تردعنا) الصفات المنسوبة إلى الفنّان، وخصوصاً الفنّانة في مجتمع ذكوريّ. فهي كلّما انسحبت من واقعها كامرأة، وكلّما عبّرت عن حال منزوعة الجنس، أو مضادّة للجنس، كانت أكثر قابليّة لتلك الأيقنة. وليس من دون دلالة أنّ معظم الكلام الذي يتناول أمّ كلثوم أو فيروز يميل إلى تنزيههما عمّا هو أرضيّ وإنسانيّ وحسيّ. وهذا، مثلاً، ما تردع عنه فنّانة كصباح التي مثّلت، في مظهرها كما في حياتها نفسها وتعدّد زيجاتها، حالة مضادّة هي أقرب كثيراً إلى ما يفترضه الفنّ والنجوميّة في الفنّان النجم. هكذا نفهم كيف أنّ “جبهة النصرة” يمكن أن تتسامح مع بثّ أغاني فيروز، إلاّ أنّها وبالمطلق لا تتسامح مع بثّ أغاني صباح.
وليس من دون دلالة، في رفع الفنّانة إلى الذروة الإلهيّة، تطهيرها من التاريخ. فالحياة الشخصيّة، حياتها، تبقى محاطة بالغموض والألغاز، فيما يُدان من يتجرّأ على اختراقها أو أنسنَتها مثلما يُدان المتجرّىء على محرّم. ووفقاً للزميل أحمد شوقي علي، ظهر في ملحق جريدة “النهار” في 15/2/1970 ملفّ عن فيروز شارك فيه الشاعر الراحل أنسي الحاج، فماذا حصل بنتيجة الملفّ المذكور؟ “قابلته فيروز بانزعاج شديد، وهددت باعتزال الغناء بسببه (…) مدة ثلاث سنوات، إذا لم يتوقف “حملة الأقلام” عن تصويب سهامهم ضدها، دون أن تسمّيهم”. ذاك أنّ مقال الحاج “أغضب زوجها عاصي، حيث كان الشاعر اللبناني الراحل يتغزّل (…) بفيروز كامرأة وليس كمغنية، معلناً عن ولعه الشديد بها”**.
والتطهير من التاريخ جهد لا يتوقّف عند حدّ. فلئن عثرنا في أغاني إديث بياف مثلاً على أسماء أمكنة باريسيّة، وفي أغاني بيلي هاليداي على ما يشير إلى العنصريّة في أميركا، فإنّ كلمات الأغاني الكلثوميّة، وإلى حدّ ما الفيروزيّة، لا تنطوي على أيّة دلالة، أي على أيّ مكان وزمان وعلاقة واجتماع. إنّها كلمات عن “الحبّ” كما يُفترض أنّه كان قبل مليون سنة، وكما يُفترض أنّه سيبقى بعد مليون سنة. وهذا الكلام المترفّع عن كلّ دلالة هو بالضبط الكلام الدينيّ العابر للأزمنة والأمكنة، والذي به تكتمل أيْقَنة الأيقونة. ولئن سمّت الأغنية الفيروزيّة أمكنة، فهي عواصم للمجد وللسيف وللغضب الساطع. إنّ الأمكنة، والحال هذه، ليست مسارح لتجارب أبنائها، بل مفاهيم مقدّسة تثقل على صدور الأبناء وأرواحهم، خصوصاً حين تكون دمشق “ذا السيف” و”بستان هشام” جاثمة على من يئنّون في زنازين حكّامها.
وهذا ليس، بحال من الأحوال، دعوة إلى أن لا نحبّ أغاني أمّ كلثوم أو فيروز. فأنا، من جهتي، أحبّ الكثير من تلك الأغاني، بل أغنّي بعضها حين أفيق صباحاً، كما يفعل كثيرون، وإن كنت أفعل ذلك بصوت أشكّ في أن تنحطّ أصوات الآخرين إلى مستواه. ذاك أنّ الأغنية، والصلة بها، لا تُحاكَمان بمعايير عقلانيّة محضة، وإلاّ كيف نفسّر الاستماع إلى سميرة توفيق وإلهام المدفعي وهما يناشدان الرجل بلسان المرأة المعنّفة: “لا تضربني، لا تضرب/ كسّرتْ الخيزراني”؟.
لكنّ هذا لا يقود، في المقابل، إلى رفع الفنّان أو الفنّانة، أو رفع غيرهما أيّاً كان، إلى سويّة الآلهة والقادة – الآلهة. فلدينا فائض من هؤلاء الأخيرين، وهم موجودون كيفما التفتنا، من كيم جونغ إيل الكوريّ إلى بشّار حافظ الأسد السوريّ. فكيف حين نندفع في العبادة والتأليه إلى حدّ الإقرار بموت الله ورفض الإقرار بموت واحد أو واحدة من هؤلاء؟

* رابط مقال فارس البحرة في موقع “الجمهوريّة” اضغط هنا
** رابط مقال شوقي علي في موقع “المدن” اضغط هنا[video_player link=””][/video_player]