fbpx

في مديح الزعيم المستقيل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحيا الزعيم وإن كان مستقيلاً. فلُيّمجدْ اسمه عبر ورثته وما أكثرهم. لماذا يتوقع كثير من الناس من الزعيم أن يذهبَ تاركاً السلطة والعرش لمجرد أنه ارتكب خطأً ما، أو لمجرد أن عليه أن يرحل بسبب فوات انقضاء المدة الشرعية لرئاسته؟ وماذا عن تاريخه المليء بالثورة والنضال والقتال منذ نعومة أظفاره هو الذي ولد تحت علم الدولة بعد استقلالها وقبل الإطاحة بها؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يحيا الزعيم وإن كان مستقيلاً. فلُيّمجدْ اسمه عبر ورثته وما أكثرهم.
لماذا يتوقع كثير من الناس من الزعيم أن يذهبَ تاركاً السلطة والعرش لمجرد أنه ارتكب خطأً ما، أو لمجرد أن عليه أن يرحل بسبب فوات انقضاء المدة الشرعية لرئاسته؟ وماذا عن تاريخه المليء بالثورة والنضال والقتال منذ نعومة أظفاره هو الذي ولد تحت علم الدولة بعد استقلالها وقبل الإطاحة بها؟
يخطئ الجميع حين يقرر الانتظار متوقعاً أن يخرج الرئيس الزعيم بخطاب يودّعُ فيه البلد بعد كل الذي عاناه وضحى من أجله، ويذهب ليتقاعد في البيت. يترك السلطة والدولة وأبنائها الذين هم أبنائه أيضاً ويعود، هكذا ببساطة، إلى بيته الواقع على رأس جبل ما بعيداً عن المدينة، هو الذي لا يعرف مهنة أخرى غير تلك التي ورثها عن أبيه، الزعامة.  
ثم ليس الزعيم موظفاً حكومياً ليزاول عمله حتى سنّ التقاعد ويعود بعدها إلى البيت، وينتظر عند رأس كل شهر راتبه التقاعدي كأي مواطن ٍمن العامة، ولا هو مثل كثير من رؤساء آخرين الذين يلتقي بهم من حينٍ لآخر من الذين تنتهي ولاياتهم الرئاسية ومن ثم يذهبون بسلام ويبحثون عن مهن ٍأخرى يزاولونها.
الزعيم شخصٌ ثوري ومناضل في عرفه، ومقاتلٌ حتى آخر رمق من عمره أو حتى آخر جثة من أبناء شعبه ،الذين هم كلهم أبناؤه كما يدعي. وعلى خلاف كل الرؤساء الذين يلتقي بهم، ليس للزعيم مكتبٌ رئاسي حتى يتمّ ازعاجه بطلبات تافهة ومبتذلة من قبل المواطنين، فانشغالاته أكثر جللاً ومهماته أكثر قداسة وهولاً، وهي لا تتعلق بمواطن أو أثنين أو حتى بمليون مواطن، بل تتعلق بمصير ومستقبل الشعب كله كالاستقلال وإعلان الدولة وإرضاء دول الجوار وربما حتى التهيؤ لحروب قادمة. وثم لماذا يحتاج مكتبا ًإذا البلاد كلها مكتبه.
وان اختلفت المشاهد فغالباً ما تتشابه مصائر الزعماء، الديكتاتوريين منهم تحديداً، بتراوحها حول ثيمة واحدة وهي القتل، فمنهم من تنكسر رقبته وهو يتدلى من حبل المشنقة، وآخر يقتل في صحراء ما بعد إذلاله بطريقة في غاية الوحشية كان يتخيل هو الوحيد بارع فيها، وهناك من ينجح في الهرب تحت جناح الظلام إلى المنفى ليمارس من هناك مهنةً شاقة اسمها الحنين. ومنهم من يموت هانئاً على فراشه ليأتي الابن من بعده، ويزاول المهنة الوحيدة التي تتقنها العائلة وهي الديكتاتورية. وما أكثر الأبناء الذين يريدون مزاولة مهنة العائلة.
يحدث أن يستقيل الزعيم أو يتقاعد أيضا، وهذا أمر نادر الحدوث لكنه يحدث. فعلها الزعيم المصري جمال عبد الناصر قبل أكثر من نصف قرن. ألقى ناصر خطاب التنحي ليخرج الملايين من المصريين ويعيدونه إلى السلطة. ومنذ خطاب التنحي ذاك، ومشهد الأمواج البشرية التي اجتاحت شوارع مصر كلها لتجبر الزعيم على البقاء في السلطة. يحلم كل زعيم وهو يلقي خطاب التنحي بتكرار المشهد نفسه.
أحياناً، ديكتاتورية الجماهير أخطر وأكثر فتكا بكثير من ديكتاتورية الزعماء.  
لا يبالي الزعيم بالبلاد والعباد بعد أن يتقاعد أو يجبر على التقاعد من السلطة التي كان يمارسها بطلاقة. فمثل الديكتاتور المنفي يمسي الحنين والاشتياق إلى السلطة والعبث بها، وإلى هدير الهتافات وكيل المديح الشغل الشاغل للزعيم المتقاعد. ولإشباع هذا الحنين يجند أبناءُ الزعيم جيشاً من موظفين كتبة، ليكيلوا المديح لتاريخه الحافل بالإنجازات وقيادته المتميزة وعهده المزدهر، وكم هو أكبر من هذا الكرسيّ الضيق الذي لا يتسع لرؤيته الشمولية.
ولد الزعيم ليكون مقاتلاً ثورياً وليس موظفاً حكومياً، وسيبقى هكذا بعد تقاعده، ثورياً ومقاتلاً يناضل من أجل الاستقلال وتحرير الشعب. لكن تحرير الشعب ممن؟ لا يهم مطلقاً، فهذا سؤالٌ لا يطرحه إلا الخونة المتخاذلون.
حتى اللغة تضيق أمام الزعماء فعليها أن تكرر نفسها في حضرة كل منهم بدءاً من مرحلة الثورة إلى إعلان التحرير، وما بين الاثنين من بطولات وأكاذيب وأوهام. والزعماء يتشابهون، ولغاتهم أيضا، سواء كان الزعيم ينتمي إلى إحدى جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، أو إلى إحدى هذه البلدان الآيلة للسقوط والتهشم دائماً في الشرق الأوسط.
الزعيم محاط بمتزلفين ومهرجين لا يبرعون إلا في قول نعم حين يتعلق الأمر بالاستشارة. يشعر بالراحة معهم كما يشعر بالراحة والزهو مع دعاة الفلسفة وباعة نفط عالميين يرتدون ربطات عنق أنيقة زاهية ويتقنون الكذب وبيع الأوهام.
لكن هذه ليست مأساته الوحيدة، فمحنة الزعيم هي أن الجميع فهمه خطأً. لم يكن الرجل يريد أن يبعث بالخرائط أو يرسم الحدود بالدم كما قال ذات مرة في لحظة زهو. وحين قال في لحظة حماس هائجة بأنه لا يحسب حساباً لأي كان، فكان ذلك مجرد حماس أثارته هتافات الآلاف من مؤيديه وزال وخمد بمجرد خروجه من الساحة التي خمدت هي الأخرى بعد خروج الزعيم.  
كلا، لم يكن يقصد كثيراً في كثيرٍ مما قاله. فهمه الجميع كما يحلو لهم وليس كما يحلو له هو أن يُفهم، كل ما كان يريده هو أن يمارس لعبة التاريخ قليلاً والتي عادة ما تتلخص في تسجيل مجدٍ شخصي عبر سابقة يعبر عنها كتاب التاريخ للأجيال القادمة بجملة الافتتاح هذه: “كان الزعيم أول مَن…” لكن غدر به الغادرون وطعنه من ظنهم الأقربون، كما بات يفصح لمقربيه.   
لكن الطمع في هالة المجد الشخصي قد يقود إلى الانتحار السياسي ذلاً، فها هو الزعيم يشكو ليل نهار بأن الجميع غدره وبات ضحية لمؤامرات دولية، “كيف يعيد التاريخ نفسه؟ ” يردد الزعيم بألم وهو يشكو من طعنة أمريكا القاسية في الظهر، يشكو بأنه وحيدٌ ولم يعد له أصدقاء غير الجبال.   
ولد الزعيم تحت العلم ولطالما حلم أن يموت تحت ظل العلم، هذا كل ما كان يريده في هذه الحياة الزائلة، ولا يهم إن مات الشعب كله جوعاً كما قال بنبرة ثورية في إحدى مقابلاته الصحافية، فالمهم هو ظل العلم الذي يرفرف فوق نعش الزعيم. [video_player link=””][/video_player]