fbpx

ما خلف “موت” العاملات الأجنبيات في لبنان… انتَحَرن أم انتُحِرن؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كيف يستطيع شخص أن يطعن نفسه مرات عدة في عنقه؟ وأي ربطة شعر يمكن أن تخنق إنساناً؟ وأي ترف تتمتع به عاملة في لبنان لتغرق أثناء ممارستها “رياضة” السباحة في فيلا “مخدومها”؟ أسئلة لم تكلّف وسائل الإعلام نفسها عناء طرحها خلال تبنّيها/ نقلها روايات وصلتها من الوكالات أو القوى الأمنية. من هنا، أضحى واجباً طرح السؤال التالي: هل فعلاً انتَحَرن أم أنهن انتُحِرن؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“تعرضت عاملة بنغلادشية للغرق أثناء ممارسة السباحة في مسبح فيلا مشغلها”. “أظهرت التحقيقات أن الخادمة أقدمت على ذبح نفسها بقصد الانتحار ولوحظ وجود طعنات في رقبتها”. “عثر على الإثيوبية أدوجنا فريزا جثة (…) قضت خنقاً بربطة شعر، وتستمر التحقيقات لمعرفة الأسباب”.

لكن كيف يستطيع شخص أن يطعن نفسه مرات عدة في عنقه؟ وأي ربطة شعر يمكن أن تخنق إنساناً؟ وأي ترف تتمتع به عاملة في لبنان لتغرق أثناء ممارستها “رياضة” السباحة في فيلا “مخدومها”؟

أسئلة لم تكلّف وسائل الإعلام نفسها عناء طرحها خلال تبنّيها/ نقلها روايات وصلتها من الوكالات أو القوى الأمنية، وتحقيقات أولية لم تُثر نتائجها عموماً أي شكوك لدى النيابات العامة التي تكتفي بحفظ سريع للملف من دون أي تحقيق جدّي، حتى بوجود أدلة.

من هنا، أضحى واجباً طرح السؤال التالي: هل فعلاً انتَحَرن أم أنهن انتُحِرن؟

العاملة الأثيوبية تيغيست تاديسي

دخلت بإجازة عمل وخرجت بإجازة ترحيل جثة هامدة. 21 عاماً سرقها لبنان من تيغيست في سنة وبضعة أشهر، في ظروف تطرح تساؤلات عدة حول حقيقة ما حصل.

أجبرت تيغيست تاديسي، العاملة الإثيوبية، على التكتم على التعذيب الذي كانت تتعرّض له. في “سجنها”، بالكاد كان يُسمح لها أن تكلم أحداً من أفراد عائلتها، وإن حصل ذلك فيكون تحت مراقبة الكفيلة ومن هاتفها. في الطرف الثاني من سماعة الهاتف، لم تكن شقيقتها تسمع كلاماً، فقط شهيقاً.

أتت تيغيست إلى لبنان لمساعدة والديها وتحسين ظروفها. لكن في الخامس من شباط/ فبراير 2019، انتهى كلّ شيء. فنحو منتصف الليل سمع ا.ص. صراخ زوجته فركض ليشاهدها في غرفة نوم العاملة، ويجد الأخيرة معلقة على حافة الشرفة وحول عنقها حبل، بحسب إفادته في محضر التحقيق.

لكن لابنته رواية مناقضة لم تتوسع النيابة العامة كفاية في التحقيق لتعلم بها. في تسجيل صوتي مع أهل العاملة، تقول الابنة: “تيغيست بالبيت عنا أخدت دوا وقتلت حالا حتى تموت، ما بعرف ليه. كانت عم تاخد من قبل وأنا ما كنت عارفة، عم تسعل. أخدتا عند دكتور، دفعت عليا مصاري حتى يعطيا دوا ت تصح.(…)  من بعد ما ضهرت هوسبيتل (مستشفى) اخدت دوا وماتت هيي بالبيت (بسبب) دوا التنضيف. وماما شافتا عالارض ميتة وماما صارت تصرخ وتبكي واخدنا ماما هوسبيتل (مستشفى) كمان (…)”. وتتابع في تسجيل ثانٍ “(…) نحنا تيغيست اهتمينا فيا صرنا نعاملا كأنو حدا من البيت عنا، وهيي ما بعرف شو صرلا قررت تاخد دوا ت حتى تموت وماتت. ما بق حدا يحكي على هيدا الرقم”.

هذا التسجيل الذي يطرح روايةً مختلفة تماماً عما سرده الكفيل ا.ص. لعناصر القوى الأمنية، من شأنه أن يغيّر مسار القضية التي قررت المحامية العامة في جبل لبنان القاضية كارمن غالب في 27 اذار/ مارس 2019 أن تحفظ ملفها، بعدما اكتفت بأخذ إفادة الزوج من دون إفادة الزوجة التي عثرت على الجثة، أو إفادة أي من أفراد العائلة أو الجيران أو شقيقة تيغيست.

روت تيغيست باكيةً لشقيقتها أكثر من مرة تعرضها للضرب فضلاً عن منعها من التواصل مع السفارة الإثيوبية وإجبارها على التكتم عن التعذيب

في الطرف الثاني من سماعة الهاتف، لم تكن شقيقة تيغيست تسمع كلاماً، فقط شهيقاً.

روت تيغيست باكيةً لشقيقتها أكثر من مرة تعرضها للضرب فضلاً عن منعها من التواصل مع السفارة الإثيوبية وإجبارها على التكتم عن التعذيب، إضافة إلى منعها من العودة إلى بلدها. أخبرتها مرة أنها كانت مريضة وغير قادرة على المشي وكانت “المدام” تضربها بسبب ذلك.

كان من الممكن أن يحصل القضاء هذه الأدلة التي حصل عليها موقع “درج” لو أدى واجباته وتوسّع في التحقيق لمعرفة سبب الوفاة الفعلي. لكنه قرر حفظ الملف في قضية يمكن أن تنطوي على “جريمة قتل” أو “حض على الانتحار” وهو جرم يعاقب عليه القانون.

تحقيقات “صوريّة” لضحايا “فئة عاشرة”

ما حصل مع تيغيست ليس “حادثة” استثنائية، إنما نهج. فكل أسبوعين تفتح القوى الأمنية تحقيقاً في “حادثة” وفاة عاملة في الخدمة المنزلية، بحسب أرقام زوّدتنا بها قوى الأمن الداخلي. عام 2017، فتحت القوى الأمنية 28 تحقيقاً بحوادث وفاة عاملات في الخدمة المنزلية، و25 تحقيقاً عام 2018، و13 عام 2019، حتى تاريخ 11 نيسان/ أبريل. لا يشمل هذا الرقم الحالات التي لم تفتح فيها القوى الأمنية محاضر تحقيق. كما أنه لا يشمل وفيات العاملات في المستشفيات نتيجة سوء الرعاية الصحية مثلاً.

ملفات كأنها لم تكن!

ويشير تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” عام 2008، إلى أن أكثر من عاملة أجنبية تموت أسبوعياً في الخدمة المنزلية. في تقرير للمنظمة نفسها تحت عنوان “بلا حماية: إخفاق القضاء اللبناني في حماية عاملات المنازل الوافدات” (2011)، تستعرض “هيومن رايتس ووتش” فشل القضاء اللبناني في تحقيق العدالة لعاملات المنازل الأجنبيات. فقد أثبتت المنظمة أن القضاء لا يحقق في حوادث وفاة العاملات في حالات عدة، وعندما يفعل يقتصر دوره على أسئلة عامة ويقبل إفادة أصحاب العمل من دون التحقق منها ومقارنة الوارد فيها مع معلومات من الجيران، أو من أقارب العاملات على سبيل المثال. وهو يصنف معظم الحالات على أنها انتحار، ولا يتخذ أي إجراء بخصوص صاحب/ة العمل.

ففي حالة واحدة من أصل 114 حالة راجعتها المنظمة، تمت ملاحقة صاحبة العمل بتهمة القتل أو التسبب في الوفاة، فيما تم حفظ الملف في القضايا الأخرى. في هذه الحالة، أدانت المحكمة صاحبة العمل بتهمة “القتل غير المتعمد”، لأن نيتها “لم تكن القتل، ولكنها ضربت العاملة لإرغامها على العمل”. وأصدرت بحقها حكماً بالسجن لمدة سنة ونصف فقط، على رغم من أن الحد الأدنى للعقوبة بموجب المادة 550 من قانون العقوبات اللبناني هو خمس سنوات، في حال كانت فعلاً الكفيلة تعاني من “وضع صحي وعصبي” وفق ما ورد في الحكم الصادر. هذا الحكم “النادر” من بين قرارات “حفظ الملف” بالجملة الصادرة عن القضاء من شأنه أن يفسر منهجية تعامل الأخير مع حالات وفيات العاملات.

كان من الممكن أن يحصل القضاء هذه الأدلة التي حصل عليها موقع “درج” لو أدى واجباته وتوسّع في التحقيق لمعرفة سبب الوفاة الفعلي.

حالة واحدة تمت فيها ملاحقة الكفيلة بتهمة القتل أو التسبب في الوفاة، فيما تم حفظ الملف في القضايا الأخرى.

الحال لم تتغير منذ 9 سنوات، بحسب ما يؤكد المحامي رولان طوق، الذي ساهم في تقرير “هيومن رايتس ووتش”. “كشفنا على الجثة، استمعنا لإفادة صاحب العمل الذي قال إنه عثر عليها ميتة، فتقرر حفظ الأوراق”، هذا هو المسار المتبع في التحقيقات في وفيات العاملات وفق طوق. و”يتبين بوضوح أن المشكلة نفسها إذا حصلت مع لبناني، يحقق فيها القضاء بجدية أكبر. فالتحقيقات في وفيات العاملات تحصل “بخفّة” باعتبار أنهن فئة عاشرة”.

وفي قضية تولاها طوق، كان على ظهر العاملة الأجنبية حرق واضح على شكل مكواة، تسببت به صاحبة العمل. ادعى القضاء على الأخيرة، وتم التحقيق معها ومع وزوجها، وادعيا أن الفتاة حرقت بعد خروجها من المنزل، ولم يتخذ القضاء أي إجراء إلا بعد ضغط من المحامي.

لا عدالة للينسا لاليسا

“كنت أتعرض للضرب يومياً بشريط كهربائي وقاموا بشد شعري وجرّي في كل أنحاء المنزل، فكرت بالهروب لكن لم يسمح لي بالخروج من المنزل”. هكذا تقول العاملة الإثيوبية لينسا لاليسا، في فيديو مصور لها في المستشفى في آذار العام الماضي. لم يحثّ الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامي صادر على التحقيق في ادعاءات التعذيب.

ففي 11 آذار 2018، كانت سرية الجديدة فتحت محضراً إثر “سقوط” العاملة لينسا، ابنة الـ21، من شرفة المنزل حيث كانت تعمل. وفقاً للمحضر، حقّق مع لينسا باللغة العربية. وروت أنها كانت تنشر الغسيل الخاص بها على المنشر خارج البلكون، واقفةً على طاولة بلاستيك لتصل إلى الشريط الخارجي الأخير، فانزلقت الطاولة إلى الخلف وسقطت هي إلى الأسفل. تتطابق إفادة لينسا وإفادة ك.ع. ابنة الكفيلة، علماً أن الأخيرة لم تكن في المنزل حينها.

في المحضر، سلمت القوى الأمنية بواقعة “السقوط” من دون التشكيك فيها. وقرر القاضي صادر حفظ الملف. ولم يعد تحريكه حتى بعد نشر صفحة this is Lebanon، التي تعنى بالانتهاكات بحق العاملات الأجنبيات في لبنان، الفيديو بعد أقل من شهر على الحادثة. حينها، فتح الأمن العام تحقيقاً بشبهة الإتجار بالبشر توصل فيه إلى أن لينسا لم تتعرض لأي تعذيب. وكان هناك تساؤلات من جهات حقوقية عدة حول الضمانات التي حصلت عليها لينسا خلال التحقيقات لا سيما بالنسبة إلى وجودها داخل منزل الكفلاء حينها.

اللافت، أن الفيديو كان بلغتها الأم، وأنها فضلت في مقابلة تلفزيونية بعد الحادث أحضرت فيها إلى الاستديو وهي على سرير نقال، التكلم بالإنكليزية وليس العربية، التي أشار محضر التحقيق إلى أنها تجيدها بشكل “وسط”. العاملة التي لم يسمح لها بالتواصل مع أهلها سوى مرة واحدة خلال الأشهر السبعة التي أمضتها لدى العائلة، عادت إلى المنزل نفسه الذي لم يدفع لها أي أجر منذ وصولها إليه.

وقد انشغل القضاء حينها، بطلب من العائلة، بملاحقة صحافيين تناولوا القضية، عوض انشغاله في الوقائع نفسها. ما يدل على أن القضاء اللبناني يهتم بإسكات العاملات الضحايا أكثر مما يهتم بإنصافهن.

كنت أتعرض للضرب يومياً بشريط كهربائي وقاموا بشد شعري وجرّي في كل أنحاء المنزل، فكرت بالهروب لكن لم يسمح لي بالخروج من المنزل

في أواخر أيار/ مايو هذا العام، نشرت صفحة this is Lebanon نفسها فيديو للينسا، بعدما عادت إلى منزلها في إثيوبيا. تروي لينسا فيه قصتها الكاملة، وكيف أنها لم تسقط يومها وإنما كانت تحاول الهرب من التعذيب. لو لم تبقَ لينسا على قيد الحياة، لكانت ربما أضحت خبراً آخر تحت عنوان “عاملة رمت بنفسها”.

الحض على الانتحار: جناية يعاقب عليها القانون

منذ إقرار قانون الاتجار بالأشخاص عام 2011، أصبحت السلطات اللبنانية ملزمة بالتحقيق بجميع حالات وفاة عاملات المنازل لمعرفة أسبابها ومدى حصولها نتيجة تعرّضهن للاستغلال. ترى المحامية غيدة فرنجية من “المفكرة القانونية” أن هذا القانون فرض مقاربة جديدة لحالات الانتحار التي قد تنتج عن الاستغلال. وتضيف فرنجية أنه “عندما تصل ظروف العاملة الى درجة العمل القسري أو الإجباري، نصبح أمام جناية الاتجار بالبشر التي يعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى 12 سنة في حال أدى الاستغلال إلى وفاة العاملة، حتى لو انتحرت”.

تلفت إلى أنه “ولغاية اليوم لم نرَ إرادة جدية لدى السلطات لتطبيق قانون الاتجار بالبشر في قضايا العمل المنزلي وللتحقيق في استغلال العاملات في الخدمة المنزلية”. وبحثت فرنجية وفريق عمل “المفكرة القانونية” في ملفات المحاكم المتعلقة بالاتجار بالبشر في العامين 2016 و2017، من دون إيجاد أي قضية تتعلق بعاملات المنازل.

نظام كفالة يشرّع العبودية… وظروف عمل “قاتلة”

يهتم نظام الكفالة بشؤون العاملات الأجنبيات في لبنان المستثنيات من قانون العمل. وبفعل هذا النظام لا تستطيع العاملة ترك عملها أو تغييره، من دون موافقة كفيلها، ما يخضعها لظروف العمل الجبري/ القسري. وبذلك تُرغَم على قبول شروط عمل تتسم بالاستغلال. لا وجود لقانون يعترف بنظام الكفالة في لبنان، بل مجرد مجموعة من الأعراف والممارسات الإدارية المعتمدة من قبل الأمن العام، بذريعة تنظيم دخول العمال الأجانب إلى لبنان.

منذ إقرار قانون الاتجار بالأشخاص عام 2011، أصبحت السلطات اللبنانية ملزمة بالتحقيق بجميع حالات وفاة عاملات المنازل لمعرفة أسبابها ومدى حصولها نتيجة تعرّضهن للاستغلال.

راهيل زيغيي، عاملة إثيوبية في لبنان، وناشطة في الدفاع عن حقوق العاملات من خلال تأسيسها لتجمع Mesawat، الذي يهدف إلى مساندة العاملات اللواتي يقعن في جور نظام الكفالة. في التظاهرة الأخيرة لعاملات المنازل في الخامس من أيار هذه السنة، وقفت راهيل في حديقة المفتي في فردان، تتكلم عبر مكبر الصوت مطالبةً بإلغاء هذا النظام، الذي ترى أمام عينيها كل يوم ضحية جديدة له. فالقصص التي تطارد راهيل قبل منامها كثيرة، تروي لنا غيضاً من فيض: عاملة يجبرها صاحب مكتب الاستقدام، الذي يحتجز جواز سفرها، منذ أشهر، على أن تعمل ساعات طويلة في بيوت عدة، مقابل أجرٍ يتقاضاه هو ولا ترى منه شيئاً. أخرى جارتها منذ 3 سنوات، لكنها لم تلتقها حتى الأمس. ثالثة ترسل لها طعاماً في الخفاء، كي لا تموت جوعاً، لأن أصحاب المنزل لا يعطونها طعاماً… وتكر السبحة. لا تنتهي الإساءة هنا، بل تطاول العاملات حتى بعد الموت. جثث كثيرة يمتنع أصحاب العمل السابقون عن إجراء معاملات خروجها من المستشفى. “إحداهن مرضت وتوفيت في مستشفى في لبنان، وأبقيت جثتها في البراد أشهراً حتى أصبحت شبه متحللة”، وتستطرد بالقول “والدة الفتاة، في إثيوبيا تخرج من المنزل كلما عوى كلب لترى إن كانت ابنتها قد عادت، فلا الابنة عادت ولا جثتها”. تطارد هذه القصص راهيل كما تطاردها ذكرياتها الماضية التي عاشتها لدى وصولها إلى لبنان منذ 21 سنة. فالشابة التي ترعرعت بعز لدى والدين من الكتّاب، لم تعمل يوماً في منزلها في إثيوبيا. الحياة كانت قاسية في لبنان حتى فكرت في الانتحار. كانت صغيرة لا تتقن العمل المنزلي، وكانت ربة المنزل الذي عملت فيه ساعات طويلة، تسيء إليها لفظياً وجسدياً، حتى أنها ضربتها مرة لأنها تناولت قطعة من الشوكولا، في وقت لم يكن مسموحاً لها أن تأكل. الظروف قادتها إلى منزل آخر كانت تعمل فيه عملاً مجهداً من دون توقف، وتعيش في خصوصية معدومة. ساعدتها منذ عقدين عاملة أخرى على الهرب إلى ظروف أفضل، وها هي اليوم تردّ المعروف إلى أخريات.

“والدة الفتاة في إثيوبيا تخرج من المنزل كلما عوى كلب لترى إن كانت ابنتها عادت”

من أصل 32 عاملة شملها تقرير لمنظمة العفو الدولية، صادر في نيسان 2019 تحت عنوان “بيتهم سجني”، أعربت 6 عن ورود أفكار انتحارية لديهن أو عن محاولتهن الانتحار بسبب ظروف عملهن. وثّق التقرير من خلال شهادات العاملات أنواعاً عدة من الاستغلال تشمل: ساعات العمل الطويلة، الحرمان من يوم إجازة أسبوعي، عدم دفع الأجور، حجز الحرية وحرية التواصل مع الآخرين، مصادرة جوازات السفر، تقييد طعام العاملة بالفضلات أو بكميات قليلة، مبيتها في المطبخ أو على البلكون أو غرفة التخزين، إساءة المعاملة اللفظية والجسدية بما يشمل الضرب والخنق وشد الشعر ورطم الرأس بالجدار، والتعديات الجنسية.

رسم لرواند عيسى

هذه الظروف “تستوجب على العاملة أن تفرّغ ما يحتقن داخلها على شكل أذية نفسها أو الآخرين”، كما توضح المعالجة النفسية والمتخصصة في علم النفس الاجتماعي ماجدة حاتم. وتشير إلى أن هذه العملية قد تصل في حدودها القصوى إلى انتحار العاملة، لكونها الوسيلة الوحيدة المتبقية لديها للرد على العنف الممنهج الذي تعانيه.

الإعلام “متواطئ” أيضاً

عدد كبير من الوسائل الإعلامية شريك القضاء والقوى الأمنية في الإخفاق في تحقيق العدالة للعاملات الأجنبيات، وذلك من خلال المسارعة إلى إعلان “انتحارهن”.

52 في المئة من المواقع الإخبارية، تبنّت رواية قتل العاملة المنزلية لنفسها، عن طريق اعتمادها على بيانات القوى الأمنية أو مصادر “شهود عيان” كالجيران مثلاً، أو عبر نقل أخبار الوكالة الوطنية للإعلام او غيرها، عوض إعلان نتيجة يفترض بالقضاء أن يعلنها. حتى في الحالات التي يصعب تصديقها، كأن تخنق العاملة نفسها بـ”ربطة شعر”، أو أن تطعن نفسها بالسكين أكثر من مرة في رقبتها، أو أن تنتحر عاملتان لدى العائلة نفسها في فترات زمنية متقاربة، تبنى الإعلام رواية الانتحار من دون التشكيك أو النقد ولا السعي إلى معرفة الحقيقة.

من أصل 32 عاملة شملها تقرير لمنظمة العفو الدولية، صادر في نيسان 2019 تحت عنوان “بيتهم سجني”، أعربت 6 عن ورود أفكار انتحارية لديهن أو عن محاولتهن الانتحار بسبب ظروف عملهن.

هذا الإحصاء استند إلى توثيق أجرته جمعية “كفى” بالتعاون مع “حركة مناهضة العنصرية”، لحوادث وفيات العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية في لبنان، واعتمد بالتالي على الوسائل الإعلامية المذكورة فيه.

52 في المئة من المواقع الإخبارية تبنّت رواية قتل العاملة المنزلية نفسها

في 47 في المئة من حالات “السقوط”، تبنّت الوسائل الإعلامية رواية رمي العاملة نفسها، فيما يؤكد الأطباء الشرعيون استحالة معرفة ما إذا كانت العاملة التي توفيت نتيجة السقوط قد رمت بنفسها، أم سقطت، أم “رمي بها”، ما لم توجد عليها آثار عنفية مثلاً. وبالأخذ في الاعتبار أن التحقيقات لا تتم كما يجب، يمكن استنتاج أن حتى رواية “رمت بنفسها”، التي تصدر بعد انتهاء التحقيق، تستدعي الشك.

الجدير بالذكر أنّ أكثر من نصف “حوادث” وفيات العاملات لا تصل الى وسائل الإعلام. فعام 2018، نشرت وسائل الإعلام 13 حالة وفاة فيما فُتح 25 محضر تحقيق لدى القوى الأمنية. وعام 2017، تداول الإعلام 8 حالات وفاة من أصل 28 حالة فتح فيها محضر.

شارك في إعداد التحقيق: اليسا مدور – ليلى يمين

هذا التحقيق أنجز بدعم من Open Media Hub وبتمويل من الاتحاد الاوروبي

“هذا هو لبنان”: عن نظام الكفالة الذي يستعبد العاملات شرعاً