fbpx

حذف حلقة “عصير الكتب”: نقد التاريخ وكلام السلطان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كثر قدموا قراءات تنقيحية للتاريخ العربي الإسلامي. ما يجمع هذه القراءات هو عدم رغبة أصحابها في المضي إلى جذور النقد لأسباب تتعلق بهم، منها ما يتعلق بطلب السلامة في أزمنة التكفير والاغتيالات الجسدية والمعنوية، ومنها ما يتصل بالإيمان الديني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يبدو أن مضمون حلقة برنامج “عصير الكتب” المحذوفة، لم يتجاوز ما يكتبه الباحث المصري المقيم في الولايات المتحدة أحمد صبحي منصور، منذ عقود، حيث ينفي صحة كل ما وصل إلينا من السنّة والسيرة النبويتين والأحاديث، متذرعاً بتأخر تدوينها كلها والشبهات التي تحوم حول صدق المحدثين والرواة.

تناول عدد من الكتّاب مسألة إزالة حلقة البرنامج الذي يعده ويقدمه الصحافي والكاتب بلال فضل من قناة “العربي”، عن موقع القناة، واعتذار هذه الأخيرة عن ورود ما قالت إنه إساءات إلى الخلفاء الراشدين، من زاوية حرية التعبير والحق في النشر. ثم تطرق آخرون إلى أصل المحطة وفصلها ومموليها وداعميها واتهموها بتبني نهج معاد للإسلام، ربطاً ببرنامج آخر تبثه “العربي” بعنوان “قراءة ثانية” وبحثت إحدى حلقاته في علاقة الإسلام بالدولة. نتجاوز في الأسطر التالية قضية حرية التعبير – على أهميتها- وتمويل القناة التلفزيونية و”تصيد الأخطاء” واستغلال “الزلة”، بحسب بيان القناة، لنلتفت إلى ما يقوله الدكتور منصور، في العشرات من كتبه وفي المئات من حلقاته، التي يبثها على قناة خاصة به على موقع “يوتيوب”، على أن نعود في الختام إلى العلاقة بين ما يقوله منصور وبين حال الإعلام والسياسة والمال.

ينتمي منهج منصور إلى ما يعرف بالكتابة “التنقيحية” للتاريخ، وهذا مصطلح مترجم من اللغات الأجنبية (Revisionist)، ويعرّب في بعض الاحيان بـ”التعديلي”، ليصبح “تحريفياً” عند دخوله ساحة المواجهة الايديولوجية. وقد أكثر الماركسيون من استخدامه في اطار الخلافات بين الستالينيين والتروتسكيين، ثم بين السوفيات والماويين، ووجه إلى كثر آخرين مغفلاً الجانب الإيجابي للمراجعة التاريخية ومسلطاً الضوء على السمة السلبية للانحراف عن التعاليم الماركسية السليمة وهذه، بداهة، حمالة أوجه وتفسيرات، وساحة رحبة للتنابذ السياسي والحزبي.

 

كثر في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي، بعضهم جدي وبعضهم الآخر استعراضي، قدموا قراءات تنقيحية للتاريخ العربي الإسلامي. ما يجمع هذه القراءات هو عدم رغبة أصحابها في المضي إلى جذور النقد لأسباب تتعلق بهم، منها ما يتعلق بطلب السلامة في أزمنة التكفير والاغتيالات الجسدية والمعنوية، ومنها ما يتصل بالإيمان الديني والاعتقاد بأن النقد الجذري هو الكفر بذاته.

 

المهم أن منصور الذي شيد عمارة كبيرة من نقد الإسلام السائد، بمذاهبه السنية والشيعية كافة وبطرائقه الصوفية، اختار حداً معيناً لنقده ووقف عنده. فهو يرفض كل السير والأحاديث، على ما سبق القول، ويحيل الإسلام إلى مصدر واحد هو القرآن. ويسمي نفسه ومريديه “القرآنيين” أو “أهل القرآن”، وهذا أيضاً اسم موقع كبير على الشبكة الإلكترونية يحتوي على مقالات منصور وكتبه وآرائه في شؤون الدين والتاريخ والاجتماع.

منهجياً، يحق للباحث التوقف عند الحد الذي يراه مناسباً في نقده، وألا يذهب إلى الجذور. وهذا ما فعله منصور في اعتباره القرآن المصدر الوحيد للإسلام بكليته ووصفه كل ما وصل من تراث ديني بـ”الهدس” أو “كلام المصاطب” الخ… وصولاً إلى إطلاقه صفات مهينة على الصحابة والتابعين وأهل البيت وغيرهم ممن يجلهم المسلمون ويوقرونهم. الصراع بين “أهل الحديث” و”أهل القرآن”، ليس بجديد في الإسلام، وإن كان الانتصار الكاسح الذي حققه أهل الحديث عتم على مقولات القرآنيين وحطم مقولاتهم، التي لا تتعلق بالجوانب الفقهية المحض وحسب، بل كانت تحمل أيضاً سمات اجتماعية وسياسية شتى. ولاستعادة حديثة للخلاف الكبير بين الجماعتين، تصح العودة إلى كتاب المؤلف الراحل جورج طرابيشي “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”، مدخلاً معاصراً للتعرف إلى بعض أوجه الحياة الفكرية المهملة في العصور الإسلامية المبكرة، وحول ظهور المذاهب وشخصياتها المؤسسة.

لكن، بالعودة إلى مقولات منصور، من حق باحث آخر، أن يطرح سؤالاً منهجياً إضافياً: لماذ التوقف عند القرآن وعدم مساءلة تاريخيته وصحته على ما فعل عدد من الكتاب العرب والمستشرقين، وقوبلوا برفض أشد من ذاك الذي يقابل منصور به؟ ثمة كتابات معروفة تصل بالنقد إلى جذور النص المقدس وتاريخيته ومصادره المعرفية والقصصية. وهي مؤلفات متاحة إن لم يكن في أسواق الدول العربية والإسلامية ومكتباتها، فعلى شبكة الانترنت.

طبعاً لا تهمنا هنا الأقوال السطحية، ولا استئناف التجريح الصبياني بعقائد المسلمين، بل نريد القول إن الدرجة التي يتوقف عندها النقد، مثل توقف منصور عند السيرة والأحاديث والتاريخ الإسلامي واعتماده القرآن مرجعاً وحيداً، تعكس في غالب الأحيان مضموناً سياسياً واجتماعياً، على غرار ما يعكس كل فكر انتماءه. وإن الموضوعية العلمية في النقد، خصوصاً عندما تصل إلى مسألة حساسة مثل نقد الدين ونصوصه المقدسة، تعرف مسبقاً أنها تدخل حقل ألغام سياسية قبل أن تكون منهجية أو ابيستيمولوجية. وتتصرف بموجب ما تمليه هذه المعرفة من حذر أو اندفاع إلى مغامرة علمية تنأى عن الحسابات السياسية.

كثر في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي، بعضهم جدي وبعضهم الآخر استعراضي، قدموا قراءات تنقيحية للتاريخ العربي الإسلامي. ما يجمع هذه القراءات هو عدم رغبة أصحابها في المضي إلى جذور النقد لأسباب تتعلق بهم، منها ما يتعلق بطلب السلامة في أزمنة التكفير والاغتيالات الجسدية والمعنوية، ومنها ما يتصل بالإيمان الديني والاعتقاد بأن النقد الجذري هو الكفر بذاته.

فمن جهة، حذف حلقة منصور يعزز هذين الاعتقادين ويساهم عملياً في تضييق دائرة التساؤل والتفكير النقدي، سيان أكانت طروحات الباحث المصري تستحق التداول والنقد والتأييد والاعتراض أم لا. ومن جهة أخرى، ما يضيف على كل موقف مختَلِف صفة التهديد والخروج عن طاعة السلطان وممثليه الاجتماعيين والإعلاميين، وفي هذا مكسب ليس للوعي السائد فقط، بل أيضاً لما يقول التنقيحيون، من دون أن تكون أقوالهم قد عرضت على محكمة النقد التي يدعون الانتماء إليها.

إسلام إماراتي في مواجهة الإسلام القطري والسعودي