fbpx

باسم يوسف: السخرية لا تغير شيئاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سألته، “إذا كانت مصر تغرق، فما السبيل لإنقاذها؟ أين ذهب الأمل؟”، تنهد يوسف بعمق وقال، “حسناً، كلنا خسرنا. كلنا هُزمنا. علينا فقط الاعتراف بذلك”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لأنه جرّاح قلب، اعتاد باسم يوسف على شق صدور مرضاه بحثاً عن المرض في داخلهم. في ما بعد، عندما أصبح إعلامياً ساخراً، فعل الشيء ذاته تقريباً، لكن المريض كان وطنه مصر، وكانت الأمراض مستعصية، منها الجهل والنفاق. في قمة حياته المهنية كان سكان مصر (ثلثهم تقريباً) يشاهدون برنامجه السياسي الساخر الأسبوعي. عاين يوسف الأوضاع في مصر في فترة ولاية رئيسين وقاد حماسة البلاد في مرحلة ما بعد الثورة.

لكن في نهاية المطاف، عكست مسيرة يوسف المهنية الحظوظ العاثرة للثورة المصرية: فقد لمع نجمه خلال موجة من الأمل، كانت مدعومةً بحرية النشر الجديدة عبر الإنترنت، لكن فجأة سحقت قوة نظام عبد الفتاح السيسي القمعية، برنامجه وأيضاً تفاؤله.

عندما تقابلنا في بهو فندق “كنسينغتون”، بدت بعض الهزيمة على ملامحه على الأقل في بداية كلامنا. كان يوسف (45 سنة)، بقميصه الأبيض الضيق وعينيه الزرقاوين الحادتين، يتحدث بطريقة أكثر جدية مما قد توحي به شخصيته الساخرة على الشاشة.

كان الطب هو ما ساق يوسف إلى الكوميديا. ففي أوج الثورة المصرية في كانون الثاني/ يناير عام 2011، ذهب إلى ميدان التحرير لتقديم المساعدة الطبية للمتظاهرين. وهناك شعر بالإحباط من الطريقة التي تنزع بها وسائل الإعلام المصرية الشرعية عن المتظاهرين السلميين، من خلال تشويه صورتهم ووصفهم بالمحرضين الممولين من جهات خارجية؛ مثل المخابرات الأميركية وإيران.

وفي آذار/ مارس، بدأ يوسف نشر حلقات هزلية على “يوتيوب” لتقديم خطاب مضاد لرواية الإعلام الحكومي. سخرت الحلقات -التي لا تتجاوز مدة كل منها الخمس الدقائق- من تغطية الإعلام للثورة، وعلى رغم بساطة الحلقات وعدم وجود أيّ ميزانية لإنتاجها، إذ كان يصورها يوسف في غرفة الغسيل بمنزله، فقد حققت 5 ملايين مشاهدة في ثلاثة أشهر.

ثم اتجه سريعاً إلى التلفزيون وأطلق برنامج “البرنامج” في العام نفسه. جمع البرنامج بين الهجاء السياسي والمقابلات والقصص التمثيلية الفكاهية. وأطلق على باسم يوسف لقب “جون ستيوارت” مصر، نسبة إلى الكوميدي الأميركي الذي لطالما أحبه يوسف واعتبره مثله الأعلى. وفي ما بعد سيستضيف كل منهما الآخر في برنامجه. لكن في حين كان برنامج ستيوارت يجتذب مليوني مشاهد في الليلة الواحدة، كان حوالى 40 مليون مشاهد في مصر وحدها يتابعون برنامج يوسف، أيّ حوالى ثلث سكان مصر، ناهيك بجمهوره العريض في جميع أنحاء العالم العربي. وعام 2013 صنفته مجلة “تايم Time، ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم.

ومن خلال السخرية استطاع باسم يوسف إثارة مواضيع معقدة وحساسة داخل المناقشات العامة، لكن كان دائماً لديه هدف أعظم وأسمى. فقد أخبرني أنه حتى تكون زعيماً مستبداً فإنك تحتاج إلى شيء واحد: ألا وهو الخوف.

وأضاف: “إذا انتزعت الخوف من أيدي الطغاة، فلن يعود لديهم شيء. وإذا استطعت أن تسخر من الخوف، فلن تبقى خائفاً بعد الآن”. وبسبب السخرية، آمن يوسف بأن المستقبل سيكون أفضل. وقال: “ما دمت أستطيع السخرية، سيظل عندي أمل”.

 

يعتقد يوسف أن على البلاد تجاوز مرحلة الثورة والتطلع إلى ما بعدها وذلك حتى تستطيع المضي قدماً. يردف، “ما زال الناس يفكرون بعقلية 2011 ذاتها، حيث كانوا يتظاهرون ويكتبون لافتات مضحكة”. وقتها كان يمكن للسخرية أن تزدهر، وكانت الفعاليات السياسية ومنصات التواصل الاجتماعي تحدث فارقاً. ربما علينا الإقرار بأن ذلك الزمن ولى

 

يُعرف المصري في العالم العربي بأنه “ابن نكتة”، وذلك بسبب حس الدعابة العالي لدى المصريين. لكن قبل باسم يوسف، لم يسبق أن سخر أحد رواد الكوميديا مباشرةً من الزعماء السياسيين. ولأنه أول من يفعل ذلك، أصبح بمثابة مقياس لحرية الرأي في فترة ما بعد الثورة بمصر. وكثيراً ما تم اختبار ذلك المقياس، فقد قُدمت شكاوى ضده وضد برنامجه، من بينها دعاوى قضائية تتهمه بإهانة الإسلام والجيش والرئيس بل وحتى اتهامات مبهمة بـ”تمزيق نسيج المجتمع”.  

وفيما كانت التظاهرات والاشتباكات والمجازر أموراً مألوفة وشائعة، سأل يوسف متى، إن سبق وحدث ذلك، كان هناك وقت غير مناسب لإطلاق النكات؟ قال يوسف، “كان هذا هو صراعنا اليومي”. أوقف يوسف عرض برنامجه مرة واحدة فقط، بعد أحداث شغب في مبارة لكرة القدم عام 2012 راح ضحيتها 72 مشجعاً. يقول عن ذلك، “لكنني أدركت أننا في منطقة حرب. وأن هذه هي حياتنا المعتادة كل يوم. لذا، ماذا علينا أن نفعل، نظل في منازلنا؟”. مع ذلك، لم يلغ يوسف عرض البرنامج عندما قتل الجيش حوالى ألف متظاهر في يوم واحد في ميدان رابعة العدوية في القاهرة، وإن كان ناضل من أجل ترجمة هذه الفظائع في صورة كوميدية. قال يوسف، “كانت تلك هي الحلقة الأصعب في البرنامج. فقد سخرنا للتو من شعورنا الكبير بالخوف والارتباك. ولم ندر ما يجب علينا فعله أو قوله”.

وعلى مدار ثلاث سنوات، تحدى يوسف رئيسين وانتَقدهما. وصمد خلال رئاسة محمد مرسي، وهو الرئيس التابع لجماعة الإخوان المسلمين المُنتخب بعد الثورة، وما بعدها. وأكسبته سخريته من مرسي شعبية كبيرة وجعلته يبدو صاحب بصيرة عندما أُطيح بمرسي عام 2013 بانقلاب عسكري. لكن أثبت السيسي -الذي جاء خلفاً لمرسي- أنه خصم أكثر صرامة، مع تحول السلطة السياسية من الإسلاميين إلى الجيش. يقول يوسف، “في ذلك الوقت، كان السيسي بمثابة إله”. وقد سخر بشجاعة من انصياع مصر لرئيسها الجديد وهيامها به.

لكن سرعان ما بات المناخ السياسي المصري في غاية الخطورة. فقد فرضت غرامة قدرها 100 مليون جنيه (أيّ 13 مليون دولار وقتها) -وهو مبلغ لم يسبق له مثيل- على يوسف وشركته بسبب نزاع على عقد، ويقول باسم إن الشرطة داهمت مكاتبه. لذا، أوقف عرض البرنامج في حزيران/ يونيو عام 2014، لافتاً إلى إنه لم يعد يشعر بالأمان.

سألته لماذا نجح الجيش في إسكاته بينما فشل الإسلاميون في ذلك. فرد، “يمتلك الجيش 60 عاماً من الخبرة ومن ورائه دولة عميقة تسانده. الفرق بين مرسي والسيسي هو أن أحدهم حاول أن يكون ديكتاتوراً وفشل، والآخر حاول ونجح”.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2014 فر يوسف إلى دبي. والآن يقيم في لوس أنجليس مع زوجته وطفليه، ونجح في تأسيس حياة مهنية في الولايات المتحدة من خلال بث تدوينات صوتية، ونشر كتاباً وبعض العروض الكوميدية التي كانت كلها باللغة الإنكليزية، لغته الثانية. لم يرجع يوسف إلى مصر، لكنه يتحدث بحماسة عن عرضه الفردي الذي يحكي قصته، والذي عرض لأول مرة في لندن يوم 19 حزيران.

على رغم تفاؤله بمستقبله في أميركا، لم يغادر يوسف مصر سالماً. إذ لم يعد يمجد القدرة على السخرية وحرية التعبير بلا تحفظ، وبات يبذل جهداً كبيراً في توضيح حدود كل منها. ويبدو قلقاً تحديداً من أن السخرية قد تولد الرضا بالوضع القائم، وأن المشاهدين قد يضحكون على من لا يعجبهم من السياسيين، ثم يكتفون بذلك ويَتقاعسون عن الذهاب للتصويت في الانتخابات. ويوضح أن برامج السخرية والهجاء السياسي في الولايات المتحدة فشلت في منع دونالد ترامب من الوصول إلى سدة الحكم. ويقول، “الناس لا يفوزون في الانتخابات بالسخرية. السخرية لا تغيّر الأوضاع. الشعب هو من يغيّر الأوضاع”.

تغيرت مصر كثيراً عما كانت عليه خلال فترة بزوغ نجم باسم يوسف. إذ تواصل الأسعار ارتفاعها ويستمر السيسي في قمع المعارضين السياسيين. وأقر استفتاء أجري في نيسان/ أبريل الماضي تعديلات دستورية من شأنها تمديد فترة حكم السيسي حتى 2030، على رغم انخفاض عدد المصوتين. بدا كما لو أن أمل الشباب، والذي كان المحرك لثورة 2011، قد انطفأ بالفعل. ومن اللافت أنه لم يظهر أشخاص آخرون يعوضون غياب باسم يوسف.

يعتقد يوسف أن على البلاد تجاوز مرحلة الثورة والتطلع إلى ما بعدها وذلك حتى تستطيع المضي قدماً. يردف، “ما زال الناس يفكرون بعقلية 2011 ذاتها، حيث كانوا يتظاهرون ويكتبون لافتات مضحكة”. وقتها كان يمكن للسخرية أن تزدهر، وكانت الفعاليات السياسية ومنصات التواصل الاجتماعي تحدث فارقاً. ربما علينا الإقرار بأن ذلك الزمن ولى. ويسأل يوسف، “كم عدد الهشتاغات التي كتبها الناس على مدار العامين الماضيين؟ هل غيرت تلك الهاشتاغات أيّ شيء؟”.

لذا سألته، “إذا كانت مصر تغرق، فما السبيل لإنقاذها؟ أين ذهب الأمل؟”، تنهد يوسف بعمق وقال، “حسناً، كلنا خسرنا. كلنا هُزمنا. علينا فقط الاعتراف بذلك”. ينصب تركيزه الكامل الآن على مستقبله في أميركا، حيث يطور مسيرته المهنية باللغة الإنكليزية وتعيش أسرته معه في لوس أنجليس. وهنا أرى أن حديثنا أرهق يوسف، ولم يعد هناك وقت سوى لسؤال إضافي واحد، “هل اكتفيت من الكلام عن مصر؟”، مال إلى الخلف وارتسمت على وجهه ابتسامة ثابتة منهكة، كما لو أن حديثنا انتهى، وقال، “نعم”.

 

هذا المقال مترجم عن ft.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي