fbpx

عن رضا عازار والاعتداء “الأمني” المزدوج

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مرّة جديدة، تستخدم القوى الأمنية دعاوى التعامل بشدّة مع عناصرها لثني المواطنين عن التقدّم بدعاوى ضدّ قوى الأمن، وجرجرتهم إلى محكمةٍ يستسلم أصحاب الحقّ بمجرّد سماعهم اسمها: المحكمة العسكريّة. فكيف إذا كانت صاحبة الحقّ امرأةً، ضُربت، وأُهينت، وحُرمت من حقّها في الحصانة، وقُذفت بتهم “العهر” المعتادة على لسان عنصرٍ أمني وصفحات المنبر الرسمي لقوى الأمن الداخلي؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قد نتعاطف أحياناً مع بعض الموظّفين الأمنيّين، إحساساً منّا بما يصيبهم من أذى وإذلال تحتّمهما هرميّة الآمر والمأمور، ونطالب معهم وعنهم بحقوقهم المعيشيّة، ونقدّر تضحياتهم المبذولة في مفترقات طرق هامّة. بيد أنّ المشاعر تلك لن يكون بمقدورها يوماً إخفاءَ حقيقة أنّ أسلحتهم مشهورة دوماً في وجوهنا نحن، ونادراً جدّاً في وجوه المتربّصين بنا والمتحكّمين بمصائرنا. فكيف بالحري إذا اجتمعت مظاهر القوّة بأقصى تجليّات الذكوريّة، وكانت ضحيّة العسكري امرأةً “أقوى” منه؟

ما حصل مع رضا عازار، خير تجسيد لذلك. وبدلاً من أن تلقى تلك السيّدة شيئاً من الدعم والعدالة بعد تعرّضها للإهانة والضرب، وُوجهت بتعاطف شريحةٍ واسعة من الجمهور، لا معها، بل مع المعتدي عليها، والفضل يعود إلى فيديو غريب الصنع من توقيع قوى الأمن الداخلي.

يوم 12 حزيران/يونيو 2019، في حياة رضا عازار، ليس كما قبله. ففي وضح ذلك النهار، تعرّضت عازار، وهي عضو الهيئة الوطنيّة لحقوق الإنسان المتضمّنة لجنة الوقاية من التعذيب في لبنان، لضربٍ مبرح أدّى إلى كسور في أنفها وأضرار في وجهها. لم يتعدَّ عليها رجل غريب باغتها في الشارع أو حبيبها أو أحد أفراد أسرتها، إنّما عنصر في قوى الأمن الداخلي موكل حمايتها، ربّما استفزّته مطالبتها له “بخفض صوته قليلاً” لتتمكّن من التركيز على اتّصالها، فاستنفر قواه وعنفوانه.

عند النقطة الأمنيّة العائدة للحرس الحكومي التي تتولّى حراسة مدخل زوّار السرايا الحكوميّة وسفارة الاتّحاد الأوروبي في بيروت، ضربها العنصر البطل. كانت عازار يومها متّجهةً إلى السفارة لحضور اجتماعٍ فيها، لتُفاجأ عند وصولها مع السائق إلى مدخل السفارة بأنّ لائحة المدعوّين لا تتضمّن اسمها، هي التي عملت على تنسيق الاجتماع على مدى أسابيع.

يفسّر غياب اسمها رفض العنصر السماح لها بدخول المبنى قبل التواصل مع رؤسائه وإجراء اللازم، غير أنّه حتماً لا يفسّر التحقير والإهانات التي تستذكر عازار كيف أخذ يكيلها ضدّها منذ المراحل الأولى من احتكاكهما، والتي لا يُظهرها الفيديو الصامت الذي نشرته قوى الأمن الداخلي على صفحاتها دفاعاً عن نفسها وعن عنصرها الذي بدا بصورة الصابر على انفعالات عازار والمتفاني في تطبيق القوانين والأوامر. لا يُظهر الفيديو حتّى لحظةَ الضربة القاضية التي أدخلت عازار إلى المستشفى، والتي قد تكلّفها عمليّةً جراحيّةً في الأسابيع القليلة المقبلة.

“لم أستطع فصل كوني امرأة عمّا حصل لي. شهدتُ كيف شعر العنصر بأنّه يمتلك الحقّ في تربيتي لمجرّد أنني امرأة واجهته ورفضت تعامله السيّء معها ومع السائق”. بهذه الكلمات، تعلّق عازار على ما حصل معها لـ”درج”. وتتابع، “نزلتُ من السيّارة لأُجري بعض الاتّصالات، طلبتُ من العنصر خفض صوته، توتَّرت الأجواء بيننا، تهجّم على السائق، وبدأ بكيل الشتائم ضدّنا… “انقبري طلعي بالسيّارة”، “رح أعمل وسوّي فيكي”، “يا شرموطة” هي بعض العبارات التي سمعتُها”.

حاول عنصر الأمن والسيّدة عازار استكمال الاتّصالات مع المعنيّين في السفارة لتسوية الأمر وإخماد نذير الاحتدام، لكن بغير جدوى، ذلك أنّ حالة التوتّر بين الطرفين ظلّت تتصاعد، رغم محاولات شخصَين آخرَين تهدئة الوضع. “حاول التهجّم عليّ مرّات عدّة، وجلّ ما فعلتُه أنّني هممتُ بالدفاع عن نفسي كما يُرجَّح أن يفعل أيّ شخص يتعرّض للهجوم”، كما توضح عازار لـ”درج”. وتضيف، تعليقاً على الفيديو الذي نشرته قوى الأمن على صفحتها، “لم أكن أنوي الاعتداء على العنصر، كنتُ أحاول فقط أخذ الهاتف منه لأصحّح ما كان يقوله عنّي وأوقف مهزلة الشتائم التي كان يلفظها خلال اتّصاله، الأمر الذي لم يظهر في الفيديو الصامت أصلاً، والمُركّب، والخالي من أي مؤشّر لتسلسلٍ زمني واضح”.

نشرت قوى الأمن هذا الفيديو على صفحتها الرسميّة، ذاكرةً اسم رضا عازار في صلب عنوانه، متسبّبةً بشنّ حملة تحقير وتهديد إلكتروني واسعة وحشد جوقة ذكوريّة ضدّها لم تتوقّف إلى اليوم. وفي هذا الإطار، يستغرب رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان، وديع الأسمر، إقدام قوى الأمن على خطوةٍ  كهذه، شارحاً لـ”درج” إنّه “من غير المقبول أن تعمد جهة أمنيّة إلى الاستخدام الرسمي لفيديو من هذا النوع، رأينا كيف شرّع الأبواب أمام تعرّض جمهور واسع لضحيّةٍ اعترفوا في بيانهم أن عنصراً تابعاً لهم صفعها، وفتح المجال أمام حملة تنمّر إلكتروني قد تنتقل في أيّ لحظة إلى أرض الواقع وتُعرّض عازار لشتّى أنواع الخطر”، داعياً قوى الأمن الداخلي إلى حذف الفيديو بأسرع وقتٍ ممكن.

“خلال التدافع، أقدم الرقيب على صفعها، فأصاب النظّارات الشمسيّة التي كانت تضعها ممّا ضاعف من شدّة الإصابة بوجهها”. وردت هذه الجملة حرفيّاً في بيان نشرته قوى الأمن الداخلي يوم السبت 29 حزيران/يونيو، ردّاً على رواية الضحيّة التي أضاء عليها المركز اللّبناني لحقوق الإنسان في مؤتمر صحافي عقده يوم الجمعة 28 حزيران/يونيو.

استنبط البيان وفيديو قوى الأمن صورة المرأة “المْشَلْفِة” التي تضع نظّارات شمسيّة وتتباهى بنفسها. تحوّلت النظّارات إلى تبرير وجيه لشدّة الإصابة، أمّا لكمة العنصر، فتفصيل ثانوي ربّما.

انتظرت عازار لأكثر من ساعة وصول الصليب الأحمر إلى المكان، بعدما عاودت الاتّصال به بنفسها. أمضت ساعات طويلة في مركز كليمنصو الطبّي في منطقة الحمرا، تتلقّى العلاجات الأوليّة وتنتظر وصول الشرطة لتدلي بإفادتها. وحين وصل عناصرها متأخّرين، بدا وكأنّ المكيدة قد حاكها ملوكُها. فخلال انتظارها مَن يأتي للاستماع إليها وتوثيق ما تعرّضت له، كان المُعتدي عليها منشغلاً بتغيير حبكة الرواية عبر مبادرته هو إلى تقديم شكوى ضدّها.

جُيّشت ماكينة رسميّة بأكملها، بعناصرها ومراحلها المُصمّمة بعناية: اعتداء، شكوى، شكوى مضادة، تقرير طبّي ظالم، حصانة مُنتهكة، فاستدعاء وتنازل.

لم تستوعب عازار كيف غدت هي فجأة المّدعى عليها التي تُسأل وتُستجوَب في حين أنّها هي القابعة في المستشفى، تتألّم من كسورٍ جسديّة وتفسيّة لم تستحقّ بنظر الطبيب الشرعي تعطيلاً يدوم أكثر من 10 أيّام استُكثرت عليها وعلى الحقّ العام.

تطلّب الأمر بضعة أيّام من الاختلاء مع الذات المصدومة والمُربَكة لتدرك عازار عمليّاً ما تعرفه كناشطة حقوقيّة نظريّاً، عن مدى إتقان النظام لعبة التكاتف بين أعمدته واستحضاره التلقائي لوصفة التنسيق الجاهزة بين مختلف أذرعته الآيلة في نهاية المطاف إلى إحباط عزيمة صاحب الحقّ وإلباسه حلّة المتّهم، مع التكرّم بشيء من الاعتراف بالخطأ تحقيقاً للتسوية المعتادة.

بعد ثمانية أيّام من الحادثة، استُدعيت عازار إلى مفرزة الاستقصاء المركزيّة في قوى الأمن الداخلي وأسقطت شكواها مقابل إسقاط العنصر شكواه ضدّها. حصل كلّ شيء بسرعةٍ مدروسة لم تعطِها المجال الكافي للتفكير واستشارة الخبراء وممارسة حقّها في الحصانة الذي يمنحه لها القانون رقم 62 القاضي بإنشاء الهيئة الوطنيّة لحقوق الإنسان، والذي أقرّه المجلس النيابي اللّبناني عام 2016 واستُتبع بمرسوم تسمية أعضاء الهيئة العشرة في أيّار/مايو 2018. ووفق وديع الأسمر، فإنّ “استدعاء رضا يشكّل انتهاكاً صارخاً للدستور والقانون الذي منح أعضاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان الحصانة الكاملة ومنع استدعاءهم من دون إذنٍ من الهيئة. لذا، على جهاز التفتيش القضائي التحقيق العاجل في هذه المسألة وملابساتها كافّة”.

ويتابع الأسمر، “طالبنا بتحقيقٍ جدّي وشفّاف في القضيّة، فقيل لنا إنّ العنصر سيُعاقب، لكن لم يعلمونا بطبيعة العقوبة المسلكيّة التي اتُّخذت بحقّه، وما كنّا لنتحرّك بهذا الشكل أصلاً لو علمنا أنّ العنصر فعلاً عوقب، وكيف عوقب. ورضا عازار لم تكن تطلب أكثر من ذلك”.

مرّة جديدة، تستخدم القوى الأمنية دعاوى التعامل بشدّة مع عناصرها لثني المواطنين عن التقدّم بدعاوى ضدّ قوى الأمن، وجرجرتهم إلى محكمةٍ يستسلم أصحاب الحقّ بمجرّد سماعهم اسمها: المحكمة العسكريّة. فكيف إذا كانت صاحبة الحقّ امرأةً ضُربت، وأُهينت، وحُرمت من حقّها في الحصانة، وقُذفت بتهم “العهر” المعتادة على لسان عنصر أمني وصفحات المنبر الرسمي لقوى الأمن الداخلي؟

 

“مكافحة العمالة الأجنبيّة”: السلطات مستمرّة في التصعيد… فما الهدف؟