fbpx

“اليونيفيل” بين “حزب الله” وإسرائيل وحرب أخرى تلوح في الأفق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يتوقع أحد أن تنجح قوات حفظ السلام في مهمتها، فمعظم اللبنانيين، ممن تجاذبت معهم أطراف الحديث، كانوا مقتنعين بأن حرباً جديدة مع إسرائيل على وشك الاندلاع في غضون عام، بل وعبّر عدد ضئيل منهم عن خوفهم من نشوب حرب أهلية أخرى.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في نيسان/ أبريل عام 2007، نزلت في مطار بيروت بعد قرابة عام من انتهاء حرب 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، والتي انتهت بلا غالب ولا مغلوب. وفي الوقت نفسه، وصل عدد من جنود “اليونيفيل” الإيطاليين في مهمة لحفظ السلام، متجهين إلى جنوب لبنان، بالقرب من الحدود الإسرائيلية.

لم يتوقع أحد أن تنجح قوات حفظ السلام في مهمتها، فمعظم اللبنانيين، ممن تجاذبت معهم أطراف الحديث، كانوا مقتنعين بأن حرباً جديدة مع إسرائيل على وشك الاندلاع في غضون عام، بل وعبّر عدد ضئيل منهم عن خوفهم من نشوب حرب أهلية أخرى.

بين النبوءات الأكثر دقة عام 2007، نُبُوءَة نوفل ضو، رئيس تحرير الجريدة الإلكترونية “نهار نت” وممثل “حزب القوات اللبنانية”، إذ أخبرني أن الحرب الكبرى المقبلة في الشرق الأوسط ستندلع بين السُنّة والشيعة. وقال وقتها إن التوصل إلى حل سلمي للصراع أمرٌ مستبعد، سواء على المدى القصير أو الطويل.

سرعان ما ذبلت أزهار الربيع العربي بعدما تفتحت قبل أعوام قليلة، وأعقب ذلك نشوب الحرب في سوريا -الكارثة التي بدت حرباً كبرى بين السُنّة والشيعة تحديداً- ما أدى إلى تدفقات هائلة من اللاجئين في سائر المنطقة وخارجها. وقد استخدم ساسة أوروبا أزمة اللاجئين لتحقيق مكاسب انتخابية، الأمر الذي أثار اضطرابات بين مواطنيهم.

ولكن على رغم حدوث مناوشات جوية عدة بين “حزب الله” وإسرائيل على الأراضي السورية، إلا أن الحدود الفاصلة بين لبنان وإسرائيل ظلت مستقرة نوعاً ما، وهذه مُعجزة صغيرة. وأيضاً على رغم وصول مليون ونصف المليون لاجئ سوري إلى الأراضي اللبنانية، لا تزال البلاد هادئة نسبياً. ما يُعد معجزةً صغيرةً أخرى.

ما بعد المعجزات الصغيرة

أردت الاطلاع عن كثب على تلك المعجزات الصغيرة لذا عدت مرة أخرى إلى لبنان عام 2018.

لم تعد قضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي موضوعاً ساخناً في الغرب مثلما كانت منذ عقود قليلة، وغدت الحرب في سوريا واحدة من الحروب المنسية التي غضت الطرف عنها -ولا داعي لذكر أن آفة البشر النسيان-، لكن للشرق الأوسط ثقل ينأى به عن أن يظل على هامش اهتمامات أوروبا.

على رغم حدوث مناوشات جوية عدة بين “حزب الله” وإسرائيل على الأراضي السورية، إلا أن الحدود الفاصلة بين لبنان وإسرائيل ظلت مستقرة نوعاً ما

كان للغزو الأميركي الطائش على العراق عام 2003 الكثير من العواقب غير المقصودة، ونتج عنه -على سبيل المثال لا الحصر- ظهور تنظيم الدولة الإسلامية. ساعد وجود تنظيم “داعش” وأعماله الإرهابية، اليمين المتطرف في أوروبا بشكل كبير. وساهم في تصوير المواطنين المسلمين باعتبارهم خطراً داهماً ويمثلون تهديداً محتملاً على أوروبا ومواطنِيها “الأصليين”. وهي الطريقة ذاتها، التي صُوِّر بها اليهود في العقود الأولى من القرن العشرين، على أنهم بلا شفقة وإرهابيون فوضويون، يشكل وجودهم تهديداً للسلم والأمن والازدهار في أوروبا.

لا تزال أوروبا تهتم بشؤون الشرق الأوسط، وإذا اشتعلت الحروب في المنطقة فلن تستطيع أوروبا غض الطرف عنها.

يعد لبنان واحداً من البلدان القليلة في الشرق الأوسط، التي يمكن أن يجد فيها المسيحيون والسنة والشيعة فرصة للتعايش سوياً في حالة من السلام والهدوء النسبي. بَيْدَ أن البلد ذاته أيضاً هو موطن لكل مشكلات الشرق الأوسط عموماً، مثل الصراع مع إسرائيل، ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين المستمرة بالفعل حتى الجيل الثالث منهم، أضف إلى ذلك اللاجئين السوريين والنزاع مع إيران.

ومنذ انسحاب ترامب من الصفقة النووية الإيرانية، وما ترتب على ذلك من تصاعدٍ لِلتوترات مع إيران، توجهت العيون إلى وكلاء إيران العسكريين في المنطقة. وبسبب توطد العلاقات بين “حزب الله” وإيران، فلا يُستبعد خوض هذا الصراع على الأراضي اللبنانية.

لكن هناك أسباب أخرى، فقد تبدو فكرة العمل متعدد الأطراف مملة وبيروقراطية، لكن خوض مجازفة متعددة الأطراف والتي من شأنها وقف التصعيد والحفاظ على ركيزة أساسية للسلام -بخاصة في الأوضاع الحالية- هو أمر لا يمكن الاستخفاف به.

ولكي أرى كيف ينظر العالم إلى فكرة تعدد الأطراف وكيف يتم تفعيلها، ذهبت في زيارة إلى واحدة من أقدم بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل). تأسست قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان عام 1978، لحفظ ﺍﻷﻣﻦ ﻋﻠﻰ الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. لم يكن من المفترض أن يدوم ذلك طويلاً.

في عامي 2006 و2007، حين كنت مع الجيش الهولندي في أفغانستان، رافقتني النقيبة سينثيا. وعندما زرت لبنان عام 2018، كانت هي المواطنة الهولندية الوحيدة في اليونيفيل، بصفتها مستشارة الشؤون الجنسانية. دعتني إلى زيارتها كي أرى قوات اليونيفيل، وكي أعرف ما يفعله يومياً من يتولى منصب مستشار الشؤون الجنسانية.

إن كنت تعلمت شيئاً من زيارتي أفغانستان والعراق، فهو أن الحرب -بما فيها مقدماتها وعواقبها- هي صورة عبثية مأساوية مكتملة بالفواصل الهزلية اللازمة. ومع ذلك، ينبغي السؤال عما إذا كانت مهمة حفظ السلام تسمو عن العبثية المأساوية التي يتهم خصوم التعددية الأمم المتحدة بإثارتها.

يتبع هذا سؤال آخر: إذا تأزم الوضع في الشرق الأوسط، فهل يمكن أن تظل الأمور في أوروبا على حالها؟

إن كنت تعلمت شيئاً من زيارتي أفغانستان والعراق، فهو أن الحرب -بما فيها مقدماتها وعواقبها- هي صورة عبثية مأساوية مكتملة بالفواصل الهزلية اللازمة.

يعد الحصول على تصريح لزيارة مواقع اليونيفيل أمراً معقداً للغاية. فمثل الكثير من المؤسسات، إن لم يكن كلها، تخشى الأمم المتحدة من احتمال انتشار الدعاية السلبية. وقد يكون قلق الأمم المتحدة بشأن هذه المسألة واضحاً أكثر مما هي الحال في المؤسسات الأخرى، مع مراعاة أن الرؤية العالمية متعددة الأطراف باتت محط هجوم وانتقاد.

الزيارة الثانية

في المرة الثانية التي زرت فيها لبنان، عام 2018، وصلت إلى بيروت في الأسبوع الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر. لا جنود لليونيفيل هذه المرة، فعلى رغم كلّ شيء، لا تسعى اليونيفيل إلى توسيع نطاق سيطرتها كما فعلت بعد الحرب عام 2006.

يرافقني في الزيارة، ابني بالتبني ذو الـ14 سنة ووالدته. بدا مناسباً أن أُتيح له الفرصة، وهو في سن المراهقة، ليرى المنطقة بنفسه.

ولأن إجراءات تقديم طلبات التصريح لي ولِسينثيا لزيارة اليونيفيل مرّت في وزارة الدفاع الهولندية، عَلِمَ يان والتمانس -سفير هولندا في لبنان- بقدومي، وكان من بالغ لطفه أن دعاني إلى احتساء القهوة سوياً.

على رغم حقيقة أن الديبلوماسيين لا يمكنهم حتماً التحدث بانفتاح -ومع الأخذ في الاعتبار أن الديبلوماسيين يمكنهم التحدث الآن بحرية أكثر من قبل- إلا أنني لم أستبعد أن يكون حديثه مشوقاً. لذا قررتُ بدء زيارتي لبنان معه.

وفي السفارة، حيّاني والتمانس، وهو رجل خمسيني طويل القامة، كان يرتدي قميصاً أبيض، تاركاً الزرّ العلوي مفتوحاً، وقدم لي كوباً من الماء. ثم أخذني إلى مكتبة ومقهى لنحتسي القهوة ونأكل الكعك.

لبنان بلد رائع!

يقول والتمانس، “لبنان بلد رائع. ولا يريد الناس هنا أيّ شيء مني، لكن أحياناً يصل بك الأمر حقاً إلى حد الدخول في مشادة، لأن الناس يريدون أن يدفعوا ثمن كل شيء بدلاً مني. لذا أخبرت أصدقائي في مرحلة ما: إذا أردتم أن نظل أصدقاء، فعليكم التوقف عن الإسراع في انتزاع الفاتورة قبلي ودفع الحساب في كل مرة”.

كنا نتحدث ونحن نستمتع بتناول الكعك.

يتابع، “المنظومة الطائفية في لبنان لا تشجع على التوصُّل إلى حلول فعالة. لا ينصب اهتمام النخبة الرئيسي على مصلحة الدولة نفسها، وإنما على مصالح الطوائف والمجموعات التي يمثلونها. مثلاً، يُهدر ما يربو على مليار ونصف المليار دولار في قطاع الكهرباء. كما أن لبنان من ضمن الدول الأكثر تلوثاً في مياه الشرب على مستوى العالم”.

قُسمت السلطة السياسية في لبنان بموجب الدستور بين الجماعات الدينية والعرقية المختلفة في البلاد، لضمان التمثيل العادل والحيلولة دون احتكار فصيل واحد للسلطة. إذ يكون رئيس الوزراء سنياً، ورئيس مجلس النواب شيعياً، أما رئيس الجمهورية فهو مسيحي.

يعاني لبنان من انقطاعات متكررة في الكهرباء. لدى الأغنياء مولدات كهرباء خاصة بهم، فيما يعتمد معظم اللبنانيين على أحد أصحاب المولدات في الأحياء أو الشوارع للتزود بالكهرباء. وهناك همسات خافتة يتردد صداها في جميع أرجاء لبنان بأن أصحاب المولدات مسؤولون جزئياً عن مشكلة انقطاع الكهرباء في البلاد.

يقول السفير، “علينا إصلاح ذلك. أصبح القطاع الحكومي مُثقل. كما بات سوق العمل مجهد بسبب مجيء السوريين إلى البلاد”. عندما يقول “علينا” فإنه يقصد اللبنانيين.

أسأله بينما نُوشك على الانتهاء من تناول قطع الكيك، “هل يمكن أن يأويهم لبنان موقتاً؟”.

يعاني لبنان من انقطاعات متكررة في الكهرباء. لدى الأغنياء مولدات كهرباء خاصة بهم، فيما يعتمد معظم اللبنانيين على أحد أصحاب المولدات في الأحياء أو الشوارع للتزود بالكهرباء.

يجيب، “هذا ممكنٌ. فحوالى 15 في المئة من اللاجئين يعيشون في ما يسمّى “مخيمات” لأنهم خسروا كل شيء، ومعظمهم من المناطق السورية الريفية. لكن لو قارنت هذا بما قابلته في سيراليون وأفغانستان وليبيريا، فيمكن القول إن الأوضاع هنا ليست بهذا السوء. لنأخذ العراق على سبيل المثال، عندما سألنا اللاجئين العراقيين عمّا يحتاجونه حتى يعودوا إلى ديارهم، قالو لنا، “نحتاج إلى الكهرباء وإزالة الألغام وتوفير نظام للرعاية الصحية وبناء مدارس، ومن ثم سنتولى نحن إعادة بناء منازلنا بأنفسنا”.

“عندها خصصنا 100 مليون دولار لهذا الأمر، كان ربعها عبارة عن استثمارات هولندية. وتمكن مليون شخص من العودة إلى وطنهم. وفي لبنان، حاولنا دعم الجيش اللبناني وتعزيز احتكار الدولة للقوة ووسائل العنف. وفي طرابلس، التي شاهدنا فيها أناساً يطلقون الرصاص على بعضهم بعضاً من شرفات المنازل، بنينا ملعباً لكرة القدم. ومنذ ذلك الحين، لم يطلق أحدٌ الرصاص من الشرفات مرة أخرى”.

“أقابل الكثير من الشباب. وعلى عكس ما اعتادوا عليه، يمكنهم التحدث معي وإخباري أي شيء. السؤال الأكثر تكراراً هو، “كيف يمكننا الخروج من هنا”؟ هذا شيء مؤلم”.

في تلك اللحظة كنا قد أنهينا قهوتنا. صحيح أن هناك معجزات صغيرة تحدث من حين إلى آخر، لكن أحدها ليس كبيراً بما فيه الكفاية لاجتثاث الفرضية المتجذرة هنا، والقائلة إن الأماكن الأخرى أفضل حالاً.

أمجاد الماضي… كل ما تبقّى

في طريقنا إلى السفارة، يشير السفير إلى مبان توضح سبب تسمية بيروت يوماً ما “باريس الشرق الأوسط”، مضيفاً أن تلك البنايات ذات الواجهات الفارهة أصبحت مهجورة الآن، لأن السياح الآتين من المملكة العربية السعودية ودول الخليج توقفوا عن زيارة لبنان. وعلى رغم إشادة السفير بالبلد الذي يعمل فيه، يبدو أن أمجاد الماضي الغابرة تلك، هي كل ما تبقى من فخر وعظمة في هذا البلد.

بالعودة إلى عام 2007، كان الطريق إلى الجنوب وعراً نسبياً. فقد قصف سلاح الجو الإسرائيلي الجسور بين بيروت والجنوب، والتي كانت وقتها في حاجة إلى الإصلاح. إلا أننا رغم ذلك تمكنا من الوصول إلى وجهتنا: القرى اللبنانية القريبة من الحدود الإسرائيلية.

وبعد 11 عاماً، كانت الرحلة نفسها سلسلة للغاية، على رغم إيقافنا في حاجز تفتيش جنوب مدينة صور. لا يمتلك الجيش اللبناني هنا أيّ سلطة على الإطلاق، وذلك بسبب الميليشيات النشطة غير الحكومية في المنطقة التي ما زالت طاغية، لا سيما ميليشيات “حزب الله”، وعلاقاتها الممتدة بإيران وأسلحتها وثِقلها السياسي في المنطقة.

وما زال النفوذ السياسي وحمل السلاح مرتبطان ارتباطاً وثيقاً في لبنان، كأحد بقايا الحرب الأهلية. لذا لا يمكن لأيّ شخص الوصول إلى أقصى جنوب لبنان، وذلك في محاولة لكبح تدفق الأسلحة والمقاتلين لمنطقة يفترض رسمياً أنها منزوعة السلاح.

سُمح لي بدخول المنطقة لأنني أحمل تصريحاً، لكن لم يُسمح لبقية المسافرين معي بالدخول. وبعد مكالمات هاتفية مع قائد وحدات الجيش اللبناني في مدينة صيدا، سُمح لهم بمرافقتي.

يقع مركز القيادة لقوات اليونيفيل في بلدة الناقورة، وهي بلدة ساحلية تبعد كيلومترات قليلة عن الحدود الإسرائيلية الشمالية. فمنذ عام 1978، بدأت قوات اليونيفيل تأمين السلام بين لبنان وإسرائيل، لكنها مع ذلك لم تستطع منع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 أو الحرب التي اندلعت عام 2006. ومددت مهمتها في المنطقة لاحقاً بعد حرب 2006.

سُمح لي بدخول المنطقة لأنني أحمل تصريحاً، لكن لم يُسمح لبقية المسافرين معي بالدخول. وبعد مكالمات هاتفية مع قائد وحدات الجيش اللبناني في مدينة صيدا، سُمح لهم بمرافقتي.

مكثنا في “فندق ريف دو لا مير”، قبالة مركز قيادة اليونيفيل، وهو فندق فاخر إلى حد ما، لكن عدد نزلائه قليل. حمام السباحة فخم هنا، لكن لا أحد أيضاً يستخدمه. يبدو كما لو أن هذا الفندق لم يكن ليبنى لولا وجود قوات الأمم المتحدة ومقر قيادتها العامة. دائماً ما يؤثر الوجود الممتد للقوات الأجنبية وقوات حفظ السلام وغيرهم، على اقتصادات المناطق المحيطة. إذ تؤسس هذه القوات اقتصادها الخاص، سواء أعجبنا ذلك أم لا.

كان أول يوم لي في مقر قوات اليونيفيل متزامناً مع “يوم الأمم المتحدة”. وهو يوم عطلة تقريباً في جميع المؤسسات حول العالم، فما المانع من أن يكون يوم عطلة للعاملين في الأمم المتحدة نفسها؟ ألقى رئيس بعثة اليونيفيل، اللواء الإيطالي ستيفانو ديل كول، خطاباً قصيراً ومنح أوسمة للموظفين العاملين في الأمم المتحدة طيلة 20 و25 و30، عاماً على التوالي. لا تقتصر مهمة حفظ السلام على الأفراد العسكريين وحدهم، وإنما تشمل أيضاً الأشخاص الذين يقدمون مهمات إدارية داعمة.

خصص اللواء ديل كول دقيقة حداد لأولئك الذين سقطوا أثناء خدمتهم مع اليونيفيل، أكثر من 250 شخصاً على مدار السنين، بينهم كثيرون من الجنود الهولنديين.

بعد ذلك، اقتبس من كلام الأمين العام السابق للأمم المتحدة داغ همرشولد، الذي قال مرة إن الأمم المتحدة لم تكن تعتزم إقامة فردوس على الأرض، وإنما حماية البشرية من جحيمها الخاص.

تلى المراسم مائدة طعام ومشروبات غير كحولية. وقابلنا في تلك اللحظة جندياً من غانا اسمه جورج. علَّمت سينثيا جورج السباحة، ولهذا فهو ممتن لها. ذكرت سينثيا أنه كان يُسمح لهم بالسباحة في البحر في أيام السبت، لكن حُظر ذلك مذ كاد أحد موظفي اليونيفيل يغرق.

قالت أيضاً إنهم بذلوا الكثير من الجهد لجعل حمام السباحة في اليونيفيل ملائماً للنساء، مضيفةً، “كوني امرأة، ربما أشعر بالضيق من تحديق الرجال بي في حمام السباحة”. لذا أجرت سينثيا استطلاعاً بين موظفات اليونيفيل وشاركتها النساء بمعظمهن الرأي، فيما شعرت الفرنسيات والأستراليات بأن هذه المطالبة هي محض هراء.

تساهم 42 دولة بقوات في اليونيفيل (وذلك حتى أيار/ مايو 2019). وتشارك إندونيسيا بالنصيب الأكبر من الجنود (1310 جنود)، كذلك توفد بلدان أخرى أعداداً كبيرة من الجنود مثل، نيبال (871 جندياً) وماليزيا (825 جندياً) وإسبانيا (630 جندياً). وتنتشر قوات اليونيفيل في منطقة منقسمة إلى قطاعين: القطاع الشرقي والقطاع الغربي.

في مركز القيادة تناولنا الغداء مع رينو، وهو ضابط بلجيكي مقيم هنا منذ عام 2009 ويرأس مركز التحليل المشترك للبعثة، في مطعم “لا تراس” وهو مطعم فرنسي لبناني، يطلق عليه بصورة غير رسمية اسم مطعم “شي جوزيف ومارسيل”. يلقى رينو ترحيباً حاراً من مارسيل، الذي بادره القول، “الطلب المعتاد”؟ جميع من هنا يعرفون أن رينو يحب تناول شريحة اللحم بالفلفل الأسود مع البطاطا المقلية.

بمجرد جلوسنا يقول لي، “على رغم أن اسمي فرنسي، إلا أنني فلمنكي، وكنت ضابطاً في الجيش البلجيكي”.

عندما وصلت شريحة اللحم كان يحدثني عن عمله في تحليل المستجدات الجيوسياسية التي قد تنعكس على مهمتهم.

يقول، “لو أخبرت اللبنانيين عام 2010 عمّا سيحدث في المنطقة على مدار سنوات الـ8 الماضية، لظنّوا وقتها أن كل شيءٍ في لبنان سينهار، لكن ذلك لم يحدث”.

“لدينا هنا ما أسميه توازن ميزان الرعب، مع ضرورة الانتباه إلى أن هناك أموراً صغيرة، يمكن أن تخرج عن السيطرة سريعاً، كما حدث في تموز/ يوليو عام 2006. فتكلفة نشوب أي صراع ستكون باهظة للغاية للطرفين. تخبرنا إسرائيل أنه في حال نشوب صراع مع حزب الله، فإنهم سوف يخلون مناطقهم الحدودية من السكان. لكن كيف سيفعلون ذلك حينما يكونون تحت القصف؟ وإذا ما أخلوا السكان قبل نشوب الصراع؛ فلن يعود لديهم عنصر المفاجأة”.

يتحدت رينو كثيراً لدرجة أنه لم يأكل تقريباً أيّ شيء من شريحة اللحم. ويضيف، “تريد النخبة اللبنانية أن تضيق الخناق على الجيش اللبناني الرسمي، لأن هذا يصب في مصلحتهم”. فكلما زاد ضعف الدولة وجيشها، استحوذت النخب على مزيدٍ من السلطة. ولا تريد تلك النخب أن يشتبك الجيش مع الميليشيات.

“ربما لا نملك صلاحية تفتيش كل منزل على حدى بحثاً عن (أسلحة)، لكن عند أخذ جميع البلدان المشاركة، في الاعتبار، مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وأيرلندا وألمانيا وأستراليا والصين وغيرها، ستشعر بأنه يتم الإبقاء على درجة معينة من السلام. في الوقت الحالي يزيد عدد جنود قوات اليونيفيل عن 10 آلاف جندي قيد الخدمة. وحتى لو لم يكن لدينا أفضل الجنود، فسيظل من الصعب للغاية إخفاء الأسلحة من دون أن يلاحظوا ذلك، وذلك لأن منطقة العمليات التي تقع مسؤوليتها على عاتق قوات اليونيفيل والجيش اللبناني صغيرة نسبياً. إضافة إلى ذلك، إذا لم تُخزن الصواريخ بطريقة ملائمة، فسوف تتلف في نهاية المطاف”.

صحيح أن تكلفة الحرب باهظة للغاية في الوقت الحالي، وهذا أمر جيد لردع جميع الأطراف، لكن يمكن أن يتغير هذا الوضع في أيّ لحظة. ومن ثم تتغير تلك التكلفة.

الأدوار الجنسانية

في يومي الثاني مع اليونيفيل، حضرت ورشة عمل نظمتها سينثيا حول الأدوار الجنسانية. أتى ذلك مصحوباً بشرحٍ من عاكف، وهو مقدم في الجيش التركي. كان في الغرفة حوالى 40 جندياً من بلدان مختلفة.

عاكف رجل مهذب لطيف، تحدث عن الاختلافات الثقافية والقيادة والجنسانية وتأثيرها في العمليات العسكرية. واستند في ذلك إلى 6 أبعاد ثقافية حددها عالم النفس التنظيمي الهولندي جيرارد هوفستيد، وهي: الذكورة مقابل الأنوثة، والفردانية مقابل الجماعية، وتجنب عدم اليقين في مقابل قبول عدم اليقين، والسلطوية مقابل محدودية السلطة، وتقدير السرور والبهجة في مقابل تقييد السرور والبهجة. واستناداً إلى هذه الأبعاد، تمكن مقارنة ثقافة أحد البلدان بثقافات مجموعة من البلدان الأخرى.

أشار عاكف إلى أن الثقافة الفنلندية أقل هرمية من الثقافة الماليزية. وأكد جندي فنلندي كلامه.

يقول عاكف موضحاً، “تحدث المساواة بين الجنسين عندما تكون المرأة قادرة على الاضطلاع بمهماتها بغض النظر عن المقاييس الخاصة بجنسها”. مضيفاً أن هناك أساليب أنثوية وأخرى ذكورية للقيادة. تحتجّ ضابطة كرواتية تقود فصيلة قائلةً، “لدي 25 جندياً تحت إمرتي، كلهم رجال، لذا فأنا أتبع أسلوب قيادة ذكورياً”.

يتعمق عاكف في الموضوع ويقول، “لكنك تَتشاورين مع مرؤوسيكِ، وهذا نمط أنثوي، لذا فأنت تتبعين أسلوب قيادة أنثوياً، لكنك لا تدركين ذلك”. لا يقصد هنا أنها تتبع أسلوب قيادة أنثوياً لأنها امرأة، ولكن لأنها تتناقش مع اتباعها. بالأحرى، هناك فكرة نمطية مثيرة للسخرية إلى حدٍ ما في هذا الصدد، وهي أن “القيادة الذكورية، على ما يبدو، تعني إعطاء الأوامر وحسب”.

لا يتكلم جميع الحضور اللغة الإنكليزية بطلاقة، ما صعب المناقشات التالية للمحاضرة. واختتم عاكف كلامه بهذه الملاحظة، “إذا نجحت في إثارة أفكارك وإِرباكك، فهذا أمر جيد”. شكر الجنود سينثيا على الورشة، وأراد الجنود الإندونيسيون التقاط صورة معها هي وعاكف.

في ظهيرة هذا اليوم، أعطاني عاكف ميدالية مفاتيح (حلقة مفاتيح). كان يحمل ورقة كتب عليها اسمي بخطٍ جميل، لا تشوبه شائبة لدرجة أنني في البداية ظننت أنه مكتوب على الكمبيوتر. سلمني تلك الورقة أيضاً.

سألته إذا كان لديه أسلوب أنثوي في القيادة، فأجاب من دون تردد، “نعم”. كما أردت جس نبضه حول الشأن التركي مع إدراكي حساسية الموضوع. كان كل ما قاله، “كلفتنَا محاولة الانقلاب الكثير وراح ضحيتها الكثير من الجنود، ذهبتُ في اليوم التالي إلى المكتب ولم يكن هناك فعلياً أيّ شخص”.

في تلك الليلة، شهد لبنان موجة من الأمطار الغزيرة والبرد الشديد. تناولت العشاء مع سينثيا ورفاقي الآخرين في الرحلة، في مطعم “شي جوزيف ومارسيل” شبه الفارغ. كان فيه فقط جندي كولومبي يلتهم بيتزا بمفرده. استمتع ابني بالتبني كثيراً بوقته في مركز قيادة اليونيفيل، لأن المنطقة كانت تعج بالكلاب.

ترد سينثيا مؤكدةً أن، “الكثير من اللبنانيين يتركون حيواناتهم الأليفة غير المرغوبة في اليونيفيل”.

على ما يبدو، يمكن أن تكون بعثة السلام نافعة في أكثر من جانب.

هذا المقال مترجم عن Haaretz.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي

لبنان ممراً لطائرة متوجهة لقصف أهداف في دمشق