fbpx

“الفتاة المحجّبة” التي لم أرغب أن أكونها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أذكر أنني كنت صغيرة لم أبلغ التاسعة من عمري حين فرض عليَ والداي الحجاب، كان سقف خياراتي وقتها هو الاستسلام، فانصعت لرغبتهما من دون مقاومة ولا اعتراض، رغم أن الحجاب في ذلك الوقت كان نادراً، ويكاد يكون مظهراً مستهجناً بين بنات جيلي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أذكر أنني كنت صغيرة لم أبلغ التاسعة من عمري حين فرض عليَ والداي الحجاب، كان سقف خياراتي وقتها هو الاستسلام، فانصعت لرغبتهما من دون مقاومة ولا اعتراض، رغم أن الحجاب في ذلك الوقت كان نادراً، ويكاد يكون مظهراً مستهجناً بين بنات جيلي. وهكذا، صرت الوحيدة في مجتمعي وفي مدرستي، التي تضع حجاباً على رأسها، فأصابتني منه شهرةً، حتى صار لقبي “الفتاة المحجبة”.

رافقني هذا اللقب طويلاً، إلى أن وصلت إلى المرحلة الثانوية. لن أشرح كيف ولماذا انقلبت الآية، وانتشر الحجاب، وازداد عدد المحجبات، حتى ضعت بينهن، مثل إبرة في كومة قش، فخفتَ وهجُ لقبي وفقدت دواعيه، ولم أعد ألتقي بفتاة واحدة غير محجبة.

في صغري، لم أبال كثيراً بالأحداث التي كانت تحصل في العالم وتؤثر على منطق عائلتي وسلوكياتها. ففي مكان بعيد على وجه البسيطة، وصلت جماعة دينية تشبهنا إلى السلطة، وبدأت تبث إيديولوجيتها وتصدّر مفاهيمها إلينا، ونجحت في استقطابنا وتنميطنا في أطرها. وعلى الرغم من صغر سني، وعدم قدرتي على تفسير ما يحدث حولي، إلا أن ذاكرتي استطاعت التقاط الكثير من مشاهد التناقض بين والديّ وجديّ، بخصوص الحجاب ومستجدات دينية أخرى.

ناضل جدي لثني والدايّ عن قرار تحجيبي، لكنهما قمعاه. كان جدي ضعيف الحجة أمام حجتهما الدينية، كانت أمي تبتسم مستخفة حين يحاول إقناعها بأن الحجاب يقبح وجه الفتاة، أو على الأقل يخفي جمالها الذي حباها الله به، ويحبس عنها العرسان. وكانت تشرح له على طريقة الوعاظ، أن الحجاب كمال وجمال إضافي، وأن الفتاة المحجبة جوهرة في كنز مدفون لا ينالها إلا من يستحقها.

وكانت جدتي تشفق على حالي حين أذهب لزيارتها، حالما أصل إلى بيتها، كانت تنزع الحجاب عن رأسي، وتمشط شعري وتضفره جديلتين، وتثبت فوقهما أشرطةً ودبابيس ملونة، ثم تجردني من ثيابي الفضفاضة، وتلبسني فساتين بلا أكمام، وتقول لي: “أخرجي إلى الشمس، يا جميلتي، دعي الهواء والضوء يسرحان فوق ساعديك وساقيك وعنقك”.

رغم أن أمي حاولت كثيراً أن تقنعني بأن حجابي قوة تحميني، ويجعلني أشبه بحبة اللؤلؤ التي تختبئ داخل المحارة، إلا أنني لم أشعر يوماً بأنني كذلك. كما أنني لم أستسلم للنواهي التي ينص عليها الالتزام بالحجاب. كنت أخفي شعري فقط، لكنني في الوقت نفسه، كنت أبدي كل سيئاتي الإنسانية العادية.
التزامي بالحجاب ألزمني بخشونة ذكورية. كنت في قرارة نفسي أحاول أن أثبت لوالديّ، أنني أملك عضلات جسدية فعلية، تعطي انطباعاً مخيفاً عني، ولست في حاجة إلى وضع عضلات على رأسي، فلم أكفّ عن اللعب في الأزقة، والتعارك مع الصبية، والشتم والصراخ، وكنت أكذب كثيراً. كنت على النقيض تماماً من نموذج المحجبة المثالية، وبعيدةً كل البعد من الفضائل التي يوجبها الحجاب. وفي مرحلة الصبا، اهتديت إلى راديو جدي، عشقت أغاني صباح وعبد الحليم، وصرت أحلم بالحبيب الذي سيخفق له قلبي، وأنتظر منه قبلتي الأولى. كل ذلك كنت أفعله بالسر عن والديّ، خصوصاً أمي، التي كنت بالنسبة إليها مشروعاً دينياً وورشة إصلاح مستمرة. وعشت نتيجة ذلك حياةً غير مألوفة.

اليوم، ولأنني عشت حياةً دينيةً مبكرةً، لم تجتذبني الصحوات الدينية الجديدة، بل نفرّتني. لم أعترف بها، لأنني لم أعترف أساساً بما هو قبلها، وأقل طقوسيةً منها. استطعت رغماً عن عائلتي أن أخرج من النفق الذي حفرته لي، خرجت فتيات مثلي، لكنهن دخلن في أنفاق أخرى. أما أنا، فحلّقت بعيداً، لعلّ تأثري لم يكن عميقاً، لذلك، كانت ردة فعلي متوازنة، أو لعلها أشياء لا أملك تفسيراً لها.خروجي من النفق، أخرجني أيضاً من المكان الذي أنتمي إليه، وخلّصني من محمول تاريخي لم يعد يلائم حاضري ولا حاضر هذه الأرض ولا مستقبلها. أتاح لي فهم منابع  الطقوس والسلوكيات التي أنتجته، واستشراف صيرورتها، وقررت أن أعود إلى دين جديّ البسيط.

أنا اليوم، امرأة عادية، لا جوهرةً ولا لؤلؤةً، ولا كتلةً عضليةً متأهبةً للمعركة دوماً. أختار أثوابي بنفسي، أشكالها، ألوانها، مقاساتها، أفصّلها على ذوقي. قررت الإقلاع عن عادة ارتداء الأثواب الجاهزة، التي ينتقيها لي الآخرون، والتي يجبرونني على لبسها، التي تتلبسني مثل سحر أسود شيطاني.
أذهب إلى أبي فأجده سعيداً باختصار كل خبراته وإمكانياته بلقب “حاج”، بينما أمي مسرورة بغرقها في قمقم ديني طقوسي. وأنا، أبتعد عنهما، أبحث عن مسار حياة أكثر ملاءمةً لما أعيه من كينونتي الإنسانية. أحاول فتح كل الأبواب الموصودة أمامي، حتى تلك التي أعرف أنه سيأتيني منها الريح، أحاول ترميم مرآتي المهشمة، لأعطي لروحي ولو لمرة واحدة فقط، فرصة انعاكسها بلا خدوش أو عيوب. أترك لصوتي المخنوق داخلي أن يصرخ، أن يتمرد، أن يعلن عن ذاته، بلا محاذير أو محظورات أو محرمات.

ثمة كذبة تتوارى خلف كل فكرة، جاذبية في كل طقس تخاتل من يقع في أسره، ثمة امرأة حقيقية تختفي خلف الأقنعة المجتمعية الكثيرة، حين تنزعها تصبح أكثر جمالاً، يصبح جمالها أكثر صخباً. ثمة دروب لم نخطها يوماً، لكننا رسمنا مسالكها بعيون قلوبنا، دروب تقودنا إلى الانعتاق، لن تكون موحشةً، فالألفة لا تدرك بالعين بل بالروح. دروب لن نكون فيها وحدنا، سيكون الله معنا.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!