fbpx

رحل “عجوز” تونس 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

مات “الذئب المعمر” على ما كان يحلو لبعض الصحافة الغربية أن تسميه. لكن الباجي قايد السبسي ورغم انجازاته لم يسلم من رذائل الحكام المعمرين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
السبسي في صورة تعود للعام 1985

حين انتخبت تونس الباجي قايد السبسي رئيساً، كان عمر الرجل 88 سنة. وكأنها بذلك كانت تعيد الاعتبار لنجم الثورة، ذاك العجوز الآخر الذي ظهر على تلفزيون “الجزيرة” عام 2011، وقال تلك العبارة الشهيرة: “هرمنا”.

الباجي قايد السبسي الذي يجمعه بذلك العجوز، الزمن البورقيبي، عاد بعد ثلاث سنوات من الثورة ليصبح رئيساً لتونس الخضراء، بعد تحقيقه فوزاً ساحقاً على منافسه مرشح “حركة النهضة” المنصف المرزوقي، بفارق تجاوز الـ5 في المئة.

السبسي ليس ابن الثورة، لا بل هو من اختير لترؤس الحكومة الانتقالية، التي تولت نقل السلطة من النظام السابق إلى نظام الثورة. وبهذا المعنى كان السبسي في متوسط المسافة بين نظام زين العابدين بن علي، والنظام الذي أعقبه. تونس الشابة والخضراء والحديثة، التي هزمت في الانتخابات حركة النهضة في زمن صعود الإخوان في كل المنطقة، اختارت رئيساً عجوزاً. رجلاً يردها إلى ما قبل زمن زين العابدين بن علي، رافضة بذلك الانتقال من زمن بن علي إلى زمن راشد الغنوشي.

زائر تونس في أعقاب ثورتها يلمس هذه الرغبة. فالثورة لم تكن قطيعة مطلقة مع الماضي. والمرء اذ يعاين هذه الحقيقة يحار بما تمثله من “رجعية” و”تقدمية” في آن واحد. السبسي يمثل هذه الحيرة، ذاك أنه عجوز يمثل الماضي، إلا أنه ماضٍ يفوق الحاضر “النهضوي” في علاقته بالقيم الحديثة. حين تزور السبسي في منزله حين كان رئيساً للحكومة الانتقالية عام 2011، تشعر بأنك في منزل سياسي تكنوقراطي أوروبي، لكنك تشعر أيضاً بأنه أبن النظام. وهنا تزول الحدود بين نظامي بورقيبة وبن علي، ذاك أنهما يتصلان عبر أكثر من قناة. ومن المؤكد أن السبسي كان إحدى هذه القنوات. 

الباجي قايد السبسي حفيد إسماعيل قايد السبسي، الرجل الذي اختطفه قراصنة تونسيون من جزيرة سردينيا في القرن التاسع عشر وأحضروه إلى تونس، هو من مواليد عام 1921، ورافق الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة لفترات طويلة من حكمه، إذ شغل مناصب وزارية رئيسية منذ ستينات القرن الفائت، وتوجها عام 1981 حين عين وزيراً للخارجية. ومن إنجازاته في تلك المرحلة، خطابه الشهير في الأمم المتحدة في أعقاب الغارة التي نفذتها إسرائيل على مواقع لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وفي أعقاب الخطاب امتنعت واشنطن للمرة الأولى (والأخيرة) في تاريخها عن استعمال حق النقض “الفيتو” ضد قرار مجلس الأمن يدين إسرائيل.

 

 “الذئب المعمر” على ما يحلو لبعض الصحافة الغربية أن تسميه، لم يسلم من رذائل الحكام المعمرين. ففي سنواته الأخيرة تصدر ابنه حزب “نداء تونس”، وهو ما اعتبر توريثاً في ظل نظام الثورة وأهل الثورة.

 

تونس حين انتخبت السبسي رئيساً عام 2014، قالت إنها غير راغبة في مقاطعة ماضيها، ماضيها البورقيبي تحديداً، هذا الماضي الذي مثل السبسي امتداداً له، بينما كان خصومه ومنافسوه في حركة النهضة سائرين نحو تونسٍ أخرى، تونس التي قال وقتذاك زعيم النهضة راشد الغنوشي إن سلفييها يذكرونه بشبابه، بينما ذكّر شباب السبسي التونسيين بزعيمهم الحبيب بورقيبة.

والحال أن انتخاب السبسي كان جزءاً من ظاهرة “الاستثناء التونسي”، فمصائر الثورات العربية، بين الحروب الأهلية التي نجحت الأنظمة في إشعالها، أو تلك التي انقض الإسلاميون عليها، كانت تونس مرشحة لتنضم إليها، لولا توفر عاملين حاسمين، الأول حياد المؤسسة العسكرية، والثاني وجود طبقة متوسطة يقودها الاتحاد التونسي للشغل وغير راغبة في تحويل تونس إلى دولة حركة النهضة الإسلامية. الانتخاب جاء تتويجاً لهذه الشروط، وما حزب “نداء تونس” الذي تزعمه السبسي سوى صدى ركيك لهذه الرغبات، والدليل على ذلك، تصدع هذا الحزب فور إنجاز مهمة الفوز على النهضة.

لكن “الذئب المعمر” على ما يحلو لبعض الصحافة الغربية أن تسميه، لم يسلم من رذائل الحكام المعمرين. ففي سنواته الأخيرة تصدر ابنه حزب “نداء تونس”، وهو ما اعتبر توريثاً في ظل نظام الثورة وأهل الثورة. وكالكثير من أنظمة النخب غير الأيديولوجية، لم يعرف عن السبسي حساسية عالية حيال الفساد، وحيال الشرائح الدنيا في المجتمع التونسي. وهو إذ استأنف مهمة علمنة الدولة عبر قانوني المساواة في الوراثة بين الرجل والمرأة، وإتاحة الزواج من خارج الديانة للرجل وللمرأة، انما فعل ذلك من موقعه الحداثوي والعمري، ذاك الذي عرّفته به “بي بي سي” يوم انتخابه رئيساً حين قالت “فاز الطفل العائد في عمر الـ88”. أي الطفل المنبعث من المرحلة البورقيبية. 

لكن لا يمكن تجاهل حدث هز تونس في يوم الانتكاسة الصحية التي أصابت “ذئبها المعمر” قبل نحو ثلاثة أسابيع، فقد هز العاصمة تفجيران انتحاريان استهدفا مركزين للشرطة. التفجيران هما تتويجان لظاهرة رافقت الرجل في رئاسته وسبقتها بقليل أيضاً. ففيما كانت تونس تتقدم بقوانينها الحديثة وانتخاباتها غير المزورة، كان متطرفوها أيضاً يتقدمون أقرانهم في الدول الأخرى لجهة أعدادهم ومساهماتهم في “ساحات الجهاد” المختلفة. هذا الفصام لطالما حكم التجربة التونسية الحديثة، وربما يكون هو وراء انتكاسة صحة الرئيس في يوم الانتحاريين هذا، ومن بعدها موته. 

السبسي مع زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي

شبح الشغور الرئاسي يخيم على تونس