fbpx

العرب… حارسو منافيهم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“ما في قهوة بهالمحطة؟”، جملة صدحت بالعربية، ووجدتني أستدير لأرى وجه مطلقتها.قالتها فتاة جميلة، تضع على رأسها حجاباً أزرق. سألتها إن كانت سورية، تبعاً للهجتها، لكنها أدارت وجهها واختفت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تأخر القطار ثلاث ساعات في محطة “كولن” الألمانية، كان وقتاً مملاً، كان يفترض أن أمضيه محتفلة، ذلك أنها كانت ليلة عيد ميلادي. لكن يحدث أن يطأ الواحد الثامنة والعشرين، بانتظار رحلة تأخرت، بكل عبثية الحياة الممكنة. وكما يحدث دوماً، يتعانق المنتظرون في بوتقة واحدة ويتحوّلون إلى أصدقاء. كل من عرف خبراً عن القطار، أتى وأخبرنا. وكنا نتناقش في لغات غير مفهومة. وتتحول اللغة الإنكليزية في هذه الحالات إلى لهجات، يطعّمها كل واحد بلكنته وصوته وانفعالاته.

“ما في قهوة بهالمحطة؟”، جملة صدحت بالعربية، ووجدتني أستدير لأرى وجه مطلقتها. لكنها جملة واحدة فقط، الجمل الأخرى كانت بالإنكليزية، قالتها فتاة جميلة، تضع على رأسها حجاباً أزرق. سألتها إن كانت سورية، تبعاً للهجتها، لكنها أدارت وجهها واختفت.

 

لا تجوز المقارنة في شيء، ذلك أننا آتون من بلاد لا تشبه البلاد في شيء، وربما من به جراحنا معذور على كل شيء!

 

في عيون الكثير من العرب المنتشرين في بلاد الله الواسعة، تجد رغبة عارمة بعدم الإفصاح عن الهوية، أو لأكون أكثر إنصافاً، إنها رغبة جارفة في الابتعاد من كل ما يذكّر هؤلاء ببلاد جراحهم، وطوق إلى حماية المنفى الذي يعيشون فيه وتحصينه جيداً من كل ما قد يجعل الوطن قريباً أو قادراً على تعقّبهم هو وذكرياته كلها. يصبح المنفى مع الوقت شيئاً نتمسك به لنحيا، يصبح صديقاً يعيننا على فتح أعيننا والنظر إلى السماء والشوارع والقوافل والقطارات المسرعة.

يفضّل عرب مجنّسون كثيرون أن يخبروك عن جنسياتهم الجديدة، ثم إذا حصلت مصادفة ما، قد تكتشف أنهم لبنانيون أو مغربيون أو تونسيون مثلاً، وربما ستجد صعوبة في تصديق الأمر، لشدة اندماجهم بهوياتهم الجديدة. أخبرتني صديقة لي وهي تعيش في بلجيكا منذ سنوات، إنه من الأفضل أن تعرّف بنفسها على أنها بلجيكية. وأضافت: “تختلف نظرة الناس تبعاً لجنسية الشخص. الاحترام والمودة مرتبطان بالجنسية لا سيما عند الآتين من بلاد عربية أو شرق أوسطية فقيرة. إذا أخبرت لبنانياً أنني لبنانية سأحظى بتقدير أقل. لكن حين أخبره أنني بلجيكية، سينظر إلي بطريقة مختلفة”.

في الطائرة الداخلية التي أقلّتنا من بروكسيل إلى جزيرة مايوركا الإسبانية، جلس شاب بقربي. تحدّثنا بالفرنسية. أعجبت بفرنسيته. إنها مستفزة بصراحة. صرت أفكّر بأنني أضعت سنوات كثيرة وأنا لا أعاقر سوى اللغة العربية، حتى نسيت السنوات الطويلة التي أمضيتها في مدرسة الراهبات وأنا أتعلّم الفرنسية بأصولها. اتصلت أمي قبل الإقلاع بدقيقة، تحدّثنا بالعربية طبعاً، مع بعض المزاح التي تتقنه أمي بفرنسيتها اللذيذة. مثلاً: “كيفا ma fille؟”. وهكذا. المهم أن الطائرة كانت تعج بالجمل الفرنسية المنمقة، ما عداي طبعاً.

بعد قليل، استأذنت الشاب الذي بقربي لأمرّ “excusez moi monsieur”، فأجاب: “oui bien sûr je vous en prie”. وأنا أمر، وجدته يسمع أغنيات من هاتفه، وحين تلصصت قليلاً، أيقنت أنه يسمع “عصفورة النهرين” لوديع الصافي. وحين عدت إلى مقعدي، كان منشغلاً بمشاهدة إحدى حلقات برنامج سياسي لبناني. وحين عرف أنني عرفت، بقي ساكتاً وانقطع الحديث بيننا. بعد برهة عاد ليكلمني بفرنسيته اللعينة! 

في مايوركا، التقيت الكثير من المغاربة الذين يعملون في المقاهي والمطاعم. تدرك أنهم مغاربة بسبب لكنتهم الخاصة في الفرنسية والانكليزية وبسبب ملامحهم، لكن يصعب أن يخبرك واحد من تلقاء نفسه أنه مغربي.

زرنا أنا وأختي قهوة تقدّم النرجيلة. أختي تتكلم الفرنسية مع أولادها لأنهم عاشوا حياتهم في بلجيكا، ويستصعبون العربية. حين سمعت النادلة لغة أختي، اقتربت منا: français?” “vous parlez le. 

قالتها بفرح من التقى أمه بعد غربة طويلة. الفتاة من الكونغو، حيث يتكلم الناس الفرنسية، فيما الإسبان تقريباً لا يستخدمون إلا الإسبانية. اهتمت بنا كثيراً، وقالت إنها سعيدة بنا، وبقيت تتحدث بالفرنسية طوال الوقت، وتتلفت حولنا وتخبرنا أنها اشتاقت إلى بلدها.

لا تجوز المقارنة في شيء، ذلك أننا آتون من بلاد لا تشبه البلاد في شيء، وربما من به جراحنا معذور على كل شيء!

 

نحن الأطفال الغشاشون