fbpx

في بلاد الحرية المغشوشة: “كبّر عقلك” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تطاردني فكرة الكتابة عن قمع الحريّات في لبنان، عن محاكم تفتيش القرن الواحد والعشرين بصليبها الذي يعانق هلالها. عقدت النيّة على الكتابة منذ الأزل، قبل أن يستجوبني مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة حول نصوصٍ نشرتها على صفحتي الزرقاء الافتراضيّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تطاردني فكرة الكتابة عن قمع الحريّات في لبنان، عن محاكم تفتيش القرن الواحد والعشرين بصليبها الذي يعانق هلالها. عقدت النيّة على الكتابة منذ الأزل، قبل أن يستجوبني مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة حول نصوصٍ نشرتها على صفحتي الزرقاء الافتراضيّة. وكنت أجدد الوعد كلّما استقوى العهد على ناشطٍ أو فنانٍ أو عابر سبيلٍ يجمع أزرار الإعجاب، وما ألبث أن قول لنفسي: “كبّر عقلك”. أكررها، لا خوفاً، لا طمعاً، بل استسلاماً للعبثيّة. من سيقرأ؟ من سيفهم؟ من سيتعظ؟ ما الذي ستجنيه يا “براقش” زمانك؟!

تطاردني فكرة الكتابة عن حريّة التعبير، أرفع التحدي، فهيّا أقامر. في التظاهرة الأخيرة من الحراك الشعبي في آذار/ مارس 2016، قلت على الملأ: “إن خسرنا اليوم، فلنفرح… لأننا ربحنا أنفسنا. ربحنا أننا لم نصبح أمثال من نخاصم”. 8 أشهر كانت لي فيها حظوة أخطبوطٍ يمدّ أذرعته ليسدّ فراغ الحاجة لمن يتّخذ مبادرة، فوقفت بين حدّ مطرقة النظام الذي اتهمني بازدراء الأديان، وسندان “التغييريين” واتهاماتهم بحبّ الشهرة. فأمضيت ثلاثة أعوام بعدها أزور المحاكم على عكازاتٍ، أواجه 5 موادٍ في قانون العقوبات في 4 دعاوى. وتخلّف المحامون والمحاميات مرات عدة، وانكفأ الناشطون والناشطات بالأغلبيّة!
عطّل العقل. لمن تكتب؟ كيف تكتب؟ بنصٍّ فصيح فسيح… بنصٍّ ممتعٍ ممتنع، بنصٍّ رشيقٍ ركيك! أين تكتب؟ في الجرائد التي أقفلت ولم تدفع رواتب كتّاب أعمدتها؟ في المنصّات التي تنبت كلّما اختلف بئرا نفط؟ لمن تكتب؟ لرفيقٍ يتمنى لك الحبس لينظّم جمع شملٍ يسمّيه وقفةً تضامنيّة؟ للمزايدين والمزايدات، يسألونك: أين كنت عندما تفتّحت براعم القضيّة؟! للمثققفين والمثقفات، وأنت لم تحفظ ثلاثة أسطرٍ من قاموس الماركسيّة؟ للمناضلين والمناضلات، موزّعي شهادات العمالة والليبراليّة؟ للـ”كوول” والـ”هيبستر” والـ”تريندي”، الذين لست منهم/نّ ولا يخرج أحدٌ منهم/نّ إلا بفضيحةٍ جنسيّة.

تعهّدت ألا أذمّ أديان الدولة شبه البوليسيّة. لا دموع بعد اليوم. لا قدرة لسرديّة القهر والدمع والبكاء، لا قدرة لدروب الجلجلة والعلقم والصحراء، لا قدرة للأسود والشهادة والفداء، لا قدرة للحزن والوجع والرثاء. لا قدرة على الضحك، والمزاح، والاستهزاء. عطّل العقل. فتجّار الهيكل ما طردوا إلا ليرجعوا، وأصنام البيت الحرام ما هدّمت إلا لتبنى.

قلت على الملأ: “إن خسرنا اليوم، فلنفرح… لأننا ربحنا أنفسنا. ربحنا أننا لم نصبح أمثال من نخاصم”.

نحن شعب الغش المشترك والنفاق الاجتماعي. نحن الشعوب التي قسّمت، وطرحت، وضربت، ولم تضف شيئاً إلى البشريّة. نحن المجبولون بعقدتين: آسيوي وأفريقي. تنخرنا الفوقيّة، أوروبيّ أبيض، نفرد لك مقالاً في تعاملك معنا بمنتهى الرقي. يا لها من دونيّة! نحن أبناء الـ”غيتوهات” خياراً. حدودنا العائلة، فالعشيرة، فالقبيلة، فالمنطقة، فالطائفة، وقبلها الفرديّة. نحن الذين تعلّمنا أنّ لا شيء يقينا الوقوع إلا شبكات أمننا الذاتيّة: علاقاتنا، فمالنا، فقوتنا البشريّة. نحن الذين سقينا أنّ القانون لعبة، ولقّمنا أن الدستور دمية. نحن الأوائل في صفوفنا دوماً – كأنّ مدارسنا صفوفها على قياس طالب أحد -، نحن الأقوى، والأوسم، والأجدر، والأحق، والأذكى، ومع كل ذاك، نحن الضحيّة. نحن شعب الفرح، نرقص لصنبورٍ مرّتين في الأسبوع، وللكهرباء ثلاث مرّاتٍ في اليوم، وللحسوماتٍ الضريبيّة… والحقوقية. نحن الذين تعلّمنا ألّا نعتمد إلا على أنفسنا: “موتير”، “سيتيرن”، “تعليق”، “دوبل عنّه”، “كوميسيون”، “زعبر”. إنها مصطلحاتنا اليوميّة. ونحن شعب الرقص في الملاهي والمقاهي على ألحان الأغاني الثوريّة.

كان يجدر بنا أن نكون منقسمين أفقياً، ولكننا رضينا القسمة العاموديّة. 34 اسماً فقط لا غير يملكون نصف قيمة مجمل الأجور المحققة في الاقتصاد المحلي، وهؤلاء يغنون مع زياد الرحباني: “شوف الليرة ما أحلاها، بتقطع من هوني لهونيك”. والملايين لا يخرجون للسؤال عن الرغيف، وعن النفايات التي تملأ الطرق وعن البنزين.

لكن الملايين يخرجون إن شتم أحدهم واحداً من الثلاثين. لؤلؤةُ مصالح مغلّفةٍ بمصادفة دينيّة.

خرج البعض ليحتجّ على القمامة أمام بيته، خرج البعض ليطلب الإصلاح في أرض أهله، فما كان من الملايين إلّا أن خوّنوهم/ن، وقاطعوهم/ن، وشتموهم/ن! فأغلب عسكرنا لا يثور إلا لمعاشاته التقاعديّة، وأغلب معلّمينا لا يضرب إلا لمخصصاته الاجتماعيّة، وقضاتنا لا يعتكفون عادة إلا لصناديقهم الماليّة، والمعارضون يعتصمون غالباً صامتين وخائفين.

نحن شعب الغش المشترك والنفاق الاجتماعي. مخابراتنا علينا، إعلامنا علينا، الممثلون عن الشعب ممثلون علينا. نحن شعب يتغنّى بالعيش غشاً، فكتبنا تنبئنا بأنّ شركاءنا يحلّ قتلهم/نّ. ونحن شعب يتغنى بالوفاق نفاقاً، فأول منعطفٍ ساعة تخلٍ فحوادث فرديّة. نحن شعبّ يودّ لو بمقدوره أن يجمع من أجساد من يشاطره الهواء مطية، نحن شعب كلّما حزن أو فرح يحاول قتل السماء برصاصاتٍ. فرحنا، حزننا، نجاحنا، فشلنا، عجزنا، وجعن، إطلاق نارٍ وعنترياتٍ وتحدٍ وعنجهيّة. يختلف الساسة، نقتل بعضنا بعضاً! يضيق بنا العيش، نقتل بعضنا بعضاً! يلقي شاعرٌ قصيدةً، نحتجّ. نتقاتل! وإذا اشتدّ علينا الضيق، نفرغ كبتنا بشابٍ، أو فتاةٍ، وفي أحسن الأحوال بفرقةٍ موسيقيّة.

خرج البعض ليحتجّ على القمامة أمام بيته، خرج البعض ليطلب الإصلاح في أرض أهله، فما كان من الملايين إلّا أن خوّنوهم/ن، وقاطعوهم/ن، وشتموهم/ن!

تطاردني فكرة الكتابة عن قمع الحريّات في لبنان، أعطّل العقل. أشارك في المسيرات الشعبيّة. أمنّي النفس بتواصلٍ مع أبناء جلدتي: تاجرٌ لا يرى إلا دولاراتٍ فيّ، وصاحب حرفةٍ لا يتوانى عن غشي، وسائق أجرة لا يرضيه بدل النقل مضاعفاً، ويشكو من الظروف المعيشيّة. نحن شعب الذاكرة المفقودة والفضائح اليوميّة.

ينقصنا تصالح مع الذات، ينقصنا عقد اجتماعيّ، تنقصنا معارضة حقيقيّة. ينقصنا من يسلخ نفسه من مرض المصالح الشخصيّة. فمن ينجح منّا ليس خصمنا، ومن يعمل بيننا لا نرجمه بعقدنا النفسيّة، ينقصنا من يخرج لحقنا، لا لنزواته الفرديّة. يلزمنا من تخرج لمطالبنا، لا لأهدافها الأنانيّة. يلزمنا أن نطبق على غيرنا ما نطلبه لأنفسنا، يلزمنا أن نفهم معنى الحريّة.

“المسيحيون الجدد” ينتصرون على “مشروع ليلى”