“أنا أستمع إلى الموسيقى العالمية أيضاً”، يقول بوب ديلان في مقابلة شهيرة له مع مجلة “بلاي بوي” في العام 1978، ويتابع: “أحب الموسيقى الآتية من الشرق الأوسط كثيراً”، “مثل من؟”، تسأله المجلة، فيجيب: “أم كلثوم”، تسأل المجلة: “من هذه”، فيجيب ديلان: “هي كانت مغنية مصرية عظيمة. سمعت بها لأول مرة عندما كنتُ في القدس”.
يستطرد ديلان قائلاً: “أعتقد أنها مشهورة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وفي إسرائيل أيضاً. وهي تغنّي في الغالب أغاني الحب والصلاة (يقصد الأغاني الدينية) مع مرافقة الكمان والإيقاعات. كان والدها يردد تلك الصلوات، وأعتقد أنها كانت جيدة جداً حينما حاولت الغناء من خلف ظهره، إلى درجة أنه سمح لها بالغناء بشكل احترافي. وهي ماتت الآن، لكن لم تُنس أبداً. إنها رائعة حقاً، رائعة حقاً”.
ليس بسيطاً هذا الرأي بأم كلثوم من شخص نال لاحقاً (2016) جائزة نوبل للآداب عن كلمات أغنياته التي كتبها بنفسه. وإذا كان صحافي “بلاي بوي” الذي أجرى المقابلة مع ديلان، لم يسمع بأم كلثوم حينذاك، أي في نهاية السبعينيات، فإن الأمر تغيّر تماماً في التسعينيات.
في تسعينيات القرن العشرين، اكتسبت أم كلثوم جمهوراً عابراً للقارات، أكبر بكثير مما كان عليه خلال حياتها. هذا ما تقوله الباحثة فرجينيا دانييلسون في كتابها “صوت مصر”، الذي خصصته لـ”كوكب الشرق” أم كلثوم. تشير دانييلسون إلى أن أم كلثوم بحلول العام 1990، لم تعد مجرد رمز موسيقي عربي، بل أصبحت جزءاً من السرديات الثقافية العالمية، حيث دُرّست في الجامعات، وأُعيد إنتاج موسيقاها في أعمال غربية، وتُرجمت قصتها إلى لغات متعددة، كما أُدخلت أغانيها إلى مناهج دراسية، وتُباع تسجيلاتها في متاجر دولية، وأصبح الإنترنت وسيلة جديدة لجذب مستمعين جدد إليها، ما جعل إرثها أكثر انتشاراً مما كانت تتخيله في حياتها.
أعلنت وزارة الثقافة المصرية في عام 2025، أن هذا العام هو عام “كوكب الشرق”، وذلك بمناسبة الذكرى الـ50 على رحيلها، وجاء في بيان الوزارة “يأتي هذا الإعلان تأكيداً على الدور المحوري، الذي لعبته أم كلثوم في تشكيل وجدان الأمة العربية، بوصفها رمزاً خالداً من رموز الفن المصري، وصوتاً عابراً للأجيال لا يزال ينبض بالحياة في قلوب الملايين”.
امتدّ تأثير أم كلثوم إلى الجامعات الغربية، حيث باتت موضوعاً للبحث والدراسة في مجالات الموسيقى، الدراسات الثقافية، ودراسات الشرق الأوسط. وفقاً لمصادر أكاديمية، تمّ تحليل صوتها وتقنياتها الغنائية في أبحاث جامعية في أكسفورد، والسوربون، وهارفارد، كما يتمّ تدريس موسيقاها في مقررات عن الموسيقى العربية في جامعات مثل كولومبيا وبرينستون.
في جامعة أكسفورد، أُجريت دراسات تحليلية لصوت أم كلثوم باستخدام تقنيات متقدّمة، حيث تمّ البحث في بنيته الطيفية، وكشفت النتائج عن غنى صوتها، مما يمنحه دفئاً وعمقاً نادرين في عالم الغناء. هذا النوع من الدراسات يُثبت أن إرثها الموسيقي لم يعد محصوراً بالعالم العربي، بل أصبح مرجعاً عالمياً في دراسة الصوتيات والغناء الكلاسيكي الشرقي.
تقوم دانييلسون في كتابها القيّم عن “الستّ”، بتحليل أسباب تفوّق أم كلثوم الصوتي والتقني، فتؤكّد أن صوت أم كلثوم لم يكن مجرد موهبة فطرية، بل كان نتيجة تدريب مستمر، ومقدرة على التحكّم بالنفَس، واستخدام تقنيات غنائية متقدّمة. امتلكت أم كلثوم مدى صوتياً واسعاً وقدرة استثنائية على التحكّم في طبقات صوتها، ما مكّنها من الغناء لفترات طويلة من دون أن تفقد النقاء أو القوة. تشير دانيلسون أيضاً إلى أن أم كلثوم لم تعتمد فقط على قوة صوتها، بل امتلكت حساسية عالية في التعبير، حيث كانت تغيّر في نبرات صوتها لتعكس المشاعر الكامنة في الكلمات.
بالعودة إلى ديلان، انتشر له قبل سنوات تسجيل من مقابلة إذاعية، يعود للعام 1979، يقول فيه عن أم كلثوم: “بعد سنوات على رحيلها، ما زال العرب يعتبرونها أهم مغنّياتهم وأفضلهن. حين تُوفيت شارك في جنازتها اربعة ملايين شخص، وزحف خلف النعش بضعة ملايين، وداروا في الشوارع طوال ثلاث ساعات، قبل أن يعودوا بالنعش إلى المقبرة”. كما يدعو في التسجيل إلى ضرورة الاستماع إلى أم كلثوم لاستكشاف صوتها وأسلوبها في الغناء. وكان يتوجّه إلى الجمهور الغربي، رغم معرفته أن أحداً لن يستطيع فهم كلمات الأغاني.
كانت أم كلثوم رائدة في تقنية التطريب، حيث تُعيد تكرار الجمل اللحنية بطرق مختلفة، وعلى مقامات مختلفة مع تمكّن احترافي من هذه المقامات الموسيقية العربية، وقدرة على التنقّل بينها بسلاسة، ما يجعل كل أداء حيّ لها من حفلاتها فريداً وغير متكرر، كما تشرح لنا دانييلسون في كتابها.
ومع أنها لم تغنِّ إلا باللغة العربية، فقد استطاعت أن تخترق ثقافات أخرى، وتتسلل إلى قلوب أشخاص لا يفهمون معنى ما تغنيه، لكن صوتها يؤثر فيهم، تماماً كما حدث مع النجم الأميركي مارلون براندو، الذي يقول في تصريح يعود إلى العام 1967، إن “صوت أم كلثوم ينفذ إلى أعمق أعماقي، مع أني لا أفهم اللغة، وأنا أحتفظ بين مجموعة إسطواناتي بعدد كبير من إسطواناتها”.
إقرأوا أيضاً: