fbpx

لاجئ فلسطيني في الأردن… حنين لا ينقطع لـ”البئر الأولى” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“لاجئ جديد جاء إلى هذا العالم”، كانت هذه كلماتي الأولى حين ولدت ابنتي دارين عام 2001 في عمان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

طرحت “صفقة القرن” موضوع الشتات الفلسطيني، لا سيما في الأردن ولبنان وسوريا وغيرها من مناطق التجمعات الفلسطينية. ما عرضته التسريبات حول مصائر هذا الشتات كان التوطين مقابل “فدية”، وبدا هذا العرض قليل المعرفة في تعقيدات هذا الملف، وقليل الحساسية حيال مأساة هؤلاء اللاجئين. وجاءت إجراءات الحكومة اللبنانية حيال عمالة الفلسطينيين لتثبت أن هذا الملف صار جزءاً من ملفات فساد الأنظمة السياسية، وورقة مفاوضة في أكثر من اتجاه.

“درج” طلب من كتاب وصحافيين فلسطينيين يقيمون في دول الشتات كتابة قصصهم الخاصة والعامة في دول اللجوء. هنا حكاية الصحافي  الفلسطيني ماجد توبة.

“لاجئ جديد جاء إلى هذا العالم”، كانت هذه كلماتي الأولى حين ولدت ابنتي دارين عام 2001 في عمان. لاجئة صغيرة لا تعرف ماذا ينتظرها، لا تعرف أن الحياة هنا تمارس شراستها على أولئك اللاجئين الهائمين في بلاد الله الواسعة.

خانة جديدة في بطاقة وكالة الغوث “الأونروا” لدارين، لم يبق من مفعوله لا معونات غذائية ولا علاجية، لكنه وثيقتك الشخصية الأهم و”جواز سفرك” إلى ذاكرتك الوطنية وتاريخ شعبك المشرد بكل فيافي الأرض. في الأردن هي الوثيقة الرسمية الوحيدة التي تثبتْ فلسطينيتك، بعدما نال اللاجئون الفلسطينيون ونازحوهم وأبناؤهم الجنسية الأردنية، منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، مع وحدة الضفتين الغربية والشرقية في المملكة الأردنية.

لم أسكن أحد المخيمات الفلسطينية الـ13، التي منها 10 رسمية تعترف بها “الأونروا” في الأردن، ولم أدرس كما الكثير من أولاد اللاجئين بمدارس مخيم الزرقاء على هامش مدينتي الكبيرة، والذي لا يزال عنواناً صامداً لنكبة الفلسطينيين. لكنه شكّل لي “البئر الأولى”، حيث مركز توزيع مؤن الوكالة (المخصص لتوزيع الحصص الغذائية الإغاثية للاجئين)، الذي كانت تسد معوناته الشهرية لأسر اللاجئين جزءاً يسيراً من حاجاتها في السبعينات ومطلع الثمانينات، قبل أن تتقلص وتنقطع عن أغلبية اللاجئين.

على رغم قساوة وصعوبة مراجعته على طفل لم يتجاوز العشر سنوات في ظل الازدحام والفوضى العارمة في المركز كنت حريصاً، بل وأستمتع، بمرافقة والدتي للحصول على “حليبات وسمنات وسُكرات” الوكالة، واللعب على الهامش مع الأولاد الآخرين والشجار معهم، قبل أن يحلَّ موعد الفقرة الأحلى والأكثر إثارة في “يوم الوكالة”، وهي لحظة امتطاء سيارة الشحن الصغيرة مع الكثير من الأمهات والأولاد للعودة بـ”الغنيمة” إلى البيوت. رحلة قصيرة تعج بصراخنا نحن الصغار، فيما نغني لثورة ولوطن سليب لم نعرف منه سوى طاقة الوكالة ومعوناتها، وحكايا لا تنضب في ذاكرة الوالدين والأقارب وبقايا مفاتيح صدئة وقواشين مهترئة لبيوت وأراض باتت أطلالاً تبكي أصحابها الغائبين.

لم يكن هناك أجمل ولا أكثر إثارة من النوم عند الأقارب في البقعة (أكبر المخيمات الفلسطينية في الأردن) أو مخيم حطين (شنلر) وتمضية أيام في العطل والإجازات أثناء فترة الطفولة والمراهقة واللعب في حارات المخيمين وبين بقايا براكيّات الصفيح وتلك المبنية من الإسمنت.

في البقعة وحطين تعرفت بقوة على لاجئين من يافا وحيفا والقدس وبئر السبع حيث كان كلٌ يسرد قصة بلدته وناسها وحياتها قبل النكبة، وكأنه عاش وترعرع فيها

من دير الشيخ قضاء القدس، الجملة الأكثر التصاقاً بشفتي حين التعريف بنفسي، تماماً كما كل اللاجئين الفلسطينيين، وفي البقعة وحطين تعرفت بقوة على لاجئين من يافا وحيفا والقدس وبئر السبع حيث كان كلٌ يسرد قصة بلدته وناسها وحياتها قبل النكبة، وكأنه عاش وترعرع فيها، كانت الذاكرة الشخصية والجمعية للفلسطيني بوطن لم يره الأبناء والأحفاد بمثابة الرحم الآمن والهوية العصية على الذوبان والمصادرة، والتي يلجأ إليها اللاجئ، هرباً من قسوة اللجوء والفقر والحنين لأرض الأجداد.

في المخيم ومع أقراني الأطفال والمراهقين تعلمنا التظاهرات والمسيرات الاحتجاجية في يوم الأرض أو في الانتصار لبيروت والثورة الفلسطينية عام 1982 قبل أن يرحل “الذين نحبهم” إلى منفى جديد، أو تضامناً مع شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا وقبلهما تل الزعتر، أو الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة في الأرض المحتلة.

في مخيمات البقعة والزرقاء وحطين أيام المدرسة، كنا نرضع اللجوء، على رغم امتلاكنا الجنسية الأردنية وانتسابنا إلى مدارس حكومية، وعلى رغم أننا لم نكن نعاني من أي تمييز في السكن والعمل والدراسة وكل مناحي الحياة.

كان التحدي الأمني أحد الروافد المهمة لتعميق ارتباط الفلسطيني بهويته الوطنية ربما بخلاف ما أرادته الأجهزة الأمنية بمرحلة الأحكام العرفية بالأردن التي رفعت رسمياً عام 1989. وتمثل هذا التحدي بالخشونة والقمع القاسي بفضّ الاحتجاجات، ناهيك بالملاحقات الأمنية والاعتقالات والأحكام الطويلة للنشطاء ومنتسبي القوى السياسية التي كان أكثرها حضوراً وانتشاراً بين صفوف اللاجئين والفلسطينيين، هي تلك المرتبطة بالثورة الفلسطينية من “فتح” وجبهة شعبية وجبهة ديموقراطية وغيرها، إضافة إلى جماعة الإخوان المسلمين “المدلّلة” رسمياً.

لكنه وللأمانة التاريخية كان نهجاً أمنياً خشناً معتمداً، مع بقية احتجاجات طلبة الجامعات وتلك المطلبية لشرائح مجتمعية أخرى ومن شتى الأصول والمنابت.

وحتى اليوم، وعلى رغم الحديث هنا وهناك، عن بعض التمييز ضد الأردني من أصول فلسطينية ومن بينهم اللاجئون، فإنها لا تعدو حالات فردية غير مقوننة ولا تشكل ظاهرة أو مشكلة عامة، ربما باستثناء التمييز بالانتساب لبعض الأجهزة السيادية، الأمنية تحديداً، لظروف ومعطيات ارتبطت بتداعيات مرحلة تاريخية سوداء تمثلت بأحداث أيلول/ سبتمبر عام 1970. لكنه تمييز لم يطل القطاعات الأخرى، من جامعات ومدارس ووظائف حكومية وعمل بالقطاعين الخاص والأهلي وتشكيل النوادي والجمعيات، وصولاً إلى الحق الكامل بالانتخاب والترشح للانتخابات التشريعية والنقابية والحزبية والطلابية، والدخول في الوزارة بل وتشكيلها.

وعلى رغم تركيز البعض على التحفظ على حجم التمثيل الأردنيين من أصول فلسطينية في الوزارة والبرلمان، فإن غالبية النخبة الفلسطينية لا تقف عند ذلك بل تنخرط مع غالبية النخبة من أصول أردنية بنضال مشترك لتأكيد أن الحل هو بتعزيز الديموقراطية ومفهوم المواطنة ودولة القانون والعدالة والمساواة، حيث أساس التمييز واللامساواة هو في غياب هذه القيم الديموقراطية والإصلاح السياسي. وآثارها السلبية تمتد إلى الغالبية الشعبية من شتى الأصول والمنابت، وتأخذ منحنيات طبقية واقتصادية واجتماعية وسياسية تكتوي بنارها الأغلبية الشعبية.

على رغم الحديث هنا وهناك، عن بعض التمييز ضد الأردني من أصول فلسطينية ومن بينهم اللاجئون، فإنها لا تعدو حالات فردية غير مقوننة ولا تشكل ظاهرة أو مشكلة عامة

في الأردن اليوم، بحسب الإحصاءات الرسمية، حوالى 2.4 مليون لاجئ فلسطيني بينما ترتفع النسبة للأردنيين من أصول فلسطينية لنحو 40 في المئة (نحو 3 ملايين)، من مجمل المواطنين الأردنيين البالغ عددهم في إحصاء 2015 نحو 6.5 مليون، إضافة إلى حوالى 140 ألف غزّي لا يملكون بالجنسية الأردنية.

إقرأ أيضاً: أن تكون فلسطينياً… في لبنان

في 1987 أنهيت دراستي الثانوية واتجهت إلى جامعة “اليرموك” الحكومية لدراسة الصحافة والعلوم السياسية، حتى في هذه، كانت الأسرة، علماً أن والدي وفّر بعمله كسائق شاحنة بين الأردن والعراق حياة كريمة ومريحة نسبياً لنا، ترزح تحت عقدة اللاجئ، كما هو وضع أغلب أسر اللاجئين. وتحفظت عائلتي ولا سيما والدي على رغبتي في الاتجاه إلى اختصاص الصحافة، باعتبارها رديفاً للسياسة ومعارضة السلطة، و”تجلب وجع الرأس” للفلسطيني.

طالت سنوات “المرمطة” في الصحف الأسبوعية الأردنية، مع إغلاق الصحف اليومية الرسمية بوجه الكثير من الصحافيين المحسوبين على المعارضة، وكان عليّ كما كل الصحافيين أن أناضل وأن أكابر.

اليوم وعلى مشارف الخمسين، بات اللاجئ الأب يغبط ويحسد ابنتيه اللاجئتين دارين (18 سنة) ورهف (15 سنة)، اللتين ميّزهما القدر عن أبيهما بأم تحمل الهوية (الجنسية) الوطنية الفلسطينية، باعتبارها أصلاً من سكان الضفة الغربية، فباتت الابنتان كما أمهما تحملان، إضافة إلى الجنسية الأردنية، الجنسية الفلسطينية التي تمكنهما من زيارة فلسطين دورياً من دون حاجة إلى تصريح من إسرائيل. أما الأب اللاجئ فيقف عاجزاً عن مرافقة عائلته إلى منزل جديهما في محافظة طولكرم، وتقبيل تراب دير الشيخ غرب القدس، التي لم يبق منها إلّا الأطلال وقبور فلسطينيي ما قبل النكبة.

أن تكون فلسطينياً سورياً