fbpx

مدرسةٌ مصرية: تصفيقاً، خوفاً، خرافاتٍ، وإنتاجاً للسلطوية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد ثلاثين عاماً ونيف لو سألتني لم صفقنا لما استطعت جواباً. كنا وقوفاً ننتظر “المترو” (السطحي) الذي كان وسيلة المواصلات من وإلى مدرستنا الإعدادية والثانوية؛ يومها تعطل الشارع إنتظاراً لموكب رئاسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد ثلاثين عاماً ونيف لو سألتني لم صفقنا لما استطعت جواباً. كنا وقوفاً ننتظر “المترو”  (السطحي) الذي كان وسيلة المواصلات من وإلى مدرستنا الإعدادية والثانوية؛ يومها تعطل الشارع إنتظاراً لموكب رئاسي. سرنا، أنا وزميل لي، حتى وصلنا إلى طريق “الرِكاب”، أتى الموكب الضخم وفيه سيارة الرئيس (آنذاك) حسني مبارك. لوّح لنا مبتسماً، صفقنا آلياً. من مرّ بهم الموكب قبلنا صفقوا فتبعناهم، ثم تبعنا من تلانا في طريق الموكب. كنت في الرابعة عشرة تقريباً، لم تكن لدي قناعاتٍ سياسية، أما شريكي في التصفيق، فكان ابن عضو في جماعة “الإخوان المسلمين”، قضى أبوه سنواتٍ في سجون عبد الناصر، حكى لي عن عذاباتها الكثير (وإن لم يذكر، كما يقضي التقليد الإخواني، شيئاً عن تحالف الإخوان مع ضباط إنقلاب يوليو 52 العسكري قبل الصدام بينهم). صفقنا سوياً.
مدرستنا، “الطبري”، سُميت على اسم المؤرخ ومفسر القرآن الشهير أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري (ت 310 ه – 923 م)،  الذي رفض حنابلة بغداد دفنه في مقابر المسلمين بعد أن وصف إمامهم، الإمام أحمد ابن حنبل (ت 241 ه – 855م)  بالمُحدّث لا الفقيه. حوصر العلامة في بيته حتى مماته ورُمي بالإلحاد و”الرفض” من أناسٍ، حسبما تخبرنا رواية  يوردها المؤلف الأشهر ابن كثير: “والله لو سُئل]وا [… عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه، ولا فهموه”. كنا في “مدرسة الطبري” تبعٌ لأولئك الحنابلة.
مدرستنا الحكومية كانت من الأفضل في البلاد، الخلفية الاجتماعية السائدة كانت لأبناء الطبقة الوسطى  والوسطى-العليا، أغلب زملائي كانوا أبناء موظفي دولة: ضباط شرطة وقوات مسلحة، موظفون حكوميون وأساتذة  جامعات حكومية. زاملنا على مقاعد الدراسة أبناء لوزراء ولكبار رجال القضاء. لكن نخبوية التكنوقراط هذه لم تعنِ التفرد. مباني مدرستنا كررت نموذجاً موجوداً في كل البلاد: أربع طوابق تفتح الفصول فيها على ممرات تطل على الفناء. في الداخل البلاط رماديٌ قذر اللون مهما نظفته، في الخارج الفناءُ مرصوف بالأسفلت تتخلله حجارة، الويل لك إن سقطت!  لا أذكر في المدرسة كلها من الخُضرة سوى حديقة صغيرة للغاية عند أحد مداخلها، وشجرة واحدة. إحساس السجن ثبتته في نفسي أسوارٌ شاهقة وبوابات حديدية ضخمة، لا تُفتح إلا ساعات الخروج والدخول.
بداية اليوم الدراسي طابور الصباح، هذا يبدأ بالقرآن الكريم (تسمعه مسلماً كنت أم لا) وينتهي بالنشيد الوطني وتتخلله “الإذاعة المدرسية” بقراءة الأخبار وربما نصوص أخرى. تحت عين المدرسين ب”خرازاناتهم” الطويلة المؤلمة مقدمة الصفوف عادة منضبطة، أما من في الخلف فيتحدث ويمرح وربما حتى يُدخن. خلال اليوم أحد مهام المدرسة الأساس هي منع طلبتها من التسلل إلى خارجها، تعاونها في ذلك الشرطة التي تلقي القبض على الطلبة “المتسربين” في الشارع أو في دور السينما التي “يهربوا” إليها. لكن الطلبة “المبدعين” لم يعدموا أبداً وسيلة الهروب. عدا القفز من على سور المدرسة العالي حيث  أمكن، بعض الفصول كانت تطل على كليةٍ جامعية مجاورة موفرةً “مَقفزاً” ملائماً.
كان المدرس المسكين يدخل الفصل وفيه ثلاثين ويخرج وفيه عشرة.  علمتنا المدرسة الرغبة في الفوضى أكثر مما علمتنا الإنضباط. لا أذكر أيّ جهدٍ لإقناعنا بمنطق النظام، بل هو مرتبطٌ بالحضور المباشر للعقاب. مشهد طابور الصباح بواجهته المنتظمة تحت العصا وخلفيته الفوضوية بعيداً عنها يختزل المجتمع المصري، تماماً مثلما يجدده: سلطوية فاشلة اللهم إلا في إنتاج من يرغب في الهروب منها ويتفادى، عادةً ،مواجهتها. وفي مدرسة للذكور فقط ترافق ذلك مع توافر موادٍ جنسية (أفلام ومجلات) ممنوعة قانوناً متاحةٌ واقعاً (كان هذا قبل الإنترنت)، النتيجة كانت مراهقين لم يتعاملوا مع امرأةٍ خارج بيوتهم ، مصدر تعليمهم الجنسي الرئيس يقدم لهم البشر (رجالاً ونساء على حد سواء) ك”أشياء” لا روح لها ولا إنسانية فيها، لا يستغرب من  هؤلاء التحرش بأي إمرأة يرون.
ومثلما عملت السلطوية على التحكم فينا جسدياً (مسجونون داخل مدرسة) عملت أيضاً على قولبة تفكيرنا، وكانت هنا أنجح بكثير. اسم منهجنا الرسمي كان “المٌقرر”، أسئلة امتحاناتنا لم تخرج عادة عن ثلاث صيغ: “اذكر ما تعرفه عن”، “علل”، “بيّن الصواب والخطأ مع ذكر الأسباب”.” إجابتك لا بد أن تأتي من “المُقرر”. إياك أن تفكر، إياك أن يكن لك رأي يخصك. حتى المجالات التي يفترض فيها أن تعبر عن نفسك فيها لم يكن لك ذلك، “التعبير” أو “الإنشاء” في اللغة العربية كان له  نماذج لنحفظها، مواضيع مكتوبة مسبقاً. لا تعبر عن نفسك في التعبير ولا  تتفلسف في الفلسفة: اذكر محاولتي الجدل مع مدرسٍ للفلسفة ، معترضاً على تمجيد الإمام الغزالي قبال ابن رشد (مع علمي المحدود عن الاثنين )، فرد علي ببلاغة: “ماتتفلسفش بزيادة واحفظها زي ما هي.” حواري مع مدرس الفلسفة هذا لم يقع داخل الفصل، بل في الدرس الخصوصي، في بيتنا. وقتها كما الآن، راتب المدرسين المحدود عنى أن مصدر دخلهم الرئيس هو “الدروس الخصوصية” خارج المدرسة (مما حط أكثر من قيمتها). إن استطاع أهلك الدفع المدرس يشرح لك أنت وحدك في بيتك، موظف عندك لا عند الدولة. لكن في البيت أو في المدرسة (التي كنت مجبراً على الذهاب إليها لأن كثرة الغياب كانت تعرضك للفصل)  “المقرر” هو نفسه.
مساحة الأساطير الكبرى كانت التاريخ. لا أذكر أننا درسنا شيئا عن الفتنة الكبرى، ولا عن بشاعات الأمويين أو العباسيين ضد خصومهم. التشيع مؤامرة الفرس الحاقدين على العرب الفاتحين (إيران لم يغلب عليها التشيع إلا بعد القرن السادس عشر ) العثمانيون كانوا انحطاطاً مطلقاً (لماذا صمدت امبراطوريتهم قروناً؟). القومية ولدت مع الجيش المصري في عهد الألباني محمد علي باشا (الجيش الذي كان يهرب الفلاحون من التجنيد فيه). ثورة 1919، الثورة الشعبية الحقيقة تلقى اهتماماً أقل بكثير من انقلاب يوليو 52 العسكري ، المُسمى كذباً ثورة.
كوارث حكم جمال عبد الناصر نمرّ عليها مرور الكرام. لا ذكر لهزيمة الجيش المصري الساحقة (غير المستغربة) عام 1956، ولا للقرار السوفيتي-الأمريكي الذي ردّ العدوان (لا المقاومة الشعبية، على بسالتها، كما أخبرونا)، ولا لمأساة حرب اليمن. كارثة يونيو 67 تمر عليها مرور الكرام، وعن حرب أكتوبر 73  لا ذكر للثغرة. التاريخ هنا، كما عند غيرنا، مشروع قومي ساذج. أمزج ذلك مع منظومة تلفظ التساؤل وتحتقر الإختلاف تخرج بفاشية فجة، أي اتجاه سياسي ذهبت هذه الفاشية، ثم اخلط ذلك كله بثقاقة أبوية سائدة تجد أمامك “لا-أفراد” يتأرجحون عادةً بين الخنوع والفوضى.
في الأصل لم يكن في مدرسة الطبري  الثانوية المتميزة  قسم أدبي، تصادف أن فُتح ذلك القسم حين وصلت مرحلة التخصص. دخولي  القسم الأدبي كان كارثةً  لبعض أفراد أسرتي، إذا أهدرت فرصي أن أكون طبيباً أو مهندساً (هل من وظائف أخرى؟) أما شغفي بالتاريخ والفلسفة فكانا موضع سخرية. ثم كنت أسعد حظاً من غيري إذا دخلت الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم واصلت دراستي العليا بعد ذلك في بريطانيا.  لكن منطق (أو لا منطق)  تعليمنا الحكومي، ملتحماً بطبيعة مجتمعنا، صفعني مراتٍ متتالية. عام 2002 دعيت عضواً للجنة تختار مرشحين للدكتوراه لتموّل دراستهم. عدد ممن قابلنا كانوا أطباءً أتوا سعياً لدراسة مجالات مختلفة تماماً تفوقوا فيها (مثلاً: تنمية المجتمع، مسرح الأطفال، أدب الطفل). حين سألناهم لم َدرسوا الطب إن كان هذا ما يحبون كان ردهم واحد، عبارتين تكررتا بالحرف : “المجموع حكم” ، أي أن مجموع الدرجات المرتفع في الثانوية العامة حسم الأمر إذ أن أهلهم، كما كرروا جميعاً، قالوا “خسارة المجموع”. أنت “لا-فرد” في مجتمع أبوي تعيش فيه حيوات الآخرين لا حياتك أنت. متوقع إذاً أن التحدي الأكبر إن درست لطلبةٍ مصريين هو دفعهم للمشاركة في النقاش وصياغة أفكارهم، في إقناعهم أن الإختلاف مزَية، لا عيب يوجب الخوف. بعضُ ممن درّست، وكان هذا في مرحلة الدراسات العليا، بدا عاجزاً عن تكوين رأي، التحليل لا مكان له ، كل ما يستطيع هو رد الفعل موافقة (تظاهراً أوصدقاً) أو الرفض. كل شيئ  إما أبيض أو أسود وإن عشنا جميعاً في فوضى رمادية. أما محاولة فهم منطق الآخر كما يراه هو ، ناهيك عن “التماكن”، وضع نفسك مكان الآخر (empathy) ،  فهذه مفاهيم ذات دلالة أخلاقية يعجز هذا الطالب أن يراها، ناهيك أن يطبقها. أبعد ذلك كله يستغرب أن يعاني مجتمعنا من الاستقطاب؟ من التطرف أينما ذهب؟ من محدودية القدرة اللهم إلا على استبدال سلطويات بأخرى (أياً كان لونها)؟ من التأرجح بين التصفيق آلياً أو الهروب إلى الفوضى!![video_player link=””][/video_player]