fbpx

انفجار معهد الأورام وسقوط الصحافة المصرية…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إبعاد الصحافيين القسري جعل تغطية انفجار معهد الأورام أشبه بمهزلة، بعدما غابت المعلومات الصحيحة الموثقة من مصادرها ومن شهود العيان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، وقت يحاول فيه المصريون تنفس الصعداء، بعد نهار طويل ككل الأيام التي تعج بالمشاحنات والمشاجرات والأصوات العالية والغلاء المعيشي والهم والغم. حياة منهكة اقتصادياً وصحياً، قد لا تحتمل حتى الحديث في السياسة، إذ يبحث الواحد عن أي نشاط في ساعات الليل الطويلة، لدفع الوقت، حتى يأتي النوم كرصاصة رحمة تُصوب نحو مريض ينازع ولا يرتاح.

لكن منتصف ليل يوم الإثنين الماضي، جاء بصوت دوي انفجار هائل سمعه كل من يسكن في مناطق المنيل والسيدة زينب وميدان الجيزة، وسمعته أنا بينما أمارس طقوسي ككل المصريين في استجداء الوقت كي يمر. لحظات من الصمت بعد نكزات الرعب الأولى وقشعريرتها، جاء الخاطر المبدئي، قنبلة زرعت بالقرب من أحد المقرات الأمنية أم تفجير جديد في إحدى الكنائس؟ ها هي تحذيرات بريطانيا لرعاياها تتحقق؟ جلست حتى الرابعة صباحاً أتابع الأخبار، لكن الأخبار شحيحة ومتضاربة. المؤكد الوحيد أن ما حدث انفجار ضخم أمام معهد الأورام، المكان الذي يقبع فيه عشرات الأطفال وكبار السن الذين يعانون من السرطان جراء التلوث والأكل غير الصحي وسوء التغذية، ووصل عدد الضحايا إلى 19 قتيلاً و30 مصاباً، إضافة إلى كيس أشلاء! 

مع ساعات الصباح، بدأت الصور تنتشر على “فيسبوك” لأهالٍ يحملون أطفالهم ويهرعون بهم إلى الشارع واضعين كمامات على وجوههم، وتحاليل طبية بين أيديهم، أما الأطفال فمنهكون من جلسات الكيماوي، وكذا رجل مسن مريض، يحاول أن يهرول بعيداً من مكان الحادث، لكن جسده لا يعينه.

هرب النوم الرحيم وطاولت نوبات الرعب الجميع، فيما منع الصحافيون من ممارسة عملهم في نقل الحدث، وقد عبّرت منشوراتهم عن امتعاضهم.

الصحافة ممنوعة من التغطية

“مش هو دا اللي اتعلمناه في مهنة الصحافة، مشفناش صحافي واحد في مقر الحدث”، يقول عمرو بدر رئيس لجنة الحريات في نقابة الصحافيين تعقيباً على غياب الصحافيين القسري عن التغطية، “للأسف كان الخبر الأول عن الحادث هو تصريح من رئيس معهد الأورام، لم نر تغطية من قلب الحدث ولا شهادات من الناس، لأن الأجهزة الأمنية طبعاً لن تعطي تصاريحها في هذا الوقت المتأخر للصحافيين أو المصورين لتغطية الحدث”.

المؤكد الوحيد أن ما حدث انفجار ضخم أمام معهد الأورام، المكان الذي يقبع فيه عشرات الأطفال وكبار السن الذين يعانون من السرطان

بدر كان شاهداً على احتجاز 10 صحافيين خلال أسبوعين بسبب التصاريح الأمنية: “علينا دور نقابي في التحرك للطعن في إجراءات وزارة الداخلية التي تلزم الصحافيين بالتصاريح، لأن هذا الإلزام مخالف للقانون، فالقانون لا يلزم بتصريح أمني في الأحداث العادية غير السرية. نحتاج إلى جهد نقابي ودعم قانوني لنطعن في موضوع التصاريح الأمنية إلى جانب ضرورة فتح حوار مع الداخلية حتى لا تُهدَم مهنة الصحافة تماماً”.

في مصر تفرض الأجهزة الأمنية على الصحافيين والمصوريين ضرورة الحصول على تصريح أمني قبل القيام بتغطية أي حدث، أي تغطية خلاف ذلك تعرض الصحافي والمصور للاعتقال، حتى ولو كانت التغطية لا تتعدى تصوير بعض مظاهر الاستعدادات لعيد الأضحى مثلاً، كانتشار الخراف في الأسواق، مثلما حدث مع الزميلين خالد وربي وهاني شمشون من جريدة “التحرير”، اللذين تعرضا للاعتقال مؤخراً في سوق القليوبية. وكادا يعرضان على النيابة العامة بسبب تصوير استعدادات لعيد الفطر، لولا تدخل نقابة الصحافيين والتوسط لاطلاق سراحهما.

يمكن القول إن الصحافيين يتعرضون لإبعاد قسري من ممارسة مهنتهم بشكل طبيعي وسلس. هذا الإبعاد يأخذ أكثر من وجه إما بحجب الصحف أو إغلاقها أو بيعها لرجال أعمال تتصافح مصالحهم مع مصالح النظام الحالي، أو بإرغام صحافيين على التزام البيانات المكتوبة سلفاً من جهات عليا أو كما صار معروفاً بـ”أُرسل من جهاز سامسونغ”.

إبعاد الصحافيين القسري جعل تغطية انفجار معهد الأورام أشبه بمهزلة، بعدما غابت المعلومات الصحيحة الموثقة من مصادرها ومن شهود العيان. وتم تصدير بيانات وزارة الداخلية كمصدر وحيد موثوق لما حدث، وهي البيانات التي تضاربت بين روايات ثلاث، “تصادم سيارتين، إحداهما تحمل أنابيب غاز، انفجار في صمام الأوكسيجين الرئيسي في معهد الأورام، وانفجار سيارة تحمل متفجرات كانت تنوي “حسم” استخدامها في عمليات ارهابية وهو ما نفته حسم”.

قتلى وكيس أشلاء وضحايا آخرون ألقى بهم الانفجار في مياة النيل من شدة قوته، فيما لا يسمح للصحافيين بالمرور ولا التغطية، لكن وقبل غياب النهار، جاءت الجرافات لتزيح آثار الركام المتساقط من واجهة المعهد وتزيل بقايا السيارات المتفحمة. أدلة مهمّة حملتها الجرافات ببساطة وبلادة، بعيداً من مكان الحادث لتبدأ “شركة المقاولون العرب” ترميم واجهة المعهد سريعاً، مع إلهاء الرأي العام بضرورة التبرع لإعادة ترميم المبنى.

هكذا سيطرت الأجهزة الأمنية ببساطة على الحادث بالتعتيم وإبعاد الصحافيين قسراً وعدم تحميل نفسها أي جانب من المسؤولية تجاه الحادث، فهي لا ترى نفسها ملامة على تجول سيارة محملة بكل هذه المتفجرات في قلب المدينة، لكن الصحافيين من وجهة نظرها ملامون بالضرورة إذا قرروا التقصي والبحث وإثارة الأسئلة والتحليلات الواجبة.

شيماء مجدي (اسم مستعار) تعمل في قسم الإعداد التلفزيوني في قناة “سي بي سي”، تقول لـ”درج”: “علمت أن إدارة القناة قررت الاستغناء عن المسؤولين عن تغطية الشأن الداخلي بعد تعيين إدارة جديدة، وأظن أن هذا التغيير مقصود للسيطرة على الرسالة الإعلامية في ما يخص الشأن الداخلي. وفي تغطية حادث الانفجار أمام معهد الأورام كان يتم التضييق علينا، فأتت التغطية متخبطة وفقيرة ولم يظهر على قناة (سي بي سي اكسترا) حتى بعد ساعات من الحادث، أي خبر على شريط الاخبار يقول إن هناك انفجاراً حدث أمام معهد الأورام”.

هكذا سيطرت الأجهزة الأمنية ببساطة على الحادث بالتعتيم وإبعاد الصحافيين قسراً وعدم تحميل نفسها أي جانب من المسؤولية تجاه الحادث

وتضيف مجدي: “كل الصور التي تناقلتها المواقع أغلبها من صحافيين يعملون بشكل حر أو في وكالات أنباء أجنبية. أنا كنت أتابع قناة BBC  لأقف على تفاصيل حادث الانفجار، على رغم أنني أعمل في احدى أكبر القنوات المصرية، لكنها في الحقيقة لم تكن تبث أي شيء حول الحادث، والقنوات المحلية الأخرى كانت تبدو مستسلمة للرواية الرسمية”. وتتابع: “محدش طلع أي تفسير غير اللي بتقوله الداخلية ومحدش حتى حاول يجتهد بعكس ما كان بيحصل قبل كده. هناك استسلام للأوامر العليا مش بس في القطاعات الإخبارية السياسية والاقتصادية”.

نورهان مصطفى صحافية من “المصري اليوم”، تقول لـ”درج” إن آخر حدث قامت بتغطيته ميدانياً كان حادثة محطة قطار مصر والانفجار الرهيب فيها. وتؤكد أن “وجود الصحافيين لم يكن مرحباً به، ولم يسمح لهم بالحصول على معلومات. وتعرضت خلال قيامي بالتغطية لمضايقات من لواء شرطة اللواء، الذي كان مشرفاً على العملية الأمنية. هددني بشكل واضح، قالي لو ما مشيتيش، هاخد منك الموبايل واكسره، وأخده فعلاً وبعدين ادهولي بعد وساطات”.

وتردف نورهان: “أمس لاحظت أن الروايات المسلّم بها، هي روايات محددة، “أمنية” بشكل كبير، وعرفت من زملائنا في الحوادث، أن التغطية صعبة جداً، من مكان الحادث وأن الأمن أمر زملائي بالرحيل من دون السماح لهم بالتصوير. بدأوا يمشوهم، حسيت إني محبطة جداً ومروحتش”.

إيمان عوف وهي أيضاً صحافية زميلة تقول لـ”درج”: “عندنا أزمة ضخمة في مصر اسمها المنع من التغطية تحت حجج واهيه لها علاقة بالارهاب ومكافحته، أفهم طبعاً أن الارهاب يتطلب إجراءات استثنائية، إنما الأزمة أن الاستثناء تحول قاعدة يدفع ثمنها الصحافيون، وبات صحافيون يحتجزون بتهمة التغطية من دون تصريح”.

“وطبعاً هذه المنهجية أفرزت مجالاً اوسع للإشاعات، إذ لم تعد هناك صحافة قادرة على متابعة الحدث، وأصبحنا عرضة لصحافة رجل الشارع، وحتى إذا غامر الصحافيون وذهبوا للتغطية وتخطوا حواجز المنع والمصادرة والاحتجاز، فإن الجرائد تتبنى وجهة نظر إعلام الصوت الواحد، وبيان الداخلية والجهات المعنية”.

عمرو بدر رئيس لجنة الحريات في نقابة الصحافيين، يوضح لـ”درج” تعقيباً على التغطية الصحافية المحلية للانفجار: “عموماً وليس حدث الانفجار أمام معهد الاورام فقط، مهنة الصحافة تعاني منذ عامين من تأخر واضح في التغطيات الميدانية وأغلب وسائل الاعلام العالمية والعربية تسبقنا في التغطية لسببين، الأول أن الصحف والقنوات المحلية أصبحت بمعظمها تنتظر التعليمات الأمنية الرسمية قبل النشر، والثاني هو إلزام الجهات الأمنية الصحافيين والمصورين بضرورة الحصول على تصريح أمني قبل تغطية أي حدث، وهو ما يعد مخالفاً للقانون، وقتلاً لمهنة الصحافة التي تتطلب أحياناً سرعة في الوصول إلى قلب الحدث، وليس الذهاب إلى أقسام الشرطة للحصول على تصريح وانتظار الأختام والموافقة”.

ويختم، “بوضوح من غير لف أو دوران أزمة الصحافة المصرية هي أزمة  حريات في المقام الأول، الإعلام المصري غير حر، هناك مهن بطبيعتها من دون حرية تموت، منها مهنة الصحافة، وسلب الحرية من الصحافة أخذ أشكالاً متنوعة، فإضافة إلى مسألة التصاريح الأمنية، ما زلنا نعاني من مشكلة حجب المواقع الإلكترونية والمنع من الكتابة ومصادرة الصحف من المطابع. هامش الحرية يضيق ونحاول أن نأخذ خطوات جادة داخل لجنة الحريات لتوسعته”.

مصر: حجب مواقع المؤسسات الإخبارية لأجل “موسم الدراما”