fbpx

المقاهي التي تصبح بيوتنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في المقهى الذي أجلس فيه كل يوم، يعرف النادل وجهي تماماً، كيف يبتسم ولماذا يعبس، وحين يصبح شكله ميؤوساً منه لشدة التعب والمحاولة. طاولتي دوماً أجدها فارغة، كأنها تترقّب وصولي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نحن الذين نستعير مدن الآخرين لنعيش فيها، وبيوت الناس لنستأجرها موقتاً، نحن الذين هجّرتنا الحرب، ثمّ هجّرتنا أريافنا من هوائها وصرنا نازحين في بيروت، التي نحاول كل يوم أن نجعلها مدينتنا، بعدما فقدنا طريق العودة النهائية إلى ديارنا الهانئة البعيدة. نحن الذين ندور في الشوارع بحثاً عن هواء ننتمي إليه، ثمّ نعود مساءً مختنقين، عاجزين عن التنفّس.

نحن الذين نجلس كثيراً في المقاهي، ونأكل كثيراً ونشرب كثيراً في المقاهي، نحوّل كراسينا فيها مع الوقت إلى بيوت وأمكنة شديدة الخصوصية.

في المقهى الذي أجلس فيه كل يوم، يعرف النادل وجهي تماماً، كيف يبتسم ولماذا يعبس، وحين يصبح شكله ميؤوساً منه لشدة التعب والمحاولة. طاولتي دوماً أجدها فارغة، كأنها تترقّب وصولي. أظنها أكثر من يدافع عني في هذه البقعة. تحجز نفسها يومياً لي وتعرف أنني سآتي. أين سأذهب إن لم آتِ؟ تعرف أن سيدةً بقامة قصيرة ستصل مستعجلة، على كتفها اليمنى “لابتوب” وفي اليد اليسرى تحمل حقيبة صغيرة، وأحياناً كيس دواء، لأنني من الذين يمرضون دورياً.

يسألني النادل كل يوم: “متل العادة؟”. ويعرف أنني أجيبه ببلى. يحضر عصيري المفضّل وربما نرجيلة أدخّنها لسبب أجهله أحياناً، فيما أدركه تماماً في أحايين أخرى. يبتسم دوماً حين أصل. المهجّرون مثلنا، يبحثون عمّن يبتسم لهم. الموقتون مثلنا يبحثون عمّن يبتسم لهم كل يوم.

أصدقائي يعرفون أنهم سيجدونني هنا، ويسألون في كل مرة: “ألم تملّي بعد؟”. إنه بيتي، كيف يملّ الواحد من بيته؟

حين سافرت هذا الصيف، أكثر ما اشتقت إليه كان مقهاي أو كما أسمّيه “القهوة تبعي”.

كل يوم أسمع الأغاني ذاتها هنا، “بكرا لما بيرجعوا الخيالة” و”رجعت تسأل عني”، و”احكيلي عن بلدي”… حفظت الأسطوانة أغنية أغنية، وبالترتيب الصحيح، ولم أملّ. وغالباً ما أنهيها بـ”روح اسألن عاللي وليفو مش معو…”.

تقول الحكاية، إن سارتر وجماعته من الوجوديين كانوا يجلسون في مقهى “دي فلور” في حي سان جرمان، في حين بقي صمويل بيكيت يذهب إلى مقهى “كوبول” في مونبرناس، وكان يجلس في ركن معين، حتى آخر حياته. ويعرف مقهى “ديماغو” في حي سان جرمان أكبر الشعراء الفرنسيين: فيرلين، رامبو، مالرميه، فيما كان أندريه بروتون والسورياليون يتخذونه “موقعاً” لهم، ويقال إنهم أسسوا في ما بعد جائزة أدبية طليعية باسمه.

 قصة الناس مع المقاهي قديمة، وأظنني الآن أكتب قصتي. 

حين يأتيني حبٌّ ما، وغالباً ما يصلني الحب متأخراً في تشرين الأول/ أكتوبر، أكره أن يدخل مدار قهوتي. أخشى أن أضطر إلى هجرانها حين يهجرني. أريد أن يبقى مقهاي بلا ذكريات تثير الشجن.

قبل الآن، كان لي مقهى آخر ويوم صار موعداً لحب كتب له أن يندثر، لم أعد أزوره، وصرت كمن أضاع درب بيته، أبحث عن مكان آخر لأرتمي، أنا وهذا “اللابتوب” الثقيل وهذه الحقيبة وكيس الدواء اللعين. ليست المسألة بهذه البساطة. إنها قضية حقاً! أن تجد مكاناً ليصير بيتك، وأنت تحمل في قلبك جرحاً ما بندوب كثيرة. 

نحن الهاربين من أماكننا الأولى، نتحوّل إلى كائنات هشة، شديدة الحساسية وقد تتعلّق بأي شيء… حتى بابتسامة نادل.

كُتب هذا المقال في مقهاي كالكثير من المقالات الأخرى… سألني أحدهم الآن: “ألا تتعبين من الكتابة؟ ألا تتعب هذه الأصابع الرفيعة؟”. قلت له: “إذا تعِبَت… قد أشتري غيرها!”.

عن هورموناتكم أنتم الرجال!