fbpx

كيف استنزف التضخم مداخيل المصريين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الصدمة التضخمیة التي أنتجتها سیاسات الإصلاح الاقتصادي أدت إلى تآكل مداخیل قطاعات واسعة من المصریین فماذا تقول الأرقام؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الخبر الجید الذي جاءت به نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الأخیر في مصر، هو أن متوسط دخل الأسرة المصریة زاد في 2018-2017،ما نسبته 33.2 في المئة، مقارنة بـ2015، ولكن الخبر السيئ هو أن القیمة الحقیقیة لمداخيل المصریین في تلك الفترة تراجعت 18.9 في المئة.

ترقب كثیرون نتائج البحث الأخیر، باعتبارها أول مؤشرات تنشرها الدولة عن أحوال الفقر في مصر، بعد صدمة التضخم التي عاشوها خلال تطبیق برنامج اقتصادي موصى به من صندوق النقد. وقد أظهر البحث ارتفاع نسبة الواقعین تحت خط الفقر من السكان إلى 32.5 في المئة مقارنة بـ27.8 في المئة.

نجحت إصلاحات الصندوق في تعزیز النمو الاقتصادي، وزادت الرواتب خلال فترة الإصلاح، لكن أسراً كثيرة تشعر بأن الأموال بالتعبیر العامي الشائع أصبحت “مفیهاش بركة”.

بحسب بیانات البحث المشار إلیه، والذي یصدر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، فإن النسبة الأكبر من مصادر مداخيل المصریین تأتي من الأجور، فتلعب لتطورات علاقات العمل في فترة الإصلاح الاقتصادي دوراً رئیسياً في تحدید أثر هذه “الإصلاحات” اجتماعياً.

ویذكر بحث الدخل والإنفاق في هذا السیاق أنه عام 2017 كانت 41.8 في المئة من مصادر الدخول تأتي من الأجور والراوتب.

وقد تعرضت الأجور لصدمة التضخم الناتجة عن الإجراءات الاقتصادیة التي أوصى بها صندوق النقد في مصر، ودعم السلطات المصریة لتنفیذها من خلال اتفاق قرض بقیمة 12 ملیار دولار، تم إبرامه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 وامتد لثلاث سنوات تنتهي في العام الحالي.

إذا ما احتسبنا معدل التضخم في الفترة التي یرصدها بحث الدخل والإنفاق، تحدیداً بین كانون الأول/ دیسمبر 2015 الذي یمثل نهایة هذا العام، وتشرين الأول/ أكتوبر 2018 الذي یمثل نهایة عام 2017-2018 في حسابات هذا البحث، سنجد أن التضخم العام زاد 72.6 في المئة، وهو ما كان كفیلاً بالتهام الزیادة المحققة في المداخيل خلال هذه الفترة.

مع العلم أن متوسط دخل الأسرة المصریة ومعدل التضخم العام مؤشران لا یعبران بدقة عن أحوال المصریین، فالأكثر فقراً هم الأكثر إنفاقاً على الطعام والشراب، لذا یعبر التضخم في الرقم القیاسي لأسعار الطعام والشراب بشكل أكبر عن تآكل المداخيل الحقیقیة لهذه الفئة، وقد بلغ معدل التضخم للطعام والشراب في الفترة ذاتها 89.1 في المئة.

لماذا عجز المصریون عن رفع مداخيلهم بشكل یسایر التضخم؟ 

جزء من تفسیر هذه الظاهرة یعود إلى غلبة الرواتب والأجور على مصادر الدخل وطبیعة المهن متدنیة المردود، التي تمثل نسبة كبیرة للغایة من وظائف المصریین.

یخبرنا بحث الدخل والإنفاق أن النسبة الأكبر من الفقراء هم من الأمیین، ویمثلون 39.2 في المئة من إجمالي الرازحين تحت خط الفقر. أول ما یستنتجه المرء من هذا الرقم هو أن المصریين كسالى لا یریدون التعلم، لذا فهم مطرودون من سوق العمل وبطبیعة الحال یصبحون من الفقراء.

ولكن إذا نظرنا إلى بیانات البطالة في آخر ربع من العام المالي 2017-2018، سنجد أن الأمیين یحظون بأقل معدل للبطالة بلغ 1.3 في المئة، مقابل 23 في المئة بطالة لأعلى الدرجات التعلیمیة. یعكس ذلك طبیعة المهن متدنیة الأجر المنتشرة في الاقتصاد المصري، والتي لا یقبلها من أتموا تعلیمهم بسهولة، بمعنى آخر فإن الفقر في مصر یرتبط بالعمل، هذه الظاهرة التي أطلق علیها الخبراء توصیفworking poor.

 

شد الحزام لدى الطبقات الأدنى فهو رفاهیة غیر متاحة في الكثیر من الأحیان، اذ تركز تلك الطبقات نفقاتها على الاحتیاجات الأساسیة، لذا فتآكل مداخيل تلك الفئات یؤدي بها إلى عدم القدرة على تلبیة النفقات الضروریة

 

فئات تدّخر

في مقابل الفئات التي تعتمد على الأجور بشكل أساسي، هناك فئات محظوظة لدیها فوائض في مداخيلها، تسمح لها بالادخار في صورة ودائع مصرفية، وتتفاوت القدرة على الادخار بطبیعة الحال بین طبقة وأخرى. ووفقاً لبیانات جهاز الإحصاء، فإن المتوسط العام لمساهمة الممتلكات المالیة في دخل الأسرة المصریة یصل إلى 1.9 في المئة.

ویظهر من بیانات جهاز الإحصاء أن المداخيل الحقیقیة من الممتلكات (المالیة وغیر المالیة)، أي بالأسعار الثابتة، كانت ثاني أقل مصادر الدخل انخفاضاً في 2017-2018 مقارنة بـ2015، إذ تراجعت بنسبة 9.6 في المئة، بینما انخفضت المداخيل الحقیقیة من العمل 24.2 في المئة، وهو أعلى تراجع بین فئات الدخل المختلفة.

ولمن لم یتابع الحیاة الاقتصادیة في مصر منذ 2016، یمكن أن نوجز له ما حصل بالإشارة إلى أن صندوق النقد موّل برنامجاً للإصلاح الاقتصادي، كان یهدف إلى الحد من تدهور العجز المالي للموازنة المصریة وانهیار العملة المحلیة أمام الدولار.

وشملت الإجراءات التي دعمها الصندوق تخفیض قیمة الجنیه بقوة وزیادة ضرائب القیمة المضافة وأسعار البنود المختلفة لدعم الطاقة.

وأمام هذه الإجراءات التضخمیة، رفع البنك المركزي أسعار الفائدة على مراحل، بلغت في مجملها 7 في المئة. هذه القفزة الكبیرة زادت من العائد على الودائع، وساعدت أصحاب المدخرات على مواجهة زیادة وتیرة ارتفاع الأسعار. ولم یخفض المركزي حتى الآن الفائدة سوى 3 في المئة فقط.

وبنظرة سریعة على توزیع أولویات المصریین في النفقات الاستهلاكیة، نستطیع أن نرصد كیف أثر انكماش المداخيل الحقیقیة في نفقات ضروریة لمصلحة نفقات أكثر إلحاحاً.

فقد انخفض مستوى الإنفاق الاستهلاكي الفعلي للأسر عموماً، (بالأسعار الثابتة لعام 2015) خلال الفترة التي یرصدها بحث الدخل والإنفاق، وكان الانخفاض في الحضر أقوى من الریف، بنسبة 13.7 في المئة و5.1 في المئة، على التوالي.

لكن قیمة ما ینفقه الحضریون على الاستهلاك الفعلي أكبر بكثیر، فمتوسط الأسر الحضریة بلغ 36.9 ألف جنیه سنویاً، مقابل 29.9 ألف جنیه في الریف.

نستطیع أن نستنتج من ذلك أن الظروف الصعبة التي تلت الإجراءات التضخمیة (الإصلاحیة)، دفعت الأسر المصریة إلى إعادة ترتیب أولویات إنفاقها والتخلي عن النفقات التي یمكن الاستغناء عنها، فرشدت الأسر الحضریة إنفاقها، بینما لم تقدر الأسر الریفیة على ذلك بشكل كبیر، لأن نفقاتها المتواضعة تذهب إلى احتیاجات شدیدة الإلحاح في كثیر من الأحیان.

وبشكل أكثر تفصیلاً، فإن الطعام والشراب، وهما أكثر النفقات ضرورة، یستحوذان على النصیب الأكبر من نفقات الأسر الحضریة والریفیة في مصر، لكن الریفیين یوجهون نسبة أكبر من الحضر لهذا البند، یصل متوسطها بالأسعار الحالية إلى 40.2 في المئة من الإنفاق الكلي للأسرة. هذا الوضع یحد من قدرة هذه الأسر على الحد من نفقاتها في الأوقات الصعبة.

ویظهر من توزیع بنود الإنفاق الاستهلاكي الأخرى، أن الحضریين أقدر على توجیه نسبة أكبر من نفقاتهم إلى التعلیم، 5.6 في المئة مقابل 3.3 في المئة في الریف، وللاتصالات، 2.8 في المئة في الحضر مقابل 1.9 في المئة، والمواصلات، 6.7 في المئة للحضر مقابل 5.4 في المئة للریف. هذه الأنماط من الإنفاق تعزز قدرة الأسر الحضریة على رفع مهارات الفئات العاملة فیها والارتباط أكثر بسوق العمل وتحسين مدخولها في المستقبل، في المقابل نقص هذه النفقات في الریف یرشح المزید من الأسر للسقوط في الفقر.

وتبدو الأسر الریفیة متفوقة في الإنفاق على الخدمات والرعایة الصحیة، بنسبة 10.2 في المئة من مجمل النفقات مقابل 9.6 في المئة في الحضر، لكن هذا التفوق لا یعكس تحسناً في المداخيل، دفع الریفیین للاهتمام بصحتهم بالضرورة، فالبیانات التفصیلیة للإنفاق على الصحة تخبرنا أن نسبة النفقات الموجهة للمنتجات والأجهزة والمعدات الطبیة ارتفعت من مجمل نفقات الصحة إلى 55.5 في المئة في 2018-2017 مقابل 50.8 في المئة في 2015، وهو ما قد یعزى إلى زیادة أسعار تلك المنتجات بعد ارتفاع الدولار مقابل الجنیه.

أما عن التعلیم، فالبیانات التفصیلیة للإنفاق تذكر أن الأسر الحضریة التي لدیها أبناء في سن التعلیم تنفق في المتوسط 7189.1 جنیه في السنة على هذه الخدمة، مقابل 3698.1 جنیه في الریف، وهو تفاوت كبیر یعكس الفروق الكبیرة في الحظوظ في التعلیم.

وإذا ما نظرنا إلى توزیع النفقات بین الطبقات، سنرى بشكل واضح أیضاً كیف تركز الطبقات الأفقر على النفقات الضروریة، بینما تركز الطبقات الأغنى على النفقات ذات الطابع التنموي، وهو ما یجعل الفقر ینتج المزید من الإفقار، فيما الأغنیاء یحافظون على مواقعهم الطبقیة لأبنائهم.

فوفقاً للتوزیع النسبي لمتوسط نصیب الفرد من الإنفاق السنوي للأسرة في الشریحة الأدنى من الدخل، سنجد أن 49.8 في المئة من نصیبه من النفقات توجه للطعام والشراب في مقابل 25.9 في المئة للشریحة الأعلى.

بینما تمثل حصة نفقات الصحة 8.1 في المئة في الشریحة الأدنى و10.9 في المئة في الشریحة الأعلى، والتعلیم 2.6 في المئة مقابل 5.3 في المئة.

باختصار فإن الصدمة التضخمیة التي أنتجتها سیاسات الإصلاح الاقتصادي أدت إلى تآكل مداخیل قطاعات واسعة من المصریین، ما دفع أسراً كثيرة إلى ترشید نفقاتها، وبالنسبة إلى الطبقات الأعلى كان الترشید یعني الاستغناء عن النفقات الترفیّة.

أما شد الحزام لدى الطبقات الأدنى فهو رفاهیة غیر متاحة في الكثیر من الأحیان، اذ تركز تلك الطبقات نفقاتها على الاحتیاجات الأساسیة، لذا فتآكل مداخيل تلك الفئات یؤدي بها إلى عدم القدرة على تلبیة النفقات الضروریة، ومن ثم السقوط في الفقر، أو الاستغناء عن نفقات أساسیة ولكن لا تمثل مسألة حیاة أو موت مثل التعلیم، ومن ثم وَضْع أفراد جدد على طریق الفقر في المستقبل.

“حبر على ورق” : ملايين الأحكام القضائية بدون تنفيذ في مصر