fbpx

السوريون في مطارات العالم… عيونهم المثقلة تطاردنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تملكتني فكرة حزينة، مفادها أن عيني التقطت ذبذبات الحزن من عيون السوريين وبخاصة السوريات اللواتي التقيت بهن في مطاري بيروت وفرانكفورت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وصلت إلى مدينة بون الألمانية لأكتشف أن عيني اليمنى أصيبت بما نسميه بالعامية “شحاد”. فهي منتفخة تعاني من احمرار في الجفن وكانت تدمع بشكل صعب علي إقناع من يراني بأنني لم أمضِ ليلتي باكية. اشتريت دواء من صيدلية ألمانية وكنت متيقنة من أنه سيداويني كالسحر، فهو منتج ألماني أصلي. ولكن ثلاثة أيام من الاستعمال اليومي لم تغير شيئاً. تملكتني فكرة حزينة، مفادها أن عيني التقطت ذبذبات الحزن من عيون السوريين وبخاصة السوريات اللواتي التقيت بهن في مطاري بيروت وفرانكفورت ومحطة كولونيا للقطار.

يحتّم علي عملي أن أسافر أقله مرتين في الشهر إلى بلاد مختلفة. وفي السنوات الأخيرة، عنى لي ذلك شيئاً واحداً: أن ألتقيهم. عيون مثقلة وحزينة تخترق جداراً ظننته منيعاً، بنيته لأحمي نفسي من الإحساس بالعجز والمسؤولية. جملة مألوفة ولكن هذا هو فعلياً واقع الحال، حالي.

حزنهن يشبه ذلك الشراب كثير الغاز والذي يسبب حرقاً في الحنجرة قبل أن يستقرّ ألماً في المعدة. ومن دون أن تدري، تشعر ببحة في صوتك وبرغبة شديدة في النوم. أن تجد زاوية نظيفة وهادئة في المطار تتكوّر فيها على نفسك. تشدّ الغطاء نحوك وتنام. وقد تدندن أيضاً “نامي إذا يا روح… نامي الآن/ هي آخر الأحلام نطلقها على عجل ونمضي/ هي آخر الأيام نطويها ونرحل بسلام” (شارة مسلسل “أحلام كبيرة”-2004) وقد تترك أيضاً ورقة طالباً فيها إيقاظك عندما ينتهي كل شيء.

لا أتحدث في السياسة ولا العنف الممنهج ولا الدمار… أتحدث فقط عن دائرة ضيقة من الشخصي- الأناني. عن حزنهم وفرحهم بمعزل عن أي شيء… بمعزل عن كل شيء. أدرك أنه قد يقال عن هذه المقاربة انهزامية أو حتى تطبيعية ولكن لم يعد يهمني. ما يهمني من كل هذا هي هذه العيون المثقلة الحزينة التي أشعر بها تتمتم اعتذارات لا تنتهي. تعتذر عن عدم إلمامها بلغات أجنبية. تعتذر عن عدم معرفتها بإجراءات السفر. تعتذر عن كثرة حقائبها وأكياسها البلاستيكية. تعتذر عن عدد أطفالها وارتباكها وحتى ثيابها المجعلكة. أسمع صوتها الداخلي يخبر المحدقين أنها هناك في سوريا لم تكن لتخرج من منزلها قبل كي ثيابها وتحميم أطفالها بالصابون والمياه الساخنة. تتمتم اعتذارات تظهر على شكل ابتسامة خجولة. صادقة ولكنها خجولة. فماذا أفعل بتلك الابتسامات؟ أبادلها الابتسام طبعاً وبخجل أيضاً. ويصبح الوضع أكثر تعقيداً مع هذا التبادل. خلطة مشاعر تذكرني بهذا الإحساس الذي يستقر في الحنجرة والمعدة عندما أتنقل في ليالي عصيبة ما بين الملح والحلو. حالة من الابتسام الخجول المعلّق أحياناً بين اثنين كل ما يرغبان فيه هو أن يستلقيا في زاوية هادئة في المطار ريثما ينتهي كل شيء، فمن ينهيه؟

عالم المطار بالنسبة إلي هو عالم خال من فضاءي الزمان والمكان. عالم معلّق. أمليه بمشاهد أنسجها بأدوات وتقنيات بسيطة أرتشفتها من مسلسلات المخرج السوري حاتم علي والمسلسلات الأخيرة للمخرج رامي حنا وبعض المشاهد الناتفليكسية. أزرع ممثلين وأركب موقعاً وألعب بالإضاءة وأتحكم بالصوت. أجد نفسي في كثير من الأحيان أقتبس من مسلسلات سورية كبرت عليها مثل “الفصول الأربعة” و”أحلام كبيرة”. وقد أستعير أحياناً عين بيدرو ألمودوفار وإيقاع وودي آلين. وأحاول قدر المستطاع أن أبتعد من روايات موراكامي والتي إن لم تبدأ بالانتحار فهي غالباً ما ستنتهي به. ولكن للحظات الموت والدفن أستعيد مشاهد كثيرة آلفتها من روايات جبور الدويهي.

أتخيل نفسي أسيطر على جهاز التحكم بالنداء في المطار: حضرات السادة المسافرين، أهلاً بكم على خطوط التغريبة السورية وصوت فيروز في الخلفية، ليس بالضرورة حبّاً بفيروز ولكن لضرورات إخراجية، فمن غير السوريين أسمعنا فيروز صباحاً؟

في عالم الثياب والموضة، هناك بعض الموديلات التي لا قياس لها. أو العكس تماماً، فهي تجمع كل القياسات ويقال عنها “وان سايز” أي “قياس واحد للجميع”. وهكذا هو مشهدي اليوم، “وان سايز”.

في الإضاءة، سأحتاج إلى 5 أمبير. أضيء بها جهاز تلفزيون وضوءاً خافتاً لغرفة جلوس يطغى عليها اللون الأزرق. ولمبة أخرى في الممر الذي يصل غرفة النوم بغرفة الجلوس حيث تجلس سلمى ووالدتها تحيكان الصوف. نعم الصوف، فهذه موضة مستجدة في المدن الكبرى في أميركا وبخاصة المساحات الأكاديمية، وهو نشاط ينظر إليه على أنه يساعد في تحصين القدرة على الـMindfulness، أو ما أحب ترجمته على أنه التشبع من تأمل لحظات الحاضر البطيء. المهم، تجلس سلمى ووالدتها وتحيكان الصوف. والدها خرج للعب الطاولة مع أصدقائه. طنجرة ورق العنب على النار والجارة أحضرت بعض الرز بحليب منذ قليل… مشهد بطيء ورتيب بامتياز، تغيب الملامح عن وجوه ممثليه. أدرك غياب الأحداث اللافتة عن مشهدي.

أتخيل نفسي أسيطر على جهاز التحكم بالنداء في المطار: حضرات السادة المسافرين، أهلاً بكم على خطوط التغريبة السورية وصوت فيروز في الخلفية

حسناً ربما يمكن أن أرى أفراد العائلة تلك يتسمرون أمام شاشة تلفزيون ويشاهدون أحد المسلسلات عن تاريخ سوريا الاستعماري. يشربون الشاي وينتظرون اللاشيء… ما رأيكم بهذه الإضافة اللطيفة وغير المضرّة؟ مشهد لعائلة راضية ومستورة، ولا مانع من استعارة كلام نزيه أبو عفش، الذي يبدو أنه كان أكثر العارفين بمصيركم/ مصيرنا منذ عام 2004:

“كل  شي ضاق… ضاق حتى ضاع
نفذت أمانينا… نفذت مرامينا
أحلامنا نفذت… عصارة روحنا نفذت
نامي إذاً يا روح… نامي الآن
هي آخر الأحلامِ… نطلقها على عجلٍ ونمضي
هي آخر الأيام… نطويها ونرحل بسلام
نامي الآن يا روح… فقد نفذ الكلام“.

“هي آخر الأيام نطويها ونرحل بسلام”، يصدع مكبّر الصوت في المطار. فهل من يقنع الجميع بالسلام لنطوي الأيام ونرحل؟

المقاهي التي تصبح بيوتنا

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!