fbpx

هل اقتربت نهاية لبنان الذي نعرف

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ نشأته كبلد مستقل في 1943، ظهرت أطراف تعمل على تحويل لبنان إلى “ساحة” تُصرف فيها مشاكلها ونزاعاتها مع خصومها، فيما تتآكل الفوضى هذه الساحة. والأطراف هذه كانت تستفيد من التركيبة الطائفية للبلد والتي تُترجَم إضعافاً للإجماعات الوطنية، كما تستفيد من “رخاوة” النظام البرلماني الذي عكس واقع تلك التركيبة وعبر عنها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ نشأته كبلد مستقل في 1943، ظهرت أطراف تعمل على تحويل لبنان إلى “ساحة” تُصرف فيها مشاكلها ونزاعاتها مع خصومها، فيما تتآكل الفوضى هذه الساحة. والأطراف هذه كانت تستفيد من التركيبة الطائفية للبلد والتي تُترجَم إضعافاً للإجماعات الوطنية، كما تستفيد من “رخاوة” النظام البرلماني الذي عكس واقع تلك التركيبة وعبر عنها.
لكن المُلاحَظ أن القوى التي كانت تحاول الاستثمار في هشاشة الواقع اللبناني بهدف تحويله إلى “ساحة” كان يجمع بينها أنها راديكالية على نحو أو آخر. والمقصود هنا بالراديكالية أنها إما لا تنضبط بمعايير الحياة السياسية البرلمانية ولا تحترمها، أو أنها مناوئة للعلاقات الإيجابية مع البلدان الغربية التي يُعتبر لبنان تقليدياً صديقاً لها، أو الاثنين معاً.
هكذا ظهرت المحاولة الأولى في 1949، بُعيد الانقلاب العسكري الذي نفذه حسني الزعيم في سوريا، وكان الانقلاب الأول في بلده في حقبة ما بعد الجلاء الفرنسي عنه عام 1946. حينذاك دعم الزعيم محاولة انقلابية رعاها أنطون سعادة، مؤسس “الحزب السوري القومي الاجتماعي” المتأثر بالنموذج الفاشي في أوروبا الثلاثينات. لكن تحدياً أكبر تعرض له لبنان على يد الناصرية المصرية التي أقامت نظاماً ديكتاتورياً وأمنياً ما لبث أن تمدد إلى سوريا بعد وحدة البلدين وقيام “الجمهورية العربية المتحدة” في شباط (فبراير) 1958. وبالفعل ما لبثت أن اندلعت، بعد أشهر قليلة، حرب أهلية مصغرة في لبنان أدت إلى تدخل عسكري أميركي مباشر وإلى تسوية أميركية – مصرية نتج عنها انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. وبعد عقد، كان التحدي الثالث الذي فاق سابقيه حجماً وخطورة، وتمثل في ازدواجية السلطة بين الحكومة اللبنانية والمنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان، والتي ازدادت عدداً وقوة مع هزيمتها في الأردن في 1970-71، حين تحول لبنان مرتكزاً وحيداً لها. هكذا اندلعت حرب أخرى في 1973 بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية، قبل أن ينفجر الوضع برمته في حرب السنتين 1975-76. وبعد استخدام النظام الأمني السوري للمقاومة الفلسطينية، كي يصدع الوضع اللبناني ويقوي مواقعه في لبنان على حساب الطرفين، تولى هذا النظام المهمةَ بشكل مباشر وحصري في الثمانينات. ذاك أن المقاومة الفلسطينية كانت قد هُزمت على أيدي الإسرائيليين في 1982، ومن ثم شُتت عناصرها الذين استقرت قيادتهم في تونس. وكانت سوريا، من خلال حروب شنـتها على الفلسطينيين في طرابلس والبقاع، ثم في المخيمات في جنوب بيروت، قد ضمنت عدم عودة المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان، واحتكارها وحدها تمثيل القضية الفلسطينية واستخدامها في لبنان. لكن سوريا – الأسد رعت أيضاً، في الثمانينات، حروباً أخرى في بيروت وضاحيتها الجنوبية وجبل لبنان، سُحقت بنتيجتها كل إمكانية لقيام سلطة مركزية قوية في العاصمة. وفي التسعينات، وبالتشارك مع إيران من جهة والسعودية من جهة أخرى، حُكم لبنان بموجب التسوية التي صاغها اتفاق الطائف الموقع في 1989. بيد أن هذه التسوية ما لبثت أن انفجرت في 2005 مع اغتيال رفيق الحريري، القريب من السعودية والممثل لوجهة نظرها، فيما حامت الشكوك حول النظامين السوري والإيراني وتنظيم “حزب الله” المقرب منهما. ومذاك يعاني البلد صعوبة بناء حياة سياسية تُنتخَب، أو تعمل، السلطات الثلاث فيها بموجب ما هو مُفتَرض بتلك السلطات، وبحسب المهل الدستورية المقررة لاختيارها ولاشتغالها. وهذا فضلاً عن اضطراب العلاقات الطائفية التي انفجرت في 2008، وأوشكت على الانفجار في غير مرة.
واقع الحال أن الأزمة التي افتتحها العام 2005 كانت أكبر وأخطر من سابقاتها لسبب بسيط هو أنها لم تعد مضبوطة بمعايير الحرب الباردة كما كان الأمر سابقاً. وهذا التحول هو ما جسده بصورة خاصة تعاظم الدور الإيراني في المنطقة، لا سيما بعد حرب 2003 الأميركية في العراق ونجاح طهران في ملء الفراغات التي خلفتها السياسات، ثم الانسحابات، الأميركية بعد تحطيم السلطة المركزية والاستبدادية في بغداد.
على أن العدالة في توزيع المسؤوليات عما أصاب لبنان، في زمني الحرب الباردة وبعدها، تقتضي إضافة نقطتين:
الأولى، أن الأطراف الراديكالية الخارجية ما كان يسعها أن تفعل ما فعلته لولا وجود أدوات محلية لبنانية هي من ثمار الانقسام الأهلي – الطائفي المديد.
والثانية، أن إسرائيل لم تكن بريئة على امتداد تلك السنوات، إذ ارتكز سلوكها دوماً على دفع التناقضات اللبنانية إلى حد أقصى ومتفجر يستعصي على التحكم والسيطرة. يصح هذا في قصفها العشوائي للقرى الجنوبية، أواخر الستينات وأوائل السبعينات، رداً على عمليات المقاومة الفلسطينية، وهو ما ضخم حركة النزوح الجنوبي إلى بيروت، ثم في حربها الشرسة في 1982 وتناسُلها في مذبحة صبرا وشاتيلا المرعية إسرائيلياً وفي حرب الجبل المارونية – الدرزية.
لكنْ في الحالات جميعاً، كانت القوى الغربية (الولايات المتحدة + أوروبا الغربية) ومعها القوى العربية المحافظة القريبة منها عنصر نزع للتوتر يمنع لبنان من أن يكون “ساحة”. يندرج في هذه الخانة عدد من التدخلات والوساطات تمتد من الدور الأميركي في 1958 حتى مؤتمر الدوحة للمصالحة الوطنية في 2008، وبينهما تقع أدوار كمهمة المبعوث الأميركي فيليب حبيب في 1982 واتفاق الطائف في 1989. وكان ما يحفز هذه الوجهة أن القوى المذكورة لا تريد إحداث إخلال كبير في الوضع اللبناني القائم يتأدى عنه تجذيرٌ يصعب ضبطه كما يصعب الحد من نطاقه الجغرافي. كذلك كان لبنان يهم القوى المذكورة بوصفه موقعاً اقتصادياً وسيطاً (وإن شهد العقدان الأخيران تراجعاً في أداء هذه الوظيفة) ومنصة إعلامية.
لكن هذا ما بدأ يتغير في الآونة الأخيرة. ففي مقابل الوجهة التراكمية للنزاعات بعد انتهاء الحرب الباردة، ولا سيما مع نشوب الثورات العربية وتحولها إلى حروب أهلية – إقليمية، حصل مُستجدان:
من جهة، عزوف الرئيس الأميركي باراك أوباما عن أي تدخل فاعل في المنطقة، ثم وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، مع ما انطوى عليه هذا التطور الأخير من تراجع في الاهتمام الأميركي بالسياسة الخارجية كما بمسائل حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وتعزيزها، في موازاة ميل طاغٍ (ولو أنه لا يزال لفظياً إلى حد بعيد) إلى اعتماد سياسات صقرية ومتطرفة يُرجح أنها لا تعبأ بالمواقع الوسيطة بين واشنطن وخصومها، كحال لبنان، وبتعقيدات أوضاعها وهشاشتها. أما بعض النوايا المختلفة التي يعبر عنها، بين وقت وآخر، وزير الخارجية ركس تيلرسون فيصعب البناء عليها بوصفها خطاً معارضاً لخط الرئيس ترامب المختلط والمشوش.
ومن جهة أخرى، وهذا أشد تأثيراً، تسمية الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد السعودي. ففضلاً عن سياسات توصف بالتطرف في الداخل، وعن الحرب مع اليمن والنزاع مع قطر، جاءت تجربة استقالة سعد الحريري من الرياض (وما سبقها ورافقها وتلاها) لتدل إلى نهج مختلف عن النهج السعودي التقليدي في التعاطي مع لبنان، نهجٍ يضع اللبنانيين أمام خيارات بالغة الحدة والصعوبة.
هذان المستجدان، الأميركي والسعودي، لا يشكلان مجرد انكفاء عن سياسات امتصاص النزاع والبحث عن تسويات تجنب لبنان التحول إلى “ساحة”، بل هما إضافتان جديتان إلى فكرة “الساحة” نفسها. فاليوم، وللمرة الأولى، تتحول القوى المحافظة تقليدياً (أميركا والسعودية) إلى قوى راديكالية بطريقتها، ويجد لبنان نفسه بين قوى متخاصمة إلا أنها متفقة على تحويله “ساحة”. فإذا قررت إسرائيل أن تشق طريقاً خاصة بها، تكون عسكرية بالضرورة، إلى قلب هذه “الساحة” المفتوحة، اكتملت شروط القضاء على التجربة اللبنانية وعلى الحلم (وربما الوهم) في استنقاذ مشروع وطني للبنان.
والحال أن الاتحاد الأوروبي هو اليوم الطرف الوحيد الذي يجد أسباباً موضوعية لرفض هذا الاحتمال الكبير، وأغلب الظن أن الدور الأخير الذي لعبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في موضوع الحريري والسعودية تعبير عن ذلك. ويجد الموقف الأوروبي هذا ما يعززه في الخوف من تدفق المزيد من النازحين، السوريين وغير السوريين، على بلدان القارة المجاورة في حال انفجار الوضع اللبناني. لكن أوروبا أضعف كثيراً من أن تقاوم اتجاهات طاغية كهذه، اتجاهات لن يقود تفعيلها إلا إلى نهاية لبنان.